أوّل ما تفكر به وأنت بالطائرة في طريقك إلى كندا أنك مقبل على عالم جديد.. النظام والجمال والمستقبل الباهر.. لكن دعني أقول لك إننا كمصريين نقلل كثيراً مما نراه في بلادنا.. قبل السفر كان صديقي يحيى الذي لم يغادر مدينة الإسكندرية قط يشرح لي تفصيلاً جمال وعظمة كندا "وإيه يا معلم.. الشغل في كل حتة، وفلوس بتترمي من البلكونات.. يا عم ده الناس هناك بيستحموا بالكولونيا". بالتأكيد كلنا لدينا يحيى في حياتنا؛ فهو موجود في كل مكان وكل زمان.. والأغرب أنه على الرغم من إدراكنا لكمية الفانتازيا الفكرية المهولة لهذا ال"يحيى" إلا أننا نجد أنفسنا نستمع بكل اهتمام لوصف بلاد العجائب كأنما نبحث عن نافذة لعالم آخر؛ للهروب من عالمنا.. لكن دعني -وأنا أعيش حاليا في مقاطعة البرتا، وهي من أقوى مقاطعات كندا اقتصاديا- أبدّل بعض الحقائق الافتراضية "اليحيوية" -نسبة إلى يحيى- بوقائع ملموسة ومرئية ومشمومة أحياناً.
الحقيقة الأولى: "المواصلات فاضية يا معلم، لأ وببلاش.. والسواق بينزل يتحايل على الناس تركب.. يتحايل يتحايل يعني"، حقيقة أكثر ما صدمني هو ازدحام مواصلات النقل العام لدرجة لا تختلف كثيراً عن مصر، ولكن مع الافتقاد لميزة مهمة وهي "الشعبطة" تلك البروزات المحببة الموجودة في الأتوبيسات المصرية -والتي ليس لها أي مبرر اللهم إلا إيجاد متنفس لمحبي الشعبطة- للأسف ليست موجودة بالأتوبيسات الكندية.. بكل بساطة عندما تكتمل حمولة الأتوبيس لا يقف في محطات بعد ذلك مهما كان العدد الذي ينتظره في المحطة.. قد يعوّض ذلك كثرة الأتوبيسات وانتظام مواعيدها، لكن دعني أقول لك إن ثمن التذكرة تقريبا 12 جنيهاً ونصف.. بالتأكيد إن طُلب منك أن تدفع هذا المبلغ في مصر مقابل تذكرة الأتوبيس ستقوم -كأي مصري حار الدماء- بإطلاق كل أصوات الاعتراض التي تعرفها.
الحقيقة الثانية: "الوظايف يا معلم.. شغل قليل فلوس بالهبولي.. لأ ومش بتدوّر، ده أنا أعرف واحد خدوه من باب المطار مسّكوه رئيس شركة استثمار، لأ وإيه خريج علوم.. قال لهم ماليش فيها قالوا له بليز.. بليز، وسكنك علينا وهنركّب لك سخان أوليمبيك"، أولا: أنا لم أرَ سخان أوليمبيك بكندا، ولعلي أكون مخطئاً.. ثانياً: الوظائف الآن أصبحت ليست بالأمر السهل في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، هناك حالة غير طبيعية من الركود، وبدأ الكثيرون يلجأون إلى العمل في الوظائف المنخفضة الدخل حتى لو لم تكن ذات علاقة بتخصصهم.. فقد بدأ يصيبهم سرطان الحلول المؤقتة.. وهو سرطان اختياري ومرض مزمن لا تفيق منه إلا مع نهاية حياتك لتكتشف أنك قد عشت تنتقل من حل مؤقت إلى آخر، ولم تصل إلى حلك الدائم خلال أي فترة من فترات حياتك.. وصدّقني أنا لا أريدك أن تعيش إحساس من سُرِق عمره دون أن يشعر.. ثالثا: العمل هنا هو دراكولا المعنوي غير المرئي، هو يمتصّ طاقتك ودماءك وأنت عبد له؛ لأنك لا تملك أي بديل آخر حتى تنجو في هذا العالم الذي لا يؤمن إلا بالعمل الشاق.
الحقيقة الثالثة: "الحريم.. الحريم.. الحريم.. أوبّا يا كبير.. التطور الطبيعي للحاجة الساقعة.. الفاضية بترجع مليانة يا معلم.. لأ وإيه بيموتوا في المصريين".. الجزء الأخير من خرافات الأخ يحيى هو مفهوم شائع لم أجد له حقاً مبرراً أو دلالة حقيقية.. أتذكّر حالة عدم الثقة التي انتابتني عندما وطئت قدمي أرض المطار، ولم ترتمِ مسئولة الجوازات في أحضاني صارخة: "أوه.. إجيبشيان هيبوسني"، لكني أدركت أن "عبد معطي الدمرداش" القادم من قويسنا مثلا لا يتحول بقدرة قادر إلى "توم كروز" عندما يصل إلى كندا.. هي قناعة غير حقيقية تنتمي إلى نظرية "سوبر مان"؛ فمصر هي كوكب كريبتون خاصتنا، وكل قاطني كوكب كريبتون يمتلكون قدرات خاصة، لذلك لا يشعرون بتميزهم.. ولكن عندما ترك "كلارك كنت" كريبتون، وانتقل إلى كوكب الأرض -كندا في هذه الحالة- أصبح مميزاً بما يملكه من قدرات عن سكان الأرض.. لذلك دعني أقول لك وبكل صراحة: أنت لست سوبرمان وهم ليسوا سكان الأرض.. وباختصار "الحريم مش بيموتوا في المصريين"، كما هو شائع، وأنا أكبر دليل على ذلك؛ أنا مصري ومقيم بكندا "وما حدش بيموت فيّ"، إلى جانب شيء آخر هام وبدون مبالغة بنات مصر كنز، فلتبحث لنفسك فيه عن نصيب.. هنّ فقط يحتَجْن لعملية "صنفرة دماغية"؛ لتقوية الطموح، وتقليل التلفاز، لكن ليس كلهن بالطبع.
ختاما:
أحب أن أنهي ذلك بحقيقتين هامتين:
أولا: "المجاري بتضرب في كندا"، وهذا يحدث لكن الإصلاح يكون سريعاً جداً. ثانيا: من أكثر ما ستفتقده من مصر "الشطافة".. أتساءل لماذا لم تفكر حكومتنا في تصدير شطّافات إلى الغرب كسلعة استراتيجية قد تعيد التوازن إلى ميزان المدفوعات؟ خاصة أن لدينا فرص كبيرة في احتكار هذه السلعة؟