فيلم The Lovely Bones كان بمثابة خسارة كبيرة لشركة الإنتاج التي أصدرته؛ فالفيلم الذي تكلّف الكثير من الأموال، هذا إلى جانب دعاية مكثّفة خلال فترة الأوسكار على أمل أن يحصد أي من الجوائز المختلفة، لم يستطِع أن يُحقق مبيعات تغطي تكاليفه في شباك التذاكر الأمريكي، كما أن بطله الممثل "ستانلي توتشي" لم يحز على جائزة الأوسكار بعد أن تم ترشيحه لجائزة أفضل ممثل مساعد. لاحظ طبعًا أن "توتشي" كان يُواجه منافسة عارمة من الممثل "كريستوف والتز"، والذي انتزع الجائزة عن دوره المتميّز في فيلم "Inglourios Basterds".
لاحظ معي بالطبع أن تجارة الأفلام الهوليودية هي التجارة الوحيدة التي لا يُمكن الخسارة بها؛ حيث إن الفيلم الذي لم يُحقق مبيعات جيدة في شباك التذاكر الأمريكي لا يزال أمامه مجموعة من الأسواق المختلفة التي سيحقق المبيعات عبرها؛ أولها: السوق العالمي ومبيعات التذاكر في جميع أنحاء العالم، وثانيها: مبيعات الفيلم وتأجيره على "الدي في دي"، ومن بعدها مبيعاته للمحطات الفضائية الخاصة؛ مثل: أوربيت، والشو تايم وغيرهما، وفي النهاية مبيعاته لمحطات التلفاز المجانية.
لهذا لا يُمكن لفيلم أن يخسر حقًا الكثير من المال، كل فيلم على الأقل سيُحقق على الأقل ما يُغطي تكاليفه ولو بعد حين، ولكن شركات الاستديو تُفكّر دائمًا بشكل مختلف؛ فهي تريد للفيلم أن يُحقق مكاسبه خلال العام الاقتصادي الذي يتم إطلاقه به، فلماذا تقوم الاستديوهات بتمويل فيلم سيُحقق أرباحًا بعد عامين أو ثلاثة إن كان من الممكن تمويل فيلم سيحقق مبيعات فورية؟
كانت شركة الإنتاج تفاضل بين إطلاق فيلم "The Lovely Bones" وفيلم "Shutter Island" للممثل "ليوناردو دي كابريو"، ولكن الشركة قررت أن تطلق الفيلم الأول في فترة الأوسكار، تاركة الثاني لما بعد الأوسكار، وقاضية على فرصه في الفوز بجوائز أوسكار، ويبدو أن ذلك القرار كان قرارًا أحمقًا بالفعل؛ ففيلم "Shutter Island" حقق مبيعات ممتازة أثناء عرضه، كما أثار زوبعة من الإعجاب بتمثيل "ليوناردو دي كابريو" وإجادته لأداء الشخصية الرئيسية فيه.
كنت متحمسًا لمُشاهَدة فيلم "The Lovely Bones"، وذلك لحماسي للمخرج "بيتر جاكسون"، خصوصًا وأنني من عشاق ثلاثيةLord of the Rings، وأؤمن بأن "جاكسون" من أقوى المخرجين في الوقت الحالي، ولكن الفيلم أثار خيبة أملي بشدة عند مشاهدته.
والفيلم يحكي لنا عن فتاة مراهقة تُدعَى "سوزي سالمون" (تمامًا كسمك السالمون)، تحب عائلتها الهادئة، وتعشق الزهور الحمراء، وتراعي حبًا وليدًا لفتى يُدعَى "راي" في المدرسة.
ولكن "سوزي سالمون" ستموت بعد أيام قليلة ميتة شنيعة، فجارها "جورج هارفي" يُلاحقها بنظراته، ويُتابع تحرّكاتها، ويبني لها منزلاً تحت الأرض، يستعد لاختطافها إليه؛ حيث سيغتصب براءتها هناك، قبل أن يقتلها.
وبعد أن تموت "سوزي" تكتشف أن حياتها لم تنتهِ بَعد، بل هي على وشك البدء بالفعل، فهي هناك عالقة بين الأرض والسماء في عالَم مجهول لها؛ عالم تموت فيه الحيتان على أطراف الشطآن لو حزنت هي، وتنبت أزهار الليلك على المرج لو ابتسمت للحظة، وتغرق سماؤه بالأمطار لو دمعت إحدى عينيها، في ذلك العالم تستطيع "سوزي" أن ترى عائلتها وتتابع حياتهم من بعدها، تستطيع أن تُدرك أنهم يعانون من فقدانها، وتحاول جاهدة أن تمد يد المساعدة إليهم.
الفيلم مقتبس عن كتاب يحمل نفس الاسم صدر عام 2002، وتلقّى الكِتاب الكثير من النقد الإيجابي عند إصداره، وكما لاحظت معي، قصة الكتاب متميّزة وجديدة وغير مطروقة، فلماذا لم يستطِع "بيتر جاكسون" أن يُقدّم الفيلم بجودة الكتاب نفسها؟ هذا سؤال مهم بالفعل، ولكن إجابته تأتي في كلمة واحدة فقط: السيناريو. سيناريو الفيلم، والذي عمل عليه "جاكسون" بنفسه هو وزوجته، غيّر من معالم الكتاب إلى أقصى الدرجات، غيّر من مقاييس الكتاب ومن مختلف زوايا تقديم قصته، "جاكسون" كان مهتمًا برسم عالم ما بعد الحياة في الكتاب، فقضى وقته في الفيلم يرسم أشجار تنبت وتموت، ويخلق بيوتًا صغيرة ثم يُدمّرها، ونسي الدراما الحقيقية التي تتابعها القصة، نسي أن يُركّز على قصة ما بعد وفاة "سوزي" والتي تحكيها "سوزي". الأمر كمن يُركّز على رسم الكرسي الذي يجلس عليه الراوي بدلاً من أن يحكي لنا ما يقوله الراوي بالفعل.
المقاطع التي تدور في عالم ما بعد الحياة في الكتاب رائعة الجمال، لافتة للأنظار وشديدة الشاعرية، ولكننا ندخل الفيلم لنتابع قصة حياة وشخصيات تتطوّر وتتلاحم وتنفصل، لا لنشاهد أزهاراً تفتح وتغلق بشكل شاعري، هنا كانت غلطة "بيتر جاكسون" التي لم يستطِع النقاد ولا الجمهور مسامحته عليها.
الفيلم تلقّى الكثير من النقد السلبي من ناحية تغيير معالم الكتاب بشكل كامل، ولف حبكة قصة عائلة "سوزي" بعد وفاتها حول عالم ما بعد الحياة، بدلاً من رسم عالم ما بعد الحياة حول قصة عائلة "سوزي"، النقاد لم يُعجبهم أيضًا اهتمام "جاكسون" بكل التفاصيل الدقيقة في المؤثرات البصرية والصوتية، تاركًا التمثيل ليكون أمرًا جانبيًا، فكل من مارك والبيرج وريتشيل ويز قد قدما قبل ذلك أدوارًا أفضل بكثير وأظهرا مجهودًا أوضح في أفلام سابقة، فلماذا لم يقُم المخرج باستغلالهما بشكل كافٍ في الفيلم؟!!
لعل الممثلة الوحيدة التي تستحق التقدير هي الممثلة "ساوريز رونان"، والتي قامت بدور "سوزي سالمون"؛ حيث نجحت في نقل مختلف المشاعر والأحاسيس الخاصة بفتاة مراهقة، ونجحت في استكمال تلك المشاعر حتى في مواقف لا يمكن تخيّلها، مثل تعبيرات وجهها إذ تشاهد عالم ما بعد الحياة ذاك، أو حتى صوتها إذ تحكي تفاصيل قصتها للجمهور وتتلو ما حدث لها وما يحدث لعائلتها أمام عينيها.
"ساوريز" تم اختيارها لبطولة الفيلم؛ لأنها لم تكن ممثلة معروفة من قبل، ولكن الحظ لم يحالف المخرج "بيتر جاكسون" أيضًا في هذا الأمر، حيث تم ترشيح "ساوريز" لجائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن فيلم Atonement بعد أسابيع من موافقتها على بطولة فيلم The Lovely "Bones.
في النهاية، فيلم The Lovely Bones هو محاولة غير ناجحة لتقديم فيلم أسطوري الجمال، الكثير من معايير الفيلم واجهت مشاكل أدّت إلى فشل هذا الفيلم، ولكن لو دققت البصر ستجد أن هناك بذرة لفيلم رائع الجمال هاهنا، لو أن كل الأمور أخذت في الحسبان، ولو أعيد إنتاجه قريبًا مع تلافي كل المشاكل، أعتقد بأنه سيكون فيلمًا من أروع الأفلام في التاريخ.