الآثار السلبية في سورية بعد نحو عامين على انطلاق الحراك الشعبي وتحوله حربا بين المعارضة والنظام لا تقتصر على الشهداء والجرحى، والدمار الذي حل بالبنية التحتية والمجتمعية في بلد ضُرب فيه المثل في التعايش بين الإثنيات والطوائف. فسورية التي كانت رقما صعبا في معادلات المنطقة بامتلاكها أوراق قوة في الجوار الإقليمي، أصبحت ساحة لحرب بالوكالة، ولقمة سائغة تحارب الأطراف الإقليمية للسيطرة عليها. ومما لا شك فيه أن إسرائيل أكثر الإطراف استفادة مما يجري في سورية، وفيما يغض معظم مؤيدي ومعارضي النظام السوري النظر عن هذه الحقيقة، يركز كل طرف على الدورين التركي والإيراني في الأزمة مما يزيد من حالة الاستقطاب الطائفي في المنطقة، وينذر بحرب أكبر وأوسع سوف تجني ثمارها إسرائيل مرة أخرى. ولا يسعى العرب إلى إيجاد حلول تمنع الاقتتال والتفتت عن بلد طالما وصفوها بقلب العروبة النابض. أنصار النظام السوري يتلقفون كل تصريح أو خطوة تركية على أنها محاولة لبعث الامبراطورية العثمانية، وعلى العكس يراقب معارضو النظام تصريحات الجانب الإيراني.
منذ أيام أطلق رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان تصريحات عقب تفجير على الحدود السورية التركية بأن هذه الحدود "رسمت بالمسطرة منذ 100 عام، في شكل قسم المدن والبلدات السورية"، مؤيدو النظام فسروا التصريحات كتأكيد على المطامع التركية في حلب ومناطق شمال سورية، وأن تركيا مازالت تنظر إلى سورية في إطار ولايات "شام شريف" العثمانية التي يديرها الباب العالي من اسطنبول. معارضو النظام بدورهم تلقفوا تصريحات رجل الدين الإيراني مهدي طائب المقرب من المرشد الأعلى للثورة. رئيس مركز "عمّار الاستراتيجي" لمكافحة الحرب الناعمة ضد الجمهورية الإسلامية قال إن "سورية هي المحافظة الخامسة والثلاثون، وتعدّ محافظة استراتيجية بالنسبة لنا، وإذا حاربنا الأعداء لاحتلال سورية أو خوزستان (الأحواز) فالأولى بنا أن نحتفظ بسورية". واضاف طائب "لو احتفظنا بسورية سوف نتمكن من من استعادة خوزستان، ولكن لو خسرنا سورية حينها لن نتمكن من الاحتفاظ بطهران".
تصريحات المسؤول الديني الإيراني لا تتضمن جديدا، وتنسجم مع السياسة الإيرانية المعلنة. فقيادات طهران الدينية والسياسية أكدت وقوفها مع النظام في سورية، فسقوط سورية يعني ضياع الاستثمارات الإيرانية في سورية منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولهذا فهي تزيد من تعاونها العسكري والأمني والاستراتيجي، وربما أراد رجل الدين التأكيد على أن إيران سوف تواصل دعم نظام الرئيس الأسد حتى لو فقدت 90 في المئة من ثرواتها النفطية.
التعاون الإقليمي مع الجوار رغم الاختلافات
ولعل المؤسف أن تصريحات الطرفين الإيراني والتركي تنهي حقبة مهمة من محاولات التعاون الإقليمي البناء والمتوازن بين البلدان العربية ودول الإقليم المهمة. ففي الأعوام الخمسة الأخيرة ساد اعتقاد بأن علاقات سورية مع تركيا تنمو باضطراد لتشكل نموذجا لعلاقات المستقبل مع الجوار. وبعدها بدأ تطور العلاقات ينحو باتجاه تطوير حلف استراتيجي يضم سورية والعراق وتركيا وإيران. وكان الاتفاق على تشكيل سوق مفتوحة مشتركة قاب قوسين أو أدنى، وعطلته اتهامات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لسورية بتفجيرات إرهابية في بغداد ومدن عراقية عقب ايام معدودة من توقيعه أكثر من عشرين اتفاقية للتعاون الاستراتيجي مع سورية في أغسطس/آب 2009.
العلاقات السورية التركية سارت وفق منحى جديد عقب توقيع اتفاق أضنة في العام 1998، وأعطى صعود الرئيس بشار الأسد إلى الحكم دفعة جديدة للعلاقات والبناء على أسس جديدة تتجاوز المحددات السابقة وهي معادلة حزب العمال الكردستاني مقابل الإخوان المسلمين، وقضية اقتطاع لواء اسكندرون، إضافة إلى مسائل توزيع مياه نهري دجلة والفرات. وسعت سورية إلى أن تلعب دورا كبيرا في خلق شراكة استراتيجية نموذجية تجمع الشعوب العربية مع تركيا وإيران وتوجد نوعا من التوازن المطلوب لعلاقات تصب في مصلحة شعوب المنطقة.
ورغم التطور الكبير في العلاقات مع تركيا، وبروز خلافات حول الدور السوري في العراق، فإن دمشق حافظت على علاقاتها مع إيران، ولم يتوقف التعاون الاقتصادي والسياسي، وباءت كل الجهود والاغراءات لفض التحالف بين نظام الرئيس الأسد وحكام طهران بالفشل، وسعى الأسد الابن إلى المحافظة على التوازن الصعب الذي أتقنه والده بالمحافظة على علاقات جيدة مع دول الخليج، دون الإضرار بعلاقاته مع إيران ما بعد الثورة الإسلامية في العام 1979. وتواصل الاستثمار الإيراني في العلاقات مع دمشق، وتعدى ذلك إلى بناء محور يمتد إلى لبنان يدعمه حزب الله وكيلا حصريا للمقاومة والممانعة، بالإضافة إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.
تباين المواقف بعد الثورات العربية
التغيرات الدرامية في علاقات سورية مع تركيا وإيران حدثت بعد أشهر من اندلاع الاحتجاجات. فأنقرة بسياستها البراغماتية دعمت بعد تردد الثورات في تونس ومصر، ومن ثم ليبيا رغم عسكرة الصراع، لكنها اتخذت موقفا مغايرا في سورية نظرا لأنها تملك أكبر حدود برية معها وعلاقات تاريخية وإنسانية تعبر الحدود. ففي البداية سعت القيادة التركية إلى استخدام علاقاتها المميزة مع الرئيس الأسد، ودعته إلى الشروع باصلاحات جذرية. لكن منتصف العام 2011 شهد نهاية شهر العسل في العلاقات التركية السورية بعد زيارة وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، وبدء تشكيل مؤتمرات المعارضة بغض نظر رسمي في البداية تطور لاحقا إلى رعاية تشكيل المجلس الوطني السوري أكبر الحركات المعارضة بهيمنة واضحة من تيار الإخوان المسلمين.
الموقف الإيراني كان واضحا منذ البداية باعتبار أن ما يجري في سورية مؤامرة كونية تستهدف كسر "ضلع" المقاومة السوري، وان الحراك السوري لا يمت للربيع العربي أو "الصحوة الإسلامية بأي صلة. وكررت إيران دعمها للنظام سياسيا واقتصاديا في أكثر من مناسبة وشددت على أنها لن تسمح بسقوط نظام الرئيس الأسد، وأقر أكثر من مسؤول بوجود مستشارين عسكريين للمساعدة. وساندت طهران الخطوات الإصلاحية للنظام، ودعت إلى الحوار مع المعارضة "الوطنية" ونظمت أكثر من مؤتمر للمعارضين السوريين من الداخل.
المطلوب مشروع عربي
الأوضاع في سورية تشجع الأطراف الإقليمية لزيادة نفوذها، وهي حالة طبيعية في السياسة. لكن المؤسف تحولها إلى ورقة بعدما كانت لاعبا أساسيا في الإقليم، ويكمن الخطر الأكبر في زيادة حدة الاستقطاب بين المسلمين شيعة وسنة، يخسر فيها الجميع وتربح إسرائيل. وإذا كان لزاما على تركيا وإيران الكف عن التدخل في الشؤون السورية، وعدم النظر إليها كولاية عثمانية، أو المحافظة الخامسة والثلاثين بل كدولة مستقلة ذات سيادة؛ فإن العرب مطالبون بدعم سورية ومساعدتها على الخروج من محنتها، وصوغ علاقات متوازنة مع تركيا وإيران انطلاقا من حقائق الجغرافية السياسية والتاريخ والمصالح المشتركة، وبناء عوامل قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية لدعم المشروع العربي المشترك القادر على الوقوف في وجه مطامع الآخرين، وإلا فإن دولا عربيا كثيرة سوف تصبح عمليا ضمن عداد المحافظات الإيرانية، أو هدفا لأحلام إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية، أو تحت الاحتلال العسكري أو الاقتصادي الإسرائيلي.