اسمحوا لي أن أقص عليكم قصة.. في الغابة، كان الأسد يحكم وكان النمر مساعده ووزيره.. أما الثعلب فكان يقود المعارضة التي تنادي بعدالة توزيع حصيلة رحلات الصيد.. ذات يوم فوجئ الثعلب بالنمر يهاجمه ويضربه صائحا به "ماشي حافي ليه في الغابة؟!" اندهش الثعلب من موقف النمر فتوجه للأسد شاكيا.. استدعى الأسد النمر على انفراد وسأله عن سبب تصرفه فأجابه هذا: "هذا الثعلب يؤلب علينا الحيوانات وكان لا بد من تأديبه وردعه بأية وسيلة"، فقال الأسد": عليك إذن أن تبحث عن ذريعة مناسبة.. فلتقل له إننا نقلناه من العمل بالصيد إلى العمل بجمع الثمار.. ولإثبات كفاءته وجدية موقفه، فإن عليه أن يحضر كل يوم عشرين تفاحة.. فإن أحضر تفاحا أحمر ضربناه وقلنا إننا كنا نقصد الأخضر.. وإن أحضره أخضر ضربناه وقلنا إننا طلبنا الأحمر.. وهكذا حتى يظهر أمام الحيوانات في موضع الخائب بالعمل الذي يداري بالمعارضة فشله وخيبته". جمع النمر الحيوانات أمام بيت الأسد الذي خرج وقال للثعلب: "قد علمنا شكواك ورأينا حفاظا على السلام العام أن ننقلك للعمل بجمع الثمار.. وستشرف بنفسك على توزيعها بعدالة.. ولكن عليك أن تحضر لنا -بدءا من اليوم- عشرين تفاحة.. لتثبت لزملائك أنك عامل كفء وأن مصلحة الغابة هي غايتك.. وإلا فإن مصداقيتك ستكون موضع شك". ابتسم النمر في ظفر وخبث بينما أطرق الثعلب هنيهة.. ثم رفع رأسه قائلا للأسد: "تحت أمرك يا سيدي أنت وسيدي النمر.. لكن هلا أخبرتماني مسبقا هل تريدان تفاحا أخضر أم أحمر؟". بُهِت الأسد بينما قفز النمر من مكانه وانهال ضربا على الثعلب صارخا بجنون: "يا ابن ال(...)! طيب تعالى هنا! ماشي حافي ليه في الغابة؟!". هذه بالضبط حال العمال المضطهدين مع السلطة.. يُنتقص من حقوقهم.. فيهب بعضهم ممارسا حقه القانوني في توعية رفاقه بحقوقهم ومطالبا أصحاب القرار بما منعوا.. فيتجاهلونه.. حتى إذا صعّد من معارضته بإضراب أو اعتصام فوجئ بهراوات الأمن تهوي عليه وأيديهم الثقيلة تتقاذفه إلى عربة الترحيلات وجسده المنهك يتلقى صفعات المرح الأمني، ثم يمثل في النهاية أمام القضاء باتهامات لا علاقة لها بقضيته التي خرج لأجلها من نوعية "تكدير السلم العام- قطع الطريق- تعطيل العمل- التعدي على الممتلكات- مقاومة السلطات.. إلخ".. وبدلا عن أن يركز على قضيته الأساسية يجد نفسه مربوطا في ساقية الاتهامات سالفة الذكر وتبرئة نفسه وزملاءه منها.. مع الأسف هذا ما جرى مؤخرا للمعتصمين من عمال شركة أسمنت بورتلاند بالإسكندرية، حيث داهمتهم قوات الأمن المركزي وأشبعتهم سحلا وضربا، بل واقتحمت على بعضهم مسجد الشركة بالكلاب البوليسية، واقتادت أكثر من 80 عاملا لمديرية الأمن، ثم أطلقت سراح بعضهم وأبقت لديها 28 عاملا - بعضهم مصاب بعنف- تحقق معهم النيابة في مقر المديرية (ما هو غير قانوني بالمرة!) فضلا عن إصدار أوامر ضبط وإحضار بحق14 آخرين.. قِس على ذلك التعامل المعتاد مع إضرابات وتحركات العمال، دائما يوجد ذلك الحل الأمني بدلا من أن يحاول أصحاب القرار التعامل مباشرة مع المشكلة نفسها.. وقبله توجد مرحلة "التسكين" بوعود وتسويفات غالبا لا تُنفّذ أو تُنفّذ منها القشور لا بغرض حل المشكلة بل لغرض إظهار هؤلاء المعترضين مظهر من لا يعجبهم العجب من يريدون أن يعيشوا "تنابلة". صحيح أن بعض هؤلاء المضربين والمعتصمين قد تصدر عنه أفعال منافية تماما للقانون كاحتجاز المديرين أو تكسير بعض الواجهات الزجاجية أو قطع الطرق.. ولكن أي حكومة لديها ولو قدر بسيط من الفهم والوعي والعقلانية، تدرك أن تلك الأفعال هي مجرد عرض للمشكلة وليست لُب المشكلة ذاتها.. تلك المشكلة هي الإحساس بالظلم، فالظلم نفسه لا يكفي وقوعه ليثور المرء بل يتطلب الأمر أن يحس به.. فلا مبرر منطقي لأن "نشبط" في بعض مظاهر غضب العمال ونتجاهل مسببات الغضب.. وقد نختلف أو نتفق في عدالة مطالب هؤلاء العمال -أي عمال- أو مبالغتهم فيها، ولكن دعونا نتفق أن أسلوب "القبضة الأمنية" و"المتاهة والإلهاء القضائيين بقضايا جانبية"، ليسا مما يمكن اعتباره حلولا حكيمة للأزمة.. إن تكرار تلك الأحداث في أكثر من مكان وأكثر من قطاع يعني أن النظام الحالي قد ورث نفس أسلوب النظام السابق في التفاعل مع هكذا مشكلات.. وهو أسلوب لا يضر ب"عجلة الانتاج" التي أشبعنا النظام وموالوه بكاء عليها فحسب بل يمتد ليضر ب"عقلية التعامل مع الأزمات" في ثقافة المصريين، فضلا عن أنه يظهر أصحاب القرار مظهر العاجزين عن تقديم الحجج والبراهين الكافية لإقناع أصحاب الإضرابات والاعتصامات بالموقف الرسمي أو حتى بإقناعنا معشر المتابعين للأحداث بعدالة هذا الموقف الرسمي، فالعنف هو دوما حجة البليد الخائب، و"التلكيك" بقائمة الاتهامات الجاهزة لأي عامل يقود تحركا عماليا ضد الظلم هو حجة لا تقل بلادة وخيبة. هل مللتم عبارة "وكأن ثورة لم تقم"؟ للأسف الممل منها يعني تكرارها بشكل يفيد غالبا صحتها بالنسبة إلى أصحاب السلطة والقرار وأسلوبهم الذي هو امتداد لأسلوب نظام مبارك في ظلم العامل وإشباعه تجاهلا وتسويفا حتى إذا سأموا غضبه ومعارضته ضربوه صارخين باستنكار "ماشي حافي ليه في الغابة!". (تم)