رئيس جامعة مصر للمعلوماتية: فرص لطلابنا للعمل في 250 شركة يابانية    مهرجان أنغام الصباح تستقبل اليوم الثاني لمهرجان «طرب الأول».. صور    أسعار اشتراكات قطارات السكة الحديد للطلاب    عقب التجديد لحسن عبدالله.. تفاصيل أول اجتماع للرئيس السيسي مع محافظ البنك المركزي    رسائل السيسي ل رئيسي وزراء وجهاز أمن الدولة القطري.. فيديو    نيابة عن رئيس الجمهورية: رئيس الوزراء يتوجه إلى اليابان للمشاركة في قمة "تيكاد 9"    جوارديولا: عدد اللاعبين في مانشستر سيتي ليس صحيا.. أنتظر رحيل المزيد    الداخلية تكشف ملابسات واقعة سرقة أحذية من داخل مسجد بالجيزة وتضبط الجاني    قانون التعليم الجديد.. نهضة تعليمية في مسار التحديث والتطوير المهني    المسلماني وهاني أحمد زويل يزيحان الستار عن استديو زويل    الأعلى للإعلام يعلن انطلاق الدورة التدريبية رقم "61 " للصحفيين الأفارقة من 18 دولة    نائب وزير الصحة يعقد اجتماعًا لتطوير منظومة المخازن الاستراتيجية والتموين الطبي    نص القرار الجمهورى بالتجديد ل"حسن عبد الله" محافظًا للبنك المركزى    الخارجية الفلسطينية تدين قرار الاحتلال الإسرائيلي التعسفي بحق الدبلوماسيين الأستراليين    تعليم الوادي يعلن مواعيد المقابلات الشخصية للمتقدمين لشغل الوظائف القيادية    برشلونة يرفض ضم نجم إنتر ميلان    يتضمن 20 أغنية.. التفاصيل الكاملة لألبوم هيفاء وهبي الجديد    أسامة السعيد: الموقف المصرى تجاه القضة الفلسطينية راسخ ورفض للتهجير    «أحمديات»: غياب ضمير العشرة    تعديل موعد انطلاق بطولة أفريقيا لأندية كرة اليد بالمغرب    كشف ملابسات قيام سائق "توك توك" بالسير عكس الإتجاه بالإسكندرية    إصلاحات شاملة لطريق مصر - أسوان الزراعي الشرقي في إسنا    تمكين الشباب.. رئيس جامعة بنها يشهد فعاليات المبادرة الرئاسية «كن مستعدا»    تووليت وكايروكي يحيون ختام مهرجان العلمين الجديدة (أسعار التذاكر والشروط)    تعرف على الفيلم الأضعف في شباك تذاكر السينما الأحد (تفاصيل)    «ربنا يرجعك لينا بالسلامة».. هالة صدقي توجه رسالة مؤثرة ل أنغام بسبب أزمتها الصحية    «بيطري قناة السويس» تُطلق برامج دراسات عليا جديدة وتفتح باب التسجيل    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    الرقابة المالية: 3.5 مليون مستفيد من تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر حتى يونيو 2025    هل يتم تعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا ؟.. اقتراح جديد في البرلمان    تحذير رسمي.. عبوات «مجهولة» من «Mounjaro 30» للتخسيس تهدد صحة المستهلكين (تفاصيل)    هام وعاجل من التعليم قبل بدء الدراسة: توجيهات للمديريات    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    "العدل": على دول العالم دعم الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أرضهم    حبس المتهمين بالتخلص من جثة صديقهم أثناء التنقيب عن الآثار في الشرقية    الصحة العالمية تقدم أهم النصائح لحمايتك والاحتفاظ ببرودة جسمك في الحر    "كان واقف على الباب".. مصرع شاب سقط من قطار الصعيد بسوهاج    "بعد أزمته الأخيرة مع الأهلي".. 