تنسيق الجامعات 2025.. موقع التنسيق يفتح باب التقديم بالمرحلة الأولى    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    «طنطاوي» مديرًا و «مروة» وكيلاً ل «صحة المنيا»    سوبر ماركت التعليم    مفتي الجمهورية السابق يوجه رسائل عاجلة لأهالي البحيرة قبل إنتخابات مجلس الشيوخ    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    أسعار الفاكهة والموز والمانجو بالأسواق اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 بالصاغة.. وعيار 21 الآن بعد الانخفاض الكبير    مصدر بالكهرباء: انقطاع التيار بالجيزة مستمر لحين تركيب الدوائر الجديدة    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 29 يوليو 2025    محمد معيط: العام المقبل سيشهد صرف شريحتين متبقيتين بقيمة تقارب 1.2 مليار دولار لكل شريحة    تغيير في قيادة «إجيماك».. أكرم إبراهيم رئيسًا لمجلس الإدارة خلفًا لأسامة عبد الله    أخبار 24 ساعة.. انطلاق القطار الثانى لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    خروج محطة محولات جزيرة الذهب بالكامل مرة أخرى وانقطاع الكهرباء عن الجيزة    إيران ترد على ادعاء ترامب حول تدخل طهران في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة    تليجراف: ستارمر سيعلن عن خطته للاعتراف بدولة فلسطينية    الرئيس الفلسطيني يثمن نداء الرئيس السيسي للرئيس الأمريكي من أجل وقف الحرب في غزة    ارتفاع حصيلة الشهداء فى غزة إلى 59 ألفا و921 والإصابات إلى 145 ألفا و233 منذ بدء العدوان    وزير الخارجية السعودي: لا مصداقية لحديث التطبيع وسط معاناة غزة    أبو الغيط من مؤتمر نيويورك: لا سبيل إلى تحقيق السلام الإقليمي الدائم إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية على حدود 67    عبور قافلة مساعدات إنسانية إلى السويداء جنوب سوريا    «مقترح أوروبي» بفرض قيود على تمويل الأبحاث الإسرائيلية    مجلس إدارة الزمالك يشكر الرئيس عبد الفتاح السيسى على موقفه الإنسانى تجاه حسن شحاتة    الأهلى يناقش تطورات عروض رحيل رضا سليم فى الميركاتو الصيفى    أحمد فتوح يتسبب بأزمة جديدة في الزمالك.. وفيريرا يرفض التعامل معه (تفاصيل)    الأهلي يضغط على نجمه من أجل الرحيل.. إبراهيم عبدالجواد يكشف    قرار مفاجئ من أحمد عبدالقادر بشأن مسيرته مع الأهلي.. إعلامي يكشف التفاصيل    تراجع طفيف في درجات الحرارة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    تشييع جثمانى طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما فى حادث على الدائرى.. صور    السيطرة على حريق كابينة كهرباء بعزبة النخل.. وعودة التيار خلال دقائق    النجاح له ألف أب!    «قد تُستخدم ضدك في المحكمة».. 7 أشياء لا تُخبر بها الذكاء الاصطناعي بعد تحذير مؤسس «ChatGPT»    ضبط 400 علبة سجائر مجهولة المصدر بمركز المنشاة فى سوهاج    حفل العيد القومى لمحافظة الإسكندرية من داخل قلعة قايتباى.. فيديو    تحولات مهنية قادمة.. حظ برج العقرب اليوم 29 يوليو    نوسة وإحسان وجميلة    تعرف على برجك اليوم 2025/7/29.. «الحمل»: تبدو عمليًا وواقعيًا.. و«الثور»: تراجع معنوي وشعور بالملل    أحمد صيام: محبة الناس واحترامهم هي الرزق الحقيقي.. والمال آخر ما يُذكر    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. الرئيس اللبنانى يمنح زياد الرحبانى وسام الأرز الوطنى رتبة كومندور.. وفاة شقيق المخرج خالد جلال.. منح ذوى القدرات الخاصة المشاركة بمهرجان الإسكندرية مجانا    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    من تنظيم مستويات السكر لتحسين الهضم.. تعرف على فوائد القرنفل الصحية    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    حزب مستقبل وطن بالبحيرة يدعم المستشفيات بأجهزة طبية    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    16 ميدالية، حصاد البعثة المصرية في اليوم الثاني من دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    حرائق الكهرباء عرض مستمر، اشتعال النيران بعمود إنارة بالبدرشين (صور)    في لقاء نادر، ماذا قال عمرو دياب عن زياد الرحباني؟ (فيديو)    قرار من خوسيه ريبيرو بخصوص مباراة إنبي الودية اليوم    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    "شوية مطبلاتية".. تعليق قوي من أحمد عبد القادر على أنباء فسخ تعاقده مع الأهلي    ضبط مصنع غير مرخص يعيد تعبئة زيوت طعام مستعملة ببني سويف (صور)    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    بدء الدراسة بجامعة الأقصر الأهلية.. رئيس الجامعة والمحافظ يعلنان تفاصيل البرامج الدراسية بالكليات الأربع    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    انتخابات الشيوخ بين الدعاية المفرطة.. والبرامج المجهولة!!    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نورا أمين تحرّر الأنثى من حروبها اليومية
نشر في صوت البلد يوم 21 - 03 - 2017

ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ هذا السؤال قد يراود قارئ كتاب «تهجير المؤنث» (دار آفاق) للمصرية نورا أمين، الروائية والمُترجمة والممثلة والمخرجة المسرحية. وفي مستهلّ كتابها، الذي كتبته بالإنكليزية قبل أن تنقله بنفسها الى العربية، تقول أمين إن «مهنتها لا تستطيع أن تنقذها»، حين تسير في شوارع القاهرة وسط الناس، فتُجبَر على إغلاق جسدها، كما تغلقه السيدات والفتيات الأخريات. تضطر مجبرة أن تتشبّه بنساءٍ لم يحلمن ربما بالرقص مثلها، ولم يؤسسن منصات متعددة كي يعطوا صوتاً للمقهورين في المسرح وفي الحياة.
«تهجير المؤنث» هو عنوان العمل الذي يمكن التطلع اليه «كدراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العمومي». هو ليس عملاً نقدياً ولا فكرياً فحسب، أو هو ليس كذلك على النحو المعتاد في الأعمال العربية؛ حين تتعدد الإحالات من المراجع والتعريفات المنقولة بالحرف عن كتب الأسلاف كدليل على قوتها الموضوعية والعلمية، وأحياناً كثيرة كدليل على جفافها. إنه عمل فني أيضاً. تقول عنه نورا إنه «الأصل في كل ما كتبت». هو شيء يُشبه الشِعر من حيث كونه البذرة الخالصة، أو البيان السياسي وباعتبار أنه يحدد ملامح الاستيعاب الشخصي لتجربة الوجود الإنساني على هذه الأرض العنصرية من جهة والكريمة من جهة أخرى، في تضاد متواصل ومرهق.
تعبّر الكاتبة عما تريد قوله في شكل شهادة شخصية أولاً، فتحكي عن الأحاسيس والأفكار والصفعات التي تلقتها ولم تنسها بتفاصيلها المؤلمة والمهينة على نحو ما. ترويها بنبرة هادئة ليكون تأثيرها مضاعفاً. تستفز شهادات مماثلة من نساء وفتيات ومثقفات مصريات، يجدن في عمل نورا بلا شك، حقيقة أن وجعهن جماعياً. «الذاتية هنا ليست لعنة مطلقاً وإنما هي أداة ومنظور مفيدان للفهم». ولكن ليست هذه هي الفائدة الوحيدة للذاتية. لقد أُكلت التجربة النسوية في مصر وجُوبهت بضراوة من أجل ذلك الطابع الذاتي أصلاً. في الكثير من الأحيان تحاول الكاتبات إثبات أنهن يكتبن كما يكتب الرجال، أنهن يفكرن مثلهم، لأن خصوصيتهن معيبة من وجهة نظر الآخر. هنّ لا يحاولن رؤية ذلك الرجل كإنسان عادي أو مقاربة ما أنتجه من أدب كأدب فقط من دون أن يتماهين معه ويفقدن أنفسهن.
تجارب خاصة
مثقفات كثيرات ينظرن إلى زميلهن المثقف كأنه نصف إله، ولا يسألن فعلاً ما الذي غيَّره ذاك الكاتب الرجل؟ ألم تكن هذه الذاتية هي التي انطلقت منها ذات يومٍ أروى صالح في عملها «المبتسرون»، وهي تفك أسر تجارب لها مع مثقفي وسط البلد، بعدما اقتربت من عوالمهم ورأت نظرتهم المهتزة الى العالم وإلى أنفسهم؟
عرَّفت أروى ايضاً تصوراتهم عن أهداف الأيديولوجية النفعية وهي التي صدقتهم يوماً. وخرجت بنتائج عامة من التجربة الشخصية (لأن لا تجربة شخصية صماء)، ما جعل كتابها يبقى حاضراً حتى بعد انتحارها، وتُقبل مؤسسات ثقافية مثل »مكتبة الأسرة» على إعادة إصداره وتوزيعه اليوم لهذا السبب، إضافة إلى فنيَّته الرفيعة طبعاً.
من هنا يمكننا أن نرى عمل نورا أمين أو أن نعيد رؤيته- على ضوء أعمالها الأخرى في القصة والرواية والمقال والمسرح- وهو في مكانه الطبيعي إلى جانب أعمال كاتبات أخريات، غير عربيات مثلاً، كأعمال سيمون دو بوفوار في مذكراتها المختلفة وفي عملها «الجنس الثاني» بخاصة. والمقصود هنا لناحية رصده هذه التفرقة المبكرة، وفي إجبار الأنثى على أن تصير أنثى مع الوقت، مغتربة أو بعيدة من نفسها.
حضور ذلك التاريخ البديل ربما، للكاتبات النساء وللملايين من المناضلات اليوميات في شتى أنحاء العالم، هو حضور راسخ بالفعل وباللغة في نص «تهجير المؤنث». كُتب هذا العمل أولاً بالإنكليزية بدعم من مؤسسة berlin 60 pages، وهكذا فإنه ربما يكون قُدّم أصلاً لجمهور أجنبي، «ولولا أن العمل كان لا بد أن يُكتب باللغة الإنكليزية لما تم». فلغة الجسد الأم هي العربية وهي اللغة التي مثلت أداة التنكيل الأول الذي تشتكي منه أصلاً الكاتبة. وكأنها تستعين بلغة ثانية خاصة بها تهضم فيها ميراث اللغة الأولى من دون أن تفزعها في عريها، ثم هي تعود نورا بعدما أطلقت التجربة إلى آخرها فترجمت بنفسها النص إلى لغتها الأولى، ونشرته عربياً الآن. لم يكن هذا تخففاً من الحِمل الثقيل، لأن نورا بالطبع عادت إلى حمله لاحقاً، أو أنه كان تخففاً موقتاً، نوعاً من التحايل حتى تتم عملية الكشف، لكنه أتاح شكلاً من تعدد اللغات الضمنية داخل النص.
تحضر الكاتبة الفرنسية آني إرنو التي سبق أن ترجمت لها نورا أمين روايتين عن الفرنسية أعادت دار «أزمنة» نشرهما أخيراً في كتاب واحد- في أسلوب نورا الحاد والناعم كملقاط، في تدفقها في رواية «الألم بلا توقف» (تقول مثلاً نورا عن أول مرة تعبر فيها ميدان التحرير وهي طفلة: لم أكن بعد خائفة. كنت لا أزال تحت وهم حماية الأم). اضافة الى استنادها بالطبع إلى التجربة الشخصية وثقتها في قدرتها على التعبير.
في المقاطع التي لا تحمل عناوين ولا أرقاماً وتطلق هيكل النص مرتاحاً من دون مطبات، تتحرك نورا من الطفولة إلى الشباب في مصر، تتكلم عما حدث في «ميدان التحرير» من تحرشات واغتصاب جماعي متكرر أيام الثورة المصرية.
صدمة نفسية
هي تبدأ من الحلم الوردي وتصل إلى الواقع، وتُعيد التذكير بتاريخ أُريد نسيانه وأزيح بقوة إلى العتمة. نحن الذين عِشنا الحكاية سيكون الأمر مريراً لكنه مفهوم، أما ما مثَّل الصدمة الأكبر فهي حادثة التحرش النفسي أو الانتهاك الذي تعرضت له في مطار مدينة ألمانية صغيرة. أعرف ما روته نورا عن نظرات الألمان تجاه الأجانب وخصوصاً من أصول عربية، ولكن ما فعلته معها نادلة مقهى في كوبنهاغن حين دفعتها دفعاً خارج الحيز الذي كانت تراه كحيز احتضان للغرباء والمهاجرين يطرح سؤالاً: إذاً أين سترتاح النساء؟
مجدداً: ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ ليست مصادفة أن تهاجر كاتبات اشتهرن في القاهرة ب «كاتبات جيل التسعينات». كثيرات منهن انتقلن للعيش في أوروبا وأميركا وكندا. إيمان مرسال ومي التلمساني وميرال الطحاوي وطبعاً نورا أمين، مثلما هي ليست مصادفة أن أروى صالح التي تمر كثيراً بين صفحات عمل نورا قد انتحرت بعدما كتبت أو حاولت أن تكتب أزمتها الشخصية والعامة في عملها المغضوب عليه.
هي بالطبع ليست دعوة للتشاؤم، هي أصلاً ليست دعوة، ما يحدث يومياً لا يمكن طرحه على طاولة الحرب الأهلية بين الإناث والذكور في مصر أو في الدول العربية أو في أي مكان في العالم. لكنّ الحل الوحيد هو رؤيته كما هو بأبعاده الحقيقية كطريقة للتفكير وسلوك لنظام كامل، لا على الرؤساء فقط، لكن أيضاً على السائرين بلا قصد في الشوارع.
نورا أمين حررت الجسد بالفن أكثر من مرة، كما في روايتها «قبل الموت» حين اتحدت امرأتان في جسد واحد لقتل العجز. وقد آثرت نورا أن تختتم شهادتها بهذه العبارة: «كنتُ متمسكة بالذكرى الوحيدة حولي لميدان التحرير وللثورة: جسدي».
ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ هذا السؤال قد يراود قارئ كتاب «تهجير المؤنث» (دار آفاق) للمصرية نورا أمين، الروائية والمُترجمة والممثلة والمخرجة المسرحية. وفي مستهلّ كتابها، الذي كتبته بالإنكليزية قبل أن تنقله بنفسها الى العربية، تقول أمين إن «مهنتها لا تستطيع أن تنقذها»، حين تسير في شوارع القاهرة وسط الناس، فتُجبَر على إغلاق جسدها، كما تغلقه السيدات والفتيات الأخريات. تضطر مجبرة أن تتشبّه بنساءٍ لم يحلمن ربما بالرقص مثلها، ولم يؤسسن منصات متعددة كي يعطوا صوتاً للمقهورين في المسرح وفي الحياة.
«تهجير المؤنث» هو عنوان العمل الذي يمكن التطلع اليه «كدراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العمومي». هو ليس عملاً نقدياً ولا فكرياً فحسب، أو هو ليس كذلك على النحو المعتاد في الأعمال العربية؛ حين تتعدد الإحالات من المراجع والتعريفات المنقولة بالحرف عن كتب الأسلاف كدليل على قوتها الموضوعية والعلمية، وأحياناً كثيرة كدليل على جفافها. إنه عمل فني أيضاً. تقول عنه نورا إنه «الأصل في كل ما كتبت». هو شيء يُشبه الشِعر من حيث كونه البذرة الخالصة، أو البيان السياسي وباعتبار أنه يحدد ملامح الاستيعاب الشخصي لتجربة الوجود الإنساني على هذه الأرض العنصرية من جهة والكريمة من جهة أخرى، في تضاد متواصل ومرهق.
تعبّر الكاتبة عما تريد قوله في شكل شهادة شخصية أولاً، فتحكي عن الأحاسيس والأفكار والصفعات التي تلقتها ولم تنسها بتفاصيلها المؤلمة والمهينة على نحو ما. ترويها بنبرة هادئة ليكون تأثيرها مضاعفاً. تستفز شهادات مماثلة من نساء وفتيات ومثقفات مصريات، يجدن في عمل نورا بلا شك، حقيقة أن وجعهن جماعياً. «الذاتية هنا ليست لعنة مطلقاً وإنما هي أداة ومنظور مفيدان للفهم». ولكن ليست هذه هي الفائدة الوحيدة للذاتية. لقد أُكلت التجربة النسوية في مصر وجُوبهت بضراوة من أجل ذلك الطابع الذاتي أصلاً. في الكثير من الأحيان تحاول الكاتبات إثبات أنهن يكتبن كما يكتب الرجال، أنهن يفكرن مثلهم، لأن خصوصيتهن معيبة من وجهة نظر الآخر. هنّ لا يحاولن رؤية ذلك الرجل كإنسان عادي أو مقاربة ما أنتجه من أدب كأدب فقط من دون أن يتماهين معه ويفقدن أنفسهن.
تجارب خاصة
مثقفات كثيرات ينظرن إلى زميلهن المثقف كأنه نصف إله، ولا يسألن فعلاً ما الذي غيَّره ذاك الكاتب الرجل؟ ألم تكن هذه الذاتية هي التي انطلقت منها ذات يومٍ أروى صالح في عملها «المبتسرون»، وهي تفك أسر تجارب لها مع مثقفي وسط البلد، بعدما اقتربت من عوالمهم ورأت نظرتهم المهتزة الى العالم وإلى أنفسهم؟
عرَّفت أروى ايضاً تصوراتهم عن أهداف الأيديولوجية النفعية وهي التي صدقتهم يوماً. وخرجت بنتائج عامة من التجربة الشخصية (لأن لا تجربة شخصية صماء)، ما جعل كتابها يبقى حاضراً حتى بعد انتحارها، وتُقبل مؤسسات ثقافية مثل »مكتبة الأسرة» على إعادة إصداره وتوزيعه اليوم لهذا السبب، إضافة إلى فنيَّته الرفيعة طبعاً.
من هنا يمكننا أن نرى عمل نورا أمين أو أن نعيد رؤيته- على ضوء أعمالها الأخرى في القصة والرواية والمقال والمسرح- وهو في مكانه الطبيعي إلى جانب أعمال كاتبات أخريات، غير عربيات مثلاً، كأعمال سيمون دو بوفوار في مذكراتها المختلفة وفي عملها «الجنس الثاني» بخاصة. والمقصود هنا لناحية رصده هذه التفرقة المبكرة، وفي إجبار الأنثى على أن تصير أنثى مع الوقت، مغتربة أو بعيدة من نفسها.
حضور ذلك التاريخ البديل ربما، للكاتبات النساء وللملايين من المناضلات اليوميات في شتى أنحاء العالم، هو حضور راسخ بالفعل وباللغة في نص «تهجير المؤنث». كُتب هذا العمل أولاً بالإنكليزية بدعم من مؤسسة berlin 60 pages، وهكذا فإنه ربما يكون قُدّم أصلاً لجمهور أجنبي، «ولولا أن العمل كان لا بد أن يُكتب باللغة الإنكليزية لما تم». فلغة الجسد الأم هي العربية وهي اللغة التي مثلت أداة التنكيل الأول الذي تشتكي منه أصلاً الكاتبة. وكأنها تستعين بلغة ثانية خاصة بها تهضم فيها ميراث اللغة الأولى من دون أن تفزعها في عريها، ثم هي تعود نورا بعدما أطلقت التجربة إلى آخرها فترجمت بنفسها النص إلى لغتها الأولى، ونشرته عربياً الآن. لم يكن هذا تخففاً من الحِمل الثقيل، لأن نورا بالطبع عادت إلى حمله لاحقاً، أو أنه كان تخففاً موقتاً، نوعاً من التحايل حتى تتم عملية الكشف، لكنه أتاح شكلاً من تعدد اللغات الضمنية داخل النص.
تحضر الكاتبة الفرنسية آني إرنو التي سبق أن ترجمت لها نورا أمين روايتين عن الفرنسية أعادت دار «أزمنة» نشرهما أخيراً في كتاب واحد- في أسلوب نورا الحاد والناعم كملقاط، في تدفقها في رواية «الألم بلا توقف» (تقول مثلاً نورا عن أول مرة تعبر فيها ميدان التحرير وهي طفلة: لم أكن بعد خائفة. كنت لا أزال تحت وهم حماية الأم). اضافة الى استنادها بالطبع إلى التجربة الشخصية وثقتها في قدرتها على التعبير.
في المقاطع التي لا تحمل عناوين ولا أرقاماً وتطلق هيكل النص مرتاحاً من دون مطبات، تتحرك نورا من الطفولة إلى الشباب في مصر، تتكلم عما حدث في «ميدان التحرير» من تحرشات واغتصاب جماعي متكرر أيام الثورة المصرية.
صدمة نفسية
هي تبدأ من الحلم الوردي وتصل إلى الواقع، وتُعيد التذكير بتاريخ أُريد نسيانه وأزيح بقوة إلى العتمة. نحن الذين عِشنا الحكاية سيكون الأمر مريراً لكنه مفهوم، أما ما مثَّل الصدمة الأكبر فهي حادثة التحرش النفسي أو الانتهاك الذي تعرضت له في مطار مدينة ألمانية صغيرة. أعرف ما روته نورا عن نظرات الألمان تجاه الأجانب وخصوصاً من أصول عربية، ولكن ما فعلته معها نادلة مقهى في كوبنهاغن حين دفعتها دفعاً خارج الحيز الذي كانت تراه كحيز احتضان للغرباء والمهاجرين يطرح سؤالاً: إذاً أين سترتاح النساء؟
مجدداً: ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ ليست مصادفة أن تهاجر كاتبات اشتهرن في القاهرة ب «كاتبات جيل التسعينات». كثيرات منهن انتقلن للعيش في أوروبا وأميركا وكندا. إيمان مرسال ومي التلمساني وميرال الطحاوي وطبعاً نورا أمين، مثلما هي ليست مصادفة أن أروى صالح التي تمر كثيراً بين صفحات عمل نورا قد انتحرت بعدما كتبت أو حاولت أن تكتب أزمتها الشخصية والعامة في عملها المغضوب عليه.
هي بالطبع ليست دعوة للتشاؤم، هي أصلاً ليست دعوة، ما يحدث يومياً لا يمكن طرحه على طاولة الحرب الأهلية بين الإناث والذكور في مصر أو في الدول العربية أو في أي مكان في العالم. لكنّ الحل الوحيد هو رؤيته كما هو بأبعاده الحقيقية كطريقة للتفكير وسلوك لنظام كامل، لا على الرؤساء فقط، لكن أيضاً على السائرين بلا قصد في الشوارع.
نورا أمين حررت الجسد بالفن أكثر من مرة، كما في روايتها «قبل الموت» حين اتحدت امرأتان في جسد واحد لقتل العