اعتمد الروس فى سيطرتهم على القرم على أسطولهم البحرى الأقوى فى البحر الأسود عندما رفع الروس غطاء الدعم عن أوكرانيا فى ما مضى سقطت الحكومة ولم يستطِع الغرب المُثقَل بالمشكلات تقديم العون أعَدَّ الروس مسرح عملياتهم فى القرم بخُطَّة مُحكَمة منذ فترة طويلة وحققوا سيطرة يصعب التغلُّب عليها عسكريًّا تصاعدت وتيرة الأحداث فى أوكرانيا بشكل غير مسبوق، وتضاعفت حدة الموقف فى شبه جزيرة القرم، ذات الأغلبية السكانية من أصول روسية، وأخذ تطور الأوضاع هناك تحديدا منحنى نحو الانفصال، ما لم تحدث معجزة سياسية خارقة تؤدى إلى التهدئة، فقد بدأت عناصر القوات المسلحة الأوكرانية ذات الأصول الروسية فى التمرد الصريح، وانحازوا إلى جانب اللجان الشعبية، فى حين تتم محاصرة وحدات الجيش الأوكرانى غير الموالية ونزع أسلحتها، كما أن المطار الرئيسى فى شبه الجزيرة قد تم تطويقه بقوات عسكرية مجهولة الهوية، وأعلنت إدارة المطار فى سيمفيروبل إغلاق المجال الجوى فوقه، مؤكدة أن المطار فى حالة فنية كاملة الصلاحية.
وفى هذا الإطار أشار وزير الداخلية الأوكرانى أن المطار تعرض إلى زحف من قوات روسية نظامية، وكان مسلحون ملثمون قد استولوا على مقر البرلمان، ورفعوا عليه العلم الروسى الذى رفع أيضًا فوق أماكن كثيرة أخرى، بينما تتعرض مناطق شرق أوكرانيا لاشتباكات مسلحة بين مناوئين ومويدين للحكومة الجديدة، وبالتوازى لما يحدث على الأرض بدأت القنوات الرئاسية والدبلوماسية فى الغرب مشاورات محمومة لمواجهة الأزمة المحتدمة، فالاتصالات بين الرئيس الأمريكى أوباما مع نظرائه فى الاتحاد الأوروبى وكندا لا تنقطع، بينما انعقد حلف الناتو لبحث الأزمة فى شبه جزيرة القرم، بعد أن كانت الولاياتالمتحدة قد دعت فى جلسة طارئة لمجلس الأمن إلى إرسال مراقبين دوليين إلى أوكرانيا، علما أن اتصالا هاتفيا مطولا بين كل من الرئيس الأمريكى أوباما والرئيس الروسى بوتين استمر لمدة 90 دقيقة، لم يسفر فى حلحلة الموقف، ولم يفلح الرئيس الأمريكى فى الخروج بأى نتيجة إيجابية عندما حضَّ نظيره الروسى على سحب قواته من شبه جزيرة القرم.
الدب الروسى يحكم قبضته على القرم واقعيًّا أصبحت شبه جزيرة القرم تحت السيطرة -ودون مبالغة- الكاملة للقوات الروسية والأغلبية السكانية ذات الأصول الروسية، وأن الحكومة المركزية الأوكرانية فى كييف أصبحت منزوعة السلطات فى القرم.
وهنا يمكن وصف الأزمة الحالية بأنها إعادة إنتاج معكوسة لأزمة خليج الخنازير فى كوبا عام 1962 التى انتهت بانتصار الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقيام الروس بسحب صواريخهم النووية متوسطة المدى فى كوبا، فاليوم نجحت القوات الروسية فى السيطرة على القرم، وانتصرت موسكو انتصارًا أقوى، ففى عام 62 سحبت أمريكا صواريخها التى تهدد الاتحاد السوفييتى من تركيا وإيطاليا مقابل خروج السوفييت من كوبا، لكن اليوم حققت روسيا مكسبا أقوى على الأرض، لن تفرط فيه، لأن الشروط الموضوعية تجعل الكفة تميل بقوة إلى صالح الروس، بسبب التركيبة السكانية والتماس المباشر للحدود مع القرم، أى أن الأزمة القديمة انتهت بسحب صواريخ تهدد أمريكا، مقابل سحب صواريخ تهدد السوفييت، لكن فى هذه المرة فرضت روسيا سيطرتها على أرض يمكن وصفها ب«Buffer state» أو فى هذه الحالة إقليم عازل يفصل بين أوروبا وروسيا، ويبعد عنها شبح التهديدات الملاصقة لحدودها.
أهمية القرم لروسيا يرابط الأسطول الروسى الرئيسى فى البحر الأسود فى قاعدة كبيرة فى مدينة سيفاستوبول التى اعتبرها المسؤولون الروس -فى تصريحات حاسمة أخيرا- موطنا لهذا الأسطول لا مجرد قاعدة عسكرية، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتى تولى موسكو أهمية قصوى لهذه الأرض، وإذا كانت روسيا لم تتمكن من أن تفرض سيطرتها على شبه الجزيرة عندما أعلن برلمان القرم الاستقلال عن أوكرانيا عام 1992، وأذعنت وقتها وهى فى أسوأ حالات الضعف لإرادة الغرب فى إلحاق هذه المنطقة الحساسة لأوكرانيا، وتسوية النزاع بموجب اتفاق منح القرم حكما ذاتيا فإنها الآن -مع اعتدال ميزان القوى مرة أخرى- أطبقت على هذا الإقليم الصغير الذى يشكل مجالا حيويا استراتيجيا للأساطيل الروسية نحو المياه الدافئة جنوبا، حيث البحر الأبيض المتوسط، الذى كان حلف الناتو يسعى لأن يحوله إلى بحيرة مغلقة لقواته، لولا الموقف الروسى الحاد فى الأزمة السورية، والتمسك بآخر قاعدة بحرية فى ميناء طرطوس، وما تلى ذلك من تقارب روسى مع مصر ودول الخليج، بعد انكشاف الموقف الأمريكى المتجاهل لمصالح هذه الدول.
ومن الواضح أن متخذ القرار فى الاتحاد الروسى يدرك جيدًا أنه لا الاتحاد الأوروبى المثقل بالمشكلات ولا الولاياتالمتحدة التى لم تخرج بعد من أزمة خسائرها فى حربى العراق وأفغانستان، يمكن لهما تشكيل موقف ضاغط يهدد موسكو التى استعادت الكثير من عافيتها القديمة فى العهد الإمبراطورى السوفييتى السابق، كما لا يمكن لهما تقديم الدعم المالى والاقتصادى اللازم، بما يمكن القوميين الأوكرانيين الموالين للغرب من الصمود والمناورة للحفاظ على تماسك الدولة، وإذا كانت موسكو جادة فى تأمين الممرات البحرية إلى المياه الدافئة فإنها ترفض أيضًا بالمثل أن تطأ أقدام قوات الغرب عند انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو حدودها المباشرة غرب روسيا من قوات أو صواريخ أو رادارات وأجهزة رصد واستطلاع وتنصت فى هذه المنطقة الحيوية لمصالحها الاستراتيجية وقدرتها على الحركة والإبحار.
هل تكون القرم نقطة انفراط؟ أشارت الخارجية الروسية إلى أن موافقة مجلس الاتحاد الروسى على السماح للرئيس بوتين باستخدام القوات المسلحة فى شبه جزيرة القرم لا يعنى إرسال القوات إلى هناك على الفور، وهو تصريح يحمل فى طياته مناورة سياسية ذكية لرفع الحرج شكليًّا عن الغرب فى ما يخص الأزمة، بعد أن أصبحت هذه المنطقة تحت السيطرة الكاملة لموسكو، إلى أن يتم فى المستقبل القريب إجراء استفتاء ينزع شبه الجزيرة عن أوكرانيا واستقلالها، توطئة لانضمامها إلى روسيا التى فرضت بالأمر بالواقع طوال سنوات من العمل الدؤوب نفوذها من خلال قواتها الموجودة هناك وغالبية السكان الذين ينتمون إليها ثقافة وجنسية أيضًا.
وهنا يبرز إلى مقدمة الأحداث تساؤل عن الوضع الأوكرانى ما بعد انفصال القرم. الإجابة تفرضها هنا العوامل الخارجية لمقدمات الأوضاع المحيطة بهذه الدولة التى يتنازع الغرب وروسيا عليها، وقد بدا هذا واضحًا تمامًا بلا لبس فى المعركة الكلامية التى دارت فى ميونيخ مع احتدام أزمة أوكرانيا الأخيرة بين كل من وزيرى خارجية روسياوأمريكا حينما تبادلا الاتهامات بشأن كييف، وأعقب ملاسنة وزيرى الخارجية تصريح عنيف من سيرجى جلازييف، مستشار الرئيس الروسى، الذى اتهم الولاياتالمتحدة بتدريب متمردين أوكرانيين داخل حرم سفارتها فى العاصمة الأوكرانية، مهددًا بتدخل بلاده بسبب انتهاك أمريكا للمعاهدة التى أبرمتها واشنطنوموسكو عام 1994، لضمان أمن أوكرانيا وسلامتها بعد تخلى كييف عن ترسانتها النووية.
والمراقب لتطور الأحداث يكتشف محاولة الغرب لاستخدام القوة الناعمة فى تغيير الأوضاع، بينما يتسم موقف موسكو بنبرة تحدٍّ صارمة وواثقة، ولأن موسكو تملك من عناصر القوة أكثر مما يملك الغرب، وللتدليل على ذلك أنه فى عهد الرئيس الأوكرانى السابق فيكتور يوشتشينكو، الذى أتى فى أعقاب الثورة البرتقالية عندما طلبت أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو ردت روسيا على الفور برفع دعمها عن الغاز المباع بسعر 65 دولارا للطن، وطالبت بسعر السوق العالمية الذى يبلغ 265 دولارا للطن، فجاعت أوكرانيا وعزلت تيموشنكو، بينما لم يبادر الغرب المنهك اقتصاديًّا بتقديم العون المادى اللازم إلى كييف، لكل هذا سوف يؤدى الوضع الحالى، بعد سقوط القرم، إلى انتقال موجة الانفصال إلى المناطق الشرقية المتاخمة لروسيا التى سوف تجد دعمًا اقتصاديًّا سخيًّا من موسكو لا يمكن الحصول عليه لا عاجلاً أو آجلاً من الغرب، علمًا أن هذه المناطق تملك من مقومات الازدهار أكثر مما يتوفر لغرب أوكرانيا الذى يعتبر عالة عليها، لأنها تمتلك المناجم والغاز والتصنيع دون إغفال الرابطة الثقافية والولاءات العميقة لأغلبية السكان من الأصول الروسية فى هذه المناطق.
خطة روسية محكمة فرض الروس سيطرة محكمة على شبه جزيرة القرم بالاستغلال البارع للجغرافيا والتاريخ والقوة العسكرية الصلبة، باستخدام استراتيجية اعتمدت على التدريج والاستغلال السريع والفورى للفرصة السانحة، وتمثّلت فى الآتى:
أولًا: عسكريًّا، اعتمد الروس على أن أسطولهم البحرى هو الأقوى فى البحر الأسود حيث تتوفر لهم سيادة فى هذا البحر المغلق والقاعدة الرئيسية لهذا الأسطول فى ميناء سيفاستبول، وهذا يمكّن مشاة البحرية من تحقيق الانتشار عند الضرورة على الأرض فى المناطق ذات الأهمية الخاصة، وهذا هو ما تم عند الاستيلاء على مطار سيمفربول الرئيسى باستخدام هذه المشاة التى لم تحتل المطار مباشرة، لكنها أحاطت به وعزلته، ليصبح تحت السيطرة وبإدارة موالية ليكون جاهزًا لاستقبال القوات الإضافية إذا تصاعد الموقف على الأرض من أى جانب داخلى أو خارجى، وهكذا أصبح مسرح العمليات مؤمّنًا بالقوات والاستعداد اللوجيستى لمزيد من الدعم والمساندة لأراضى القرم التى لا تربطها حدود برية مع روسيا مع صعوبة تدخّل أى قوات تتحرّك على خط الأزمة.
ثانيًا: سياسيًا، عمل الروس طوال السنوات الماضية على استثمار الروابط التاريخية مع غالبية السكان فى هذه المنطقة، والذين ينحدرون من أصول روسية، ويحمل كثير منهم هذه الجنسية، واستغلت الأجهزة السياسية والمخابراتية هذا الوضع فى دعم الولاءات وزرع العناصر الموالية فى المواقع المؤثّرة والحساسة، لبناء أرضية سياسية تجعل عملية الانسلاخ ذات طابع يعبّر عن إرادة شعبية.