10 معلومات عن الحكم محمد معروف (صور)    القوات الإسرائيلية تعتقل 33 عاملاً فلسطينيا جنوب القدس    الشيخ خالد الجندي: مخالفة قواعد المرور معصية شرعًا و"العمامة" شرف الأمة    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    الرئيس السيسي يوجه بتعزيز الموارد الدولارية وتمكين القطاع الخاص لجذب الاستثمارات ودعم النمو الاقتصادي    موقع واللا الإسرائيلي: كاتس سينظر خطة لمشاركة 80 ألف جندي في احتلال غزة    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    أيمن الرمادي ينتقد دونجا ويطالب بإبعاده عن التشكيل الأساسي للزمالك    أسعار البيض اليوم الإثنين 18 أغسطس في عدد من المزارع المحلية    «الديهي»: حملة «افتحوا المعبر» مشبوهة واتحدي أي إخواني يتظاهر أمام سفارات إسرائيل    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    وزارة التعليم: قبول تحويل الطلاب من المعاهد الأزهرية بشرط مناظرة السن    إصابة 14 شخصا فى تصادم ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    استقرار أسعار النفط مع انحسار المخاوف بشأن الإمدادات الروسية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمود الورواري يسائل الماضي مستقبلياً
نشر في صوت البلد يوم 17 - 05 - 2017

في روايته الجديدة «خريف البلد الكبير» (الدار المصرية - اللبنانية)، يُضيء الإعلامي والروائي المصري محمود الورواري الواقع الراهن من خلال العودة إلى الماضي. وهذا ما يجعل لكلٍّ من الزمنين حكايته الخاصّة، وتتناوب المشاهد الروائية لكلٍّ من الحكايتين على إشغال مساحات السرد، في الشكل. أمّا في المضمون فنحن أمام حكايتين منفصلتين في الزمان والمكان والمواصفات والنوع الروائي، غير أنّهما تتقاطعان في أنّ بطل الحكاية الأولى وراويها يقوم بالاطلاع على الحكاية الثانية وقراءتها، وهذا تقاطع شكلي. ويقوم بإسقاط الماضي على الحاضر، وهذا تقاطع يتعدّى الشكل إلى البحث في وظيفة الماضي وتأثيره في الحاضر.
في حكاية الحاضر، يطالعنا صعود فرد يتحدّر من خلفية ريفية متواضعة ليشغل موقعاً ديبلوماسيّاً متقدِّماً في دولة كبرى، ومن ثمَّ عودته إلى أصوله وطبيعته الأولى نتيجة مؤثرات خارجية وداخلية. بينما في حكاية الماضي، يطالعنا صعود بلد كبير، بدءاً من مرحلة التأسيس، مروراً بمرحلة الازدهار، وصولاً إلى الانهيار بفعل تدخّل خارجي وخيانة داخلية. هكذا، نكون أمام مسارين سرديّين، فردي يعكس الوضعية العامة للدولة والمجتمع، وجماعي يصنعه الأفراد ويترك تأثيره في كلٍّ منهم. والمساران يتناوبان في الشكل، ويتقاطعان في المضمون.
في المسار الأوّل، يُسنِد الكاتب إلى بطل المسار، السفير رشدي الشيخ، مهمّة روي حكايته، لنقرأ فيها تحدّره من بيئة ريفية متواضعة، يدفعه طموحه الكبير إلى التخلّي عن طبيعته وعفويته وبراءته، واصطناع شخصية أخرى. يترك خلفه حبّه الأوّل واهتماماته المسرحية وقريته، ويتوخّى شتّى السبل للصعود بما فيها الزواج بابنة ديبلوماسي نافذ. يخرج من جلده ليتحصّن بجلود إسمنتية. يعبّر عن هذه التحوّلات المصطنعة بالقول: «كالعادة ضحّيتُ بالمسرح ضمن ما ضحّيتُ به من أجل أن أكون ما أنا عليه الآن، أكون مسجوناً في بدلة أنيقة ومنصب متحجّر، أتحدّث بما يريدونني أن أتحدّث به.
حتى رأيي الشخصي لا أستطيع البوح به ولو لابنتي...» (ص 14). هكذا، نرى كيف أن المنصب يمكن أن يمتهن إنسانية الإنسان، ويحوّله إلى مجرّد أداة متحجّرة، تغدو أسيرة الكرسي والمظاهر الفارغة المتعلقة به. وإذا كان صعود هذه الشخصية يتكشّف عن طموح مرضي وانتهازية واضحة وجوع مزمن إلى السلطة، فإنّ عودتها إلى طبيعتها تقترن بتضحيات كبرى، بينها المنصب والزوجة والشقّة الباريسية، وتتمخّض عن صفات أخرى إيجابية للشخصية.
على أنّ هذه العودة إلى الأصول تتمّ بفعل عوامل عدة، خارجية وداخلية، متزامنة، فصدور قرار بنقل السفير رشدي الشيخ إلى الإدارة المركزية، ووقوفه أمام النيل، ولقاؤه بفاطمة ابنة حبيبته الأولى التي تخلّى عنها لتحقيق طموحه الكبير، ولقاؤه بسليم زميل الدراسة الجامعية الذي يسلّمه صندوقاً خشبيّاً يحتوي على لفافات جلدية عليها كتابات قديمة، هذه العوامل كلها تدفعه إلى التخلّي عن بدلته الإسمنتية والعودة إلى رشدي القديم. ومن خلال هذا المسار الفردي، الواقعي، تطلّ الرواية على الحاضر المصري، في علاقة المواطن بالسلطة، وما يعتريها من اختلالات، بينها: استخدام الشفاعات للوصول، التقرّب من ذوي النفوذ للحصول على المواقع المتقدّمة، الهوّة الطبقية بين المسؤول والمواطن، قمع الحريات، الاعتقال التعسّفي، وغيرها...
على المسار الثاني، تشكّل اللفافات التي سلّمها سليم إلى رشدي، وأحالها الأخير إلى خبيري المخطوطات الدكتور عبد النبي الهادي والدكتور فرج البيّومي، الحكاية الثانية في الرواية. على أنّ ما يميّز هذه عن الأولى هو أنّها حكاية جماعية، متخيَّلة وليست واقعية، تجري أحداثها في زمن غير محدّد تاريخيّاً، وفي أماكن متخيّلة غير محدّدة بالاسم وإن وردت قرائن لفظية في النص تجعلنا نخمّن منطقة بعينها. غير أنّ اللافت أنّ الحكم الذي تتناوله الحكاية لا يعمّر طويلاً، فما بناه الآباء يُضيِّعه الأبناء بفعل التدخّل الخارجي والخيانة والانقسامات الداخلية. ولعلّ الكاتب أراد، من خلال هذه الحكاية، توجيه رسالة إلى الحاضر محذِّراً من مغبّة التدخّل الخارجي والانقسام الداخلي، وخطورتهما على السيادة الوطنية.
في الحكاية الثانية، نقرأ قيام الشيخ الكبير وثلاثة من أعوانه بتأسيس وطن بين البحر والصحراء في وادٍ خصيب، وتوزيع المهمات في ما بينهم، ونقل الأولاد الذكور إلى جزيرة للتدرّب على الصبر والصمود، وبناء سفينة أسطورية كبيرة، واتفاقات عدة مع شيوخ البلدان المجاورة... حتى إذا ما أخذ البلد يكبر ويزدهر، يلفت أنظار الغرباء الذين يسعون إلى بثّ الشقاق بين أبنائه تمهيداً للسيطرة عليه. فيتّخذون من هادي ابن الشيخ الكبير، وراغب ابن الشيخ داود - وكلاهما رفض الانتقال إلى الجزيرة مع الذكور الآخرين لتعلّم الصبر والصمود - مطيّتين لتحقيق أغراضهم، فيغرق هادي في «البيزنس» مع الغرباء ويبيعهم السلاح والمؤن والوقود، ويتلوّث راغب بالخيانة فيتدبّر قتل صامد، القائد المهيب، ويأتي بأصحاب المشاريع المشبوهة التي تشكّل اختراقاً للبلد، وتتفاقم الانقسامات بين أبناء البلد الواحد، وتنشب بينهم المعارك، ولا يتورّع فيها راغب عن قتل أبيه والتنكيل بأخته كي ينسب فعلته إلى الآخرين.
في غمرة ذلك، يبرز سيف ووهدان وجاسر مدافعين أشدّاء عن البلد، ويبرز راغب وهادي أداتين رخيصتين بأيدي الغرباء، ويستخدمان أساليب الدعاية المضلّلة لتلميع صورتيهما وتشويه صور الأبطال المدافعين، ويشكّلان حصان طروادة الذي يسيطر من خلاله الغرباء على البلد. غير أن الرهان على سيف الصغير في تطهير البلد منهم وإعادة إحيائه يشكّل رهاناً روائيّاً على المستقبل. هكذا، تترك الحكاية الجماعية المتخيّلة تأثيرها في الأفراد، وترسم مصائرهم القاتمة.
في العلاقة بين الحكايتين، وإذا ما استثنينا أنّ راوي الحكاية الأولى يقوم بقراءة أوراق الحكاية الثانية، يمكن القول أنّنا ازاء حكايتين منفصلتين في رواية واحدة، غير أنّ الكاتب يربط بينهما من خلال توزيع المشاهد الروائية بينهما بالتناوب، ومن خلال انشغال بطل الحكاية الأولى جزئيّاً بتطوّرات الحكاية الثانية، الأمر الذي ينسحب على القارئ، فيغدو موزّعاً بين الحكايتين ومهتمّاً بما ستؤول إليه كلٌّ منهما. وعليه، تقوم العلاقة بين الحكايتين على: التوازي، والتعاقب، والتداخل، والانفصال، والاتصال، والإسقاط... أي أنّنا إزاء شبكة علائقية معقّدة.
يستخدم الورواري تقنية تعدّد الرواة، وتنوّع صيغ الروي، فيُسند حكي الوقائع الحاضرة إلى راوٍ مشاركٍ هو بطل الحكاية الذي يروي بصيغة المتكلّم، ويُسند حكي الماضي الأسطوري الغرائبي إلى راوٍ عليم، فيفعل ذلك بصيغة الغائب في جميع اللفافات، ما عدا الأولى. وهو يصطنع مساراً متسلسلاً في الحكاية الأولى، وآخر متقطّعاً في الحكاية الثانية، ويراعي خطية الزمن في المسارين.
بلغة سردية بسيطة، جميلة، تتّكئ على الجمل القصيرة والمتوسّطة، وتتجنّب تلك الطويلة المترهّلة، يصوغ الكاتب نصّه، فيجمع بين متعة السرد وجمال اللغة، ويوفّر لخطابه السلاسة السردية التي تقطعها حوارات رشيقة تراعي التوازن بين المعنى والمبنى، وتبتعد من الخطابة والوعظ والأيديولوجيا.
بهذه المواصفات، يقدّم محمود الورواري رواية مستوفية شروط النوع الروائي، وينتقل بنا بين حكائية الماضي، وواقعية الحاضر، ومتعة السرد، ورشاقة الحوار، وجمال اللغة، فنعود من القراءة بغنيمتي المتعة والفائدة.
في روايته الجديدة «خريف البلد الكبير» (الدار المصرية - اللبنانية)، يُضيء الإعلامي والروائي المصري محمود الورواري الواقع الراهن من خلال العودة إلى الماضي. وهذا ما يجعل لكلٍّ من الزمنين حكايته الخاصّة، وتتناوب المشاهد الروائية لكلٍّ من الحكايتين على إشغال مساحات السرد، في الشكل. أمّا في المضمون فنحن أمام حكايتين منفصلتين في الزمان والمكان والمواصفات والنوع الروائي، غير أنّهما تتقاطعان في أنّ بطل الحكاية الأولى وراويها يقوم بالاطلاع على الحكاية الثانية وقراءتها، وهذا تقاطع شكلي. ويقوم بإسقاط الماضي على الحاضر، وهذا تقاطع يتعدّى الشكل إلى البحث في وظيفة الماضي وتأثيره في الحاضر.
في حكاية الحاضر، يطالعنا صعود فرد يتحدّر من خلفية ريفية متواضعة ليشغل موقعاً ديبلوماسيّاً متقدِّماً في دولة كبرى، ومن ثمَّ عودته إلى أصوله وطبيعته الأولى نتيجة مؤثرات خارجية وداخلية. بينما في حكاية الماضي، يطالعنا صعود بلد كبير، بدءاً من مرحلة التأسيس، مروراً بمرحلة الازدهار، وصولاً إلى الانهيار بفعل تدخّل خارجي وخيانة داخلية. هكذا، نكون أمام مسارين سرديّين، فردي يعكس الوضعية العامة للدولة والمجتمع، وجماعي يصنعه الأفراد ويترك تأثيره في كلٍّ منهم. والمساران يتناوبان في الشكل، ويتقاطعان في المضمون.
في المسار الأوّل، يُسنِد الكاتب إلى بطل المسار، السفير رشدي الشيخ، مهمّة روي حكايته، لنقرأ فيها تحدّره من بيئة ريفية متواضعة، يدفعه طموحه الكبير إلى التخلّي عن طبيعته وعفويته وبراءته، واصطناع شخصية أخرى. يترك خلفه حبّه الأوّل واهتماماته المسرحية وقريته، ويتوخّى شتّى السبل للصعود بما فيها الزواج بابنة ديبلوماسي نافذ. يخرج من جلده ليتحصّن بجلود إسمنتية. يعبّر عن هذه التحوّلات المصطنعة بالقول: «كالعادة ضحّيتُ بالمسرح ضمن ما ضحّيتُ به من أجل أن أكون ما أنا عليه الآن، أكون مسجوناً في بدلة أنيقة ومنصب متحجّر، أتحدّث بما يريدونني أن أتحدّث به.
حتى رأيي الشخصي لا أستطيع البوح به ولو لابنتي...» (ص 14). هكذا، نرى كيف أن المنصب يمكن أن يمتهن إنسانية الإنسان، ويحوّله إلى مجرّد أداة متحجّرة، تغدو أسيرة الكرسي والمظاهر الفارغة المتعلقة به. وإذا كان صعود هذه الشخصية يتكشّف عن طموح مرضي وانتهازية واضحة وجوع مزمن إلى السلطة، فإنّ عودتها إلى طبيعتها تقترن بتضحيات كبرى، بينها المنصب والزوجة والشقّة الباريسية، وتتمخّض عن صفات أخرى إيجابية للشخصية.
على أنّ هذه العودة إلى الأصول تتمّ بفعل عوامل عدة، خارجية وداخلية، متزامنة، فصدور قرار بنقل السفير رشدي الشيخ إلى الإدارة المركزية، ووقوفه أمام النيل، ولقاؤه بفاطمة ابنة حبيبته الأولى التي تخلّى عنها لتحقيق طموحه الكبير، ولقاؤه بسليم زميل الدراسة الجامعية الذي يسلّمه صندوقاً خشبيّاً يحتوي على لفافات جلدية عليها كتابات قديمة، هذه العوامل كلها تدفعه إلى التخلّي عن بدلته الإسمنتية والعودة إلى رشدي القديم. ومن خلال هذا المسار الفردي، الواقعي، تطلّ الرواية على الحاضر المصري، في علاقة المواطن بالسلطة، وما يعتريها من اختلالات، بينها: استخدام الشفاعات للوصول، التقرّب من ذوي النفوذ للحصول على المواقع المتقدّمة، الهوّة الطبقية بين المسؤول والمواطن، قمع الحريات، الاعتقال التعسّفي، وغيرها...
على المسار الثاني، تشكّل اللفافات التي سلّمها سليم إلى رشدي، وأحالها الأخير إلى خبيري المخطوطات الدكتور عبد النبي الهادي والدكتور فرج البيّومي، الحكاية الثانية في الرواية. على أنّ ما يميّز هذه عن الأولى هو أنّها حكاية جماعية، متخيَّلة وليست واقعية، تجري أحداثها في زمن غير محدّد تاريخيّاً، وفي أماكن متخيّلة غير محدّدة بالاسم وإن وردت قرائن لفظية في النص تجعلنا نخمّن منطقة بعينها. غير أنّ اللافت أنّ الحكم الذي تتناوله الحكاية لا يعمّر طويلاً، فما بناه الآباء يُضيِّعه الأبناء بفعل التدخّل الخارجي والخيانة والانقسامات الداخلية. ولعلّ الكاتب أراد، من خلال هذه الحكاية، توجيه رسالة إلى الحاضر محذِّراً من مغبّة التدخّل الخارجي والانقسام الداخلي، وخطورتهما على السيادة الوطنية.
في الحكاية الثانية، نقرأ قيام الشيخ الكبير وثلاثة من أعوانه بتأسيس وطن بين البحر والصحراء في وادٍ خصيب، وتوزيع المهمات في ما بينهم، ونقل الأولاد الذكور إلى جزيرة للتدرّب على الصبر والصمود، وبناء سفينة أسطورية كبيرة، واتفاقات عدة مع شيوخ البلدان المجاورة... حتى إذا ما أخذ البلد يكبر ويزدهر، يلفت أنظار الغرباء الذين يسعون إلى بثّ الشقاق بين أبنائه تمهيداً للسيطرة عليه. فيتّخذون من هادي ابن الشيخ الكبير، وراغب ابن الشيخ داود - وكلاهما رفض الانتقال إلى الجزيرة مع الذكور الآخرين لتعلّم الصبر والصمود - مطيّتين لتحقيق أغراضهم، فيغرق هادي في «البيزنس» مع الغرباء ويبيعهم السلاح والمؤن والوقود، ويتلوّث راغب بالخيانة فيتدبّر قتل صامد، القائد المهيب، ويأتي بأصحاب المشاريع المشبوهة التي تشكّل اختراقاً للبلد، وتتفاقم الانقسامات بين أبناء البلد الواحد، وتنشب بينهم المعارك، ولا يتورّع فيها راغب عن قتل أبيه والتنكيل بأخته كي ينسب فعلته إلى الآخرين.
في غمرة ذلك، يبرز سيف ووهدان وجاسر مدافعين أشدّاء عن البلد، ويبرز راغب وهادي أداتين رخيصتين بأيدي الغرباء، ويستخدمان أساليب الدعاية المضلّلة لتلميع صورتيهما وتشويه صور الأبطال المدافعين، ويشكّلان حصان طروادة الذي يسيطر من خلاله الغرباء على البلد. غير أن الرهان على سيف الصغير في تطهير البلد منهم وإعادة إحيائه يشكّل رهاناً روائيّاً على المستقبل. هكذا، تترك الحكاية الجماعية المتخيّلة تأثيرها في الأفراد، وترسم مصائرهم القاتمة.
في العلاقة بين الحكايتين، وإذا ما استثنينا أنّ راوي الحكاية الأولى يقوم بقراءة أوراق الحكاية الثانية، يمكن القول أنّنا ازاء حكايتين منفصلتين في رواية واحدة، غير أنّ الكاتب يربط بينهما من خلال توزيع المشاهد الروائية بينهما بالتناوب، ومن خلال انشغال بطل الحكاية الأولى جزئيّاً بتطوّرات الحكاية الثانية، الأمر الذي ينسحب على القارئ، فيغدو موزّعاً بين الحكايتين ومهتمّاً بما ستؤول إليه كلٌّ منهما. وعليه، تقوم العلاقة بين الحكايتين على: التوازي، والتعاقب، والتداخل، والانفصال، والاتصال، والإسقاط... أي أنّنا إزاء شبكة علائقية معقّدة.
يستخدم الورواري تقنية تعدّد الرواة، وتنوّع صيغ الروي، فيُسند حكي الوقائع الحاضرة إلى راوٍ مشاركٍ هو بطل الحكاية الذي يروي بصيغة المتكلّم، ويُسند حكي الماضي الأسطوري الغرائبي إلى راوٍ عليم، فيفعل ذلك بصيغة الغائب في جميع اللفافات، ما عدا الأولى. وهو يصطنع مساراً متسلسلاً في الحكاية الأولى، وآخر متقطّعاً في الحكاية الثانية، ويراعي خطية الزمن في المسارين.
بلغة سردية بسيطة، جميلة، تتّكئ على الجمل القصيرة والمتوسّطة، وتتجنّب تلك الطويلة المترهّلة، يصوغ الكاتب نصّه، فيجمع بين متعة السرد وجمال اللغة، ويوفّر لخطابه السلاسة السردية التي تقطعها حوارات رشيقة تراعي التوازن بين المعنى والمبنى، وتبتعد من الخطابة والوعظ والأيديولوجيا.
بهذه المواصفات، يقدّم محمود الورواري رواية مستوفية شروط النوع الروائي، وينتقل بنا بين حكائية الماضي، وواقعية الحاضر، ومتعة السرد، ورشاقة الحوار، وجمال اللغة، فنعود من القراءة بغنيمتي المتعة والفائدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.