ماذا تفعل حينما تتصاعد نغمة جوالك، وتجد شاشتك تحمل عبارة "رقم مجهول" بدلا من رقم المتصل، وبعد أن ترد تجد صوتا غليظا، يستخدم صاحبه برنامجا لتغيير الأصوات، ويعرف عنك كل شيء ويُهدّدك ويستغلّ نقاط ضعفك ليُجبرك على فعل أشياء أنت لا تُؤمِن بها ولا تريد فعلها؟ هذه ببساطة قصة مسلسل "رقم مجهول" الذي يُعرض حاليا خلال شهر رمضان، ويلعب بطولته النجم يوسف الشريف والفنان الكبير محمود الجندي وشيري عادل. إذا كنت ممن شاهدوا الحلقة الأولى، فلا ريب أنك لا تزال تشاهد بقية الحلقات بشغف شديد؛ محاولا معرفة إجابة السؤال الذي تدور حوله كل الأحداث: مَن هو صاحب الرقم المجهول الذي قلب حياة "علي كمال" المحامي رأسا على عقب؟ يضعنا المسلسل أمام حالة فنية متكاملة، تتضافر فيها عناصر العمل من سيناريو وحوار وتصوير ومونتاج وإضاءة وديكور وموسيقى وماكياج وتمثيل، مغلفين بإخراج متميّز للمخرج أحمد جلال الذي عرفناه جميعا عبر عدة أعمال سينمائية ناجحة؛ منها "واحد من الناس" لكريم عبد العزيز و"1000 مبروك" لأحمد حلمي... وغيرهما. بدايةً.. فإن المسلسل يُعدّ من الأعمال القليلة المعروضة في رمضان التي لا تستخدم أغنية في تتر البداية أو تتر النهاية، بل تعتمد على مقطوعة موسيقية متميّزة وضعها الفنان عمرو إسماعيل، نجحت في أن تصوّر حالة الترقّب والتشويق والغموض التي تحيط بالأحداث، وتسيطر على مشاعر شخصيات العمل، وكان اختيارا موفّقا أن تكون نغمة الهاتف المحمول للمحامي "علي" هي نفسها مقطوعة المسلسل، وهو ما جعل وجود انعكاس شرطي لدى المشاهد؛ حيث يعرف بمجرّد سماعها أن هناك أحداثا رهيبة سوف تقع. استخدام المسلسل لطريقة سرد ملخّص أحداث الحلقة السابقة قبل بداية الحلقة الحالية، هو تكنيك نفتقده في المسلسلات العربية، ومنتشر بكثرة في المسلسلات الأجنبية، لذلك بدا مبتكرا، وصار المتابع للأحداث ينتظر هذا الملخّص كي يتذكّر الحلقة السابقة، بل ويمكن لنا استنتاج ظهور بعض الشخصيات خلال الحلقة رغم اختفائهم لعدد من الحلقات، ما دام أن الملخص قد أتى ببعض من مشاهدهم السابقة. لعبت الإضاءة أيضا دورا كبيرا في إضفاء حالة من الغموض، كما جاءت موازية لخط الأحداث بصريا، في الوقت الذي ساعدها الديكور المتميّز على إبراز الصورة في أبهى شكل؛ سواء داخل فيلا المحامي "علي"، أو في مكتب أ. "ياسين بدوي" المحامي الكبير الذي يُعدّ مكتبه هو المسرح الأكبر للأحداث، وجاء الماكياج متقنا فيوحي للمشاهد بحقيقة ما يحدث أمامه؛ خصوصا "علي" الذي يظهر كمن استيقظ لتوّه من النوم فعلا لحظة الاستيقاظ. كل هذه الأدوات ساندها أساس العمل، السيناريو المتماسك الدقيق، والحوار غير المفتعل والمعبّر عن حالة كل شخصية للسيناريست عمرو سمير عاطف الذي يعرفه الجمهور من خلال مسلسل السيت كوم "تامر وشوقية"؛ حيث كان مشرفا على ورشة عمل كتابته، وأيضا من خلال فيلم "ولاد العم" لكريم عبد العزيز. السيناريو مرسوم بدقة شديدة وبحث أدق؛ فأخرج كل شخصيات العمل دقيقة في ردود أفعالها وطريقة حوارها، كما أن كل شخصيات العمل تقريبا متشابكة العلاقات مع بعضها البعض، وهو ما يعني أن المؤلف بذل مجهودا كبيرا حتى لا تكون هناك ثغرة في هذه الشبكة المتسعة طولا وعرضا. وحافظ المؤلف من خلال السيناريو على الإيقاع السريع للأحداث، وهو ما يميّز هذا العمل بشدة، وجعل الحلقات تخرج بشكل رشيق غير مترهل، ولم يضِع الكثير من الوقت في حوارات ممطوطة لتعويض الفقر في الأحداث، بل جاءت الأحداث غنية بما يكفي كي يعود الحوار لمكانه وتوقيته الطبيعي. أما التمثيل، فقد كان يوسف الشريف في أفضل حالاته الفنية من خلال أدائه لدور المحامي "علي كمال" الذي انقلبت حياته رأسا على عقب؛ بسبب مكالمات الشخص المجهول الذي يُهدّده ويُورّطه في الجرائم واحدة تلو الأخرى باستمتاع شديد؛ فاستطاع أن ينقل حالة الهلع والرعب التي تجتاحه كلما ارتفعت نغمة هاتفه، وبدا أنه لا ينام بالفعل من القلق والتفكير، حتى صار مرهقا من تتبّع آثار ذلك المتصل الغامض. كما تميّز الممثل الشاب رامز أمير بشدة في دور المحامي حديث التخرّج "تيسير"، والذي يُعاني صعوبة في النطق، ومما لا شك فيه أن هذا الدور سيكون بوابته لأعمال أخرى بعدما أظهر قدرة كبيرة على تقمّص هذه الشخصية. وفي نفس الخط تميّزت النجمة الشابة ريهام حجاج في دور المحامية حديثة التخرّج "غادة" الهوجاء وذات الشخصية الطفولية المدللة، والتي تقتحم العمل فلا تشعر أنها مقحمة في الأحداث، بل تماشت مع الطاقم رغم ظهورها بعد مرور أكثر من 10 حلقات تقريبا، واستطاعت هي ورامز أمير أن يكونا "دويتو" رائعا يقتنص الضحكات من قلوب المشاهدين مع الكثير من التعاطف معهما. كذلك تنجح شيري عادل في دور "دينا" زوجة "علي" وأم الطفلة "حبيبة" التي تظلّ لوقت طويل لا تعرف ما الذي حلّ بزوجها، واستطاعت أن تنقل مشاعر القلق والخوف بملامحها بشكل متقن للغاية. كما يضمّ المسلسل الفنان الكبير محمود الجندي الذي أضاف الكثير للعمل بخبرته الفنية في دور المحامي الكبير "ياسين بدوي" صاحب مكتب المحاماة وزوج أم "دينا" زوجة "علي"، والذي يعاملها كأب حقيقي تماما. المسلسل نجح في أن يجذبني لمشاهدته في سابقة لم تحدث منذ فترة طويلة مع المسلسلات العربية، لِمَا فيه من سيناريو يحترم عقلية المشاهد، وحلقات عمل عليها فريق العمل بجدية تامة حتى ظهرت بتلك الصورة البديعة التي جاءت بنكهة هوليوودية قلما تواجدت في الدراما العربية. بَقِي فقط أن أسألك -إن كنت من المتابعين لهذا العمل الجميل- هل عرفت مَن هو صاحب الرقم المجهول؟ فكّر بسرعة يا عزيزي لأنني عرفته بالفعل، لكنني لن أحرقه عليك، وسأتركك تتابع ما بَقِي من هذا العمل الفريد من نوعه في الدراما المصرية، وثقْ أنك ستستمتع به لأقصى حد.