كانت الوحوش المعدنية الأمريكية -بما عليها وفيها من وحوش آدمية- قد وجّهت مدافع نيرانها لسيارة أبي سعيد واتخذت وضع الاستعداد لإطلاق النار مباشرة.. ولكن د.تودينهوفر لم ينبطح في قاع السيارة ولا جمّده الذهول, بل سارع بإخراج الكاميرا الخاصة به وبدأ في تصوير المشهد المريع وسط توسلات أبي سعيد له أن يخفي الكاميرا؛ إذ إن الأمريكيين معروفون برد الفعل العدائي جدًا تجاه تصويرهم، خاصة في مثل ذلك الموقف الذي يتناقض مع دعايتهم القائلة إنهم إنما جاءوا للعراق لأجل إقرار الأمن به! بعد لحظات من الرعب مرّت بطيئة عليهم، تحرك الرتل الأمريكي متجاوزًا سيارتهم، وهنا أوضح أبو سعيد لصديقه الألماني أن ما حدث إنما هو التصرف المعتاد من القوات الأمريكية تجاه أية سيارة تمر بهم، مع وجود تعليمات صارمة بأن يحافظ أي سائق مدني على مسافة 150 مترًا بين سيارته والسيارات العسكرية وألا يقود على الطريق المقابل بسرعة تزيد على سرعة المدرعات أو الدبابات وإلا كان التعامل المباشر معه بإطلاق النار فورًا عليه، حتى لو كان -وغالبًا ما يحدث هذا- لا يقصد شرًا أو تجاوز تلك القاعدة سهوًا. هنا فهم د.يورجين سر تناثر السيارات المدنية المحترقة على جانبي الطريق إلى مدينة "الرمادي". شهادة أبي سعيد "نحن جميعًا أعضاء في المقاومة، كلٌّ على حسب طريقته" هكذا أجاب أبو سعيد سؤال صديقه عن علاقته بالمقاومة العراقية. قال له كذلك إن سبعين بالمائة من الشعب العراقي يتعاونون -بشكل أو بآخر- مع المقاومة، وهنا كان أبو سعيد يتحدث عن المقاومة الشعبية الشرعية، لا من يتمسح بها من جماعات مسلحة كتنظيم القاعدة أو ميليشيات السياسيين الشيعة.تحدث أبو سعيد أيضًا عن مسألة "شيعة - سُنة" التي تُثار كثيرًا فيما يخص الشأن العراقي قائلاً إنها مؤامرة أمريكية بريطانية، فالعراقيون بمذاهبهم المختلفة لم يكونوا يفكرون من قبل في تلك الأمور التي يعتبرونها جانبية. ولأنه مدرس سابق للتاريخ، فقد تحدث أبو سعيد بلغة الواثق من معلوماته قائلاً إن السُنة والشيعة طالما حاربوا جنبًا إلى جنب وعانوا معًا ويلات المحن وظلم الحكام، حتى أن حرب العراق وإيران كان الشيعة العراقيون يحاربون فيها عدوهم الإيراني وهم واقفون كتفًا إلى كتف مع إخوانهم السُنة، وحتى ذلك التمرد الذي شهده جنوب العراق ذو الأغلبية الشيعية سنة 1991 لم يكن -كما صوره الإعلام- تمردًا شيعيًا ضد الحكم السُني، بل كان -على حد قوله- مؤامرة مشتركة بين أمريكا وإيران لإضعاف نظام صدام حسين. لم يستثنِ أبو سعيد الأكراد من حديثه، فأكد أن أغلبهم كذلك يشعرون أنهم عراقيون قبل أن يكونوا أكرادًا، وكثير منهم يعارض جهود بعض القيادات الكردية لشق الصف العراقي بذلك التعصب العرقي. أما عن العنف الطائفي في العراق فقد فسره أبو سعيد بأنه مؤامرة كبرى تشترك بها أطراف عدة، إذ إن أغلب من يقومون بأعمال انتحارية وتفجيرية بشكل عام ضد المدنيين هم -وفق تقرير Newsweek online- أجانب جاءوا من خارج العراق، وهم إما سنيون مدعومون من "القاعدة" أو شيعة مأجورون من إيران، أو عملاء يعملون لحساب الاحتلال، بحيث يمارس الإرهابي السُني العنف ضد الشيعة وأماكنهم المقدسة، ويستهدف زميله الشيعي تجمعات السُنة ومساجدهم، ويضرب المأجور هذا وذاك، ليبدو العراق في النهاية أنه بؤرة العنف التي لا حل لها إلا بقاء الاحتلال وعملائه للقيام بمهمتهم "النبيلة" لوقف العنف! اعترف د.تودينهوفر أنه في البداية نظر لذلك الكلام باعتباره جزءًا من نظرية المؤامرة التي يعتنقها العرب فيما يتعلق بالدور الغربي في بلادهم، إلا أن صديقه العراقي المثقف أقنعه بأن قدم له المقالات والتقارير الصحفية التي تناولت تلك المسألة كأدلة لإثبات صحة كلامه، مدعمة بالأرقام والإحصائيات، واختتم حديثه في تلك النقطة سائلاً البروفيسور الألماني بمرارة: "لماذا تسمحون للدعاية الأمريكية أن تضللكم وتغرر بكم؟" وبمرارة أكبر أضاف أن الإرهابي الشهير أبومصعب الزرقاوي -الأردني الجنسية- كان يقتل العراقيين بالذات، فلماذا لم يقل أحد كلمة واحدة عن أنه ليس مواطنًا عراقيًا؟ طرد تنظيم القاعدة من مدينة الرمادي هنا انتقل أبو سعيد لقصة مثيرة وهي قصة طرد أهالي الرمادي لتنظيم القاعدة من مدينتهم. فرغم رفض أهل المدينة جميعًا للوجود الأمريكي، قرّر زعماء بعض قبائلهم أن يعقدوا هدنة مع القوات الأمريكية، وكان السبب في تلك المبادرة ما بلغهم من قرار تنظيم القاعدة في العراق اتخاذ المدينة عاصمة له. إيقاف إطلاق النار جعل الأمريكيين يتفرغون لمطاردة عناصر القاعدة الذين كانوا ينوون الاعتماد على تعاون أهل المدينة معهم سواء بالإخفاء في المنازل أو التزويد بالمؤن، ولكنهم فوجئوا بقرار جماعي صارم -شديد الثبات- من سكان الرمادي ألا يفتح أحدهم بيته لأحد رجال القاعدة، ولا يقدم لهم أي نوع من العون مهما كان بسيطًا، وهكذا أدركت القاعدة أنه لا مكان لها في الرمادي ورحل آخر عناصرها الأجانب عن المدينة في ربيع 2007. الإعلام الأمريكي حاول استغلال ذلك النصر العراقي لصالحه بأن أخذ في تضخيم حجم دور القوات الأمريكية في الأمر، ونسب ذلك النجاح لهم من خلال ادّعاء وقوع معارك ضارية أدى فيها الجنود الأمريكيون دورًا بطوليًا فذًا وهم يُسقِطون عناصر القاعدة قتلى! تعاون سكان الرمادي وتضامنهم في طرد القاعدة يعتبر -على حد قول أبي سعيد- دليلاً أن العراق لا يحتاج للوجود الأجنبي لحفظ الأمن به، وأن القول بأن خروج القوات الأمريكية منه سيدخله في حرب أهلية هو قول كاذب تمامًا بدليل أن السكان المدنيين البسطاء لمدينة عادية جدًا استطاعوا ببعض التعاون والجهد هزيمة أكبر تنظيم إرهابي في المنطقة.مما يعني أن السلام ليس بذلك البعد عن العراق إذا تحرر يومًا. شهادة أخرى ويعود أبو سعيد -الذي فقد ما يزيد على خمسين فردًا من أقاربه في هجمات ومداهمات أمريكية- للحديث عن آلام العراق المحتل، ويتحدث بالأرقام الصادمة التي تقول إن قرابة الأربعين ألف عراقي محجوزون في السجون الأمريكية، وإن ثمانين ألفًا آخرين في سجون الحكومة العراقية المتعاونة مع الأمريكيين، في أوضاع لا إنسانية حيث تضم -أحيانًا- زنزانة مساحتها 200 متر أكثر من مائة وثمانين فردًا، ومن لا يستريح إليه رجال الاحتلال يسلمونه لرجال الداخلية العراقية التي تقوم بتعذيبه ثم بإعدامه، ويُعثَر على جثته بعد فترة ملقاة على ضفاف نهر دجلة، أو أطراف بغداد أو أماكن تجميع القمامة! فضلاً عن أعمال التعذيب الجنسي بإجبار السجينات على مشاهدة اغتصاب السجناء الرجال وإجبار السجناء على رؤية نسائهم يُغتَصَبْن، إلى آخر تلك البشاعات التي لا ينسى أبو سعيد أن يقرنها بقول المراقب الأعلى للسجون الأمريكية -جنرال جيفري ميلر: "يجب أن يُعامَل السجناء العراقيون معاملة الكلاب ولا يُسمَح لهم على الإطلاق بالاعتقاد أنهم أفضل من ذلك!". هنا يعلق د.يورجين تودينهوفر: "إن ساسة الغرب أبطال من نوع خاص، فهم يعترضون في موسكو والصين على انتهاك حقوق الإنسان، بينما تنعقد وتنخرس ألسنتهم في واشنطن". يخرج الجميع من حوارهم وأفكارهم على وصولهم لنقطة تفتيش عراقية، حيث يفاجأ د.تودينهوفر بشرطي عراقي مقنّع يحاول -بكل بساطة- شراءه من مضيفه العراقي ليقوم -الشرطي- بمساومة الحكومة الألمانية على استلامه مقابل فدية! لكن أبا سعيد تجاوز الموقف وانطلقت السيارة في طريقها لتدخل مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار، ووجهة د.يورجين. زَيْد كان أبو سعيد قد حدّث ضيفه الألماني عن زَيد -ابن أخيه- ذلك الشاب حديث السن الذي انضم للمقاومة العراقية. كان زيد قد كُلِّف من قِبَل قائده بالقيام بزرع عبوة ناسفة -تُفَجَّر عن بُعد- في أحد الشوارع الرئيسية حيث كانت ستمر مصفحة أمريكية. زرع الفتى المتفجرات، واستعدّ للقيام بمهمته، ولكن فاجأه رجل عجوز جلس منهكًا فوق حجر على جانب الطريق الملغّم! أخذ الفتى ينتظر أن يقوم الرجل إلا أنه بقي في مكانه، وعندما وصلت المصفحة -الهدف- سالت دموع الشاب وأخذ يرتعد وهو يعلم أنه يجب أن يضغط زر التفجير، إلا أنه لم يستطع، فتراجع عن مهمته وعاد لمقر المقاومة وسلم قادته جهاز التفجير، ففوجئ بهم يحتضنونه بحرارة ويهنئونه بفرحة شديدة على مروءته التي أبت عليه أن يؤذي مدنيًا واحدًا، وأكد له الجميع أنهم لو كانوا في موضعه لفعلوا مثله، وأن ما قام به هو عين الصواب.. كانت هذه بداية اهتمام د.يورجين ب"زيد" بالذات، كرمز لكل من قابلهم بعد ذلك من شباب المقاومة.. وبقي يتحرق شوقًا لمقابلة ذلك الشاب والاستماع لقصته كاملة.. لم يطل الانتظار، ففي حديقة منزل أبي سعيد تجمعت عائلته لترحب بالضيف، وجلس الجميع يتبادلون الحديث بينما قام الصغار مع الشباب وانهمكوا في لعب الكرة. لفت نظر البروفيسور الألماني شابًا وسيمًا طويل القامة كان يُري عليا -ابن أبي سعيد- حركة بارعة بالكُرة.. سأل د.يورجين مضيفه عن ذلك الشاب.. فابتسم وأجابه بهدوء: "هذا زَيد.. ابن أخي".. (يُتبَع)