سيدخل الرئيس مبارك التاريخ. إن لم يكن ذلك عن أشياء كثيرة فسيكون عن مقولته الأخيرة. سأله الصحفي الألماني في مؤتمر صحفي مع «بيرلسكوني» عن نيته للترشح للرئاسة. أجاب الرئيس مبارك مبتسماً: الله وحده الذي يعلم. الصحفي أعاد السؤال بطريقة أخري : مَنْ تفضل لخلافتك ؟ والرئيس كانت إجابته مذهلة : «مَنْ يعلم..مَنْ يعلم؟.. الله وحده يعلم من يكون خليفتي» مبارك نظر إلي السماء وهو يكمل الإجابة: «أُفضل من يفضله الله». هذا أول حوار مباشر عن طريقة تفكير الرئيس مبارك في عملية انتقال السلطة. الرئيس يفكر في التغيير بمنطق «الاختيار الإلهي». ورغم أنه من الناحية العلمية، الله لا يختار الرؤساء، فإن ما يقوله الرئيس يعني واحداً من ثلاثة معاني: الأولي: إن الرئيس مؤمن بأن الرئاسة قدر لا يملك أن يغيره إلا الله. والثانية: إنه اقترب من الفكرة التي يؤمن بها المغرمون بالدولة الدينية الذين يرون الحاكم وكيل الله، أو أن الله الذي يختار الحاكم، فمن يغير إرادة الله. والثالثة: إن الرئيس مبارك وصل بعد 30 سنة من الحكم إلي يقين بأن هناك إرادة عليا تختار الرئيس، وأنه ينتظر الوحي من السماء ليقرر اسم خليفته. المعاني الثلاثة تدور كلها حول حقيقة واحدة : إلغاء السياسة. الرئيس بدا في هذه الكلمات العابرة أقرب إلي توضيح عقلية النظام كله. النظام رغم كل الكلام الفخيم عن الديمقراطية أو الإصلاح السياسي، مؤمن بالرئيس مبعوث العناية الإلهية، أو نصف الإله، ولهذا فإن الحديث عن انتخابات يعني بالنسبة لكهنة النظام، نوعاً من الكفر الواضح والصريح، بقوانين الاختيار الإلهي. الله اختار لنا الرئيس مبارك، وعلينا أن نرضي بقدر الله، وسيختار لنا خليفته، وعلينا أيضاً أن نرضي به. هذا هو الإيمان الحقيقي الذي يجعل الرئيس «قوة عليا» مقدسة، وليس مجرد شخص يختاره الشعب، ويمكن أن يغيره. وهذا ما يجعل الدولة في مصر تعيش تحت الوصاية. الرئيس كان في حالة صفاء ذهني رهيبة، وهو يكشف عن عمق تفكير النظام في عملية التغيير. وربما تكون هذه عواطف عادية بالنسبة للعابر من أزمة مرض حادة، ويشعر بامتنان للسماء، وأهمية لمساندة القوة الإلهية له.. ولكن الكلمات التي تسربت أقوي دلالة بكثير.. إنها رسالة إلي الشعب. الرئيس يقول للشعب: لا شأن لكم بالسياسة والانتخابات..الله هو الذي يختار الرئيس ومن حوله.. إن علي الشعب العودة إلي البيت والنوم في أمان، وليترك عملية الاختيار الإلهي تأخذ مجراها. الرئيس مبارك يري علماً من علوم الغيب. وهذا ليس غريباً في قلب الصراع الدائر الآن بين النظام والمجتمع. النظام ليس لديه ما يقنع الناس إلا أنه قدر إلهي. والمجتمع يريد التخلص من الوصاية وتسييس عملية انتخاب الرئيس وإبعادها عن الأقدار والاختيارات الإلهية. يريد النظام عودة القداسة للرئيس. ويسعي المجتمع إلي أن يكون الرئيس شخصاً مختاراً بإرادة الشعب.. بحيث تنتهي مهامه ووظائفه بانتهاء مدة الحكم، وليس بتدخل العناية الإلهية. الله لا يختار الرؤساء.. حقيقة مازالت غائبة في مصر. وهذه كوميديا سوداء فعلاً. ... عطلتني عبارات الرئيس عن متابعة أزمة معهد السينما والحديث عن سمير زاهر وسياسة التضليل و... حكايات أخري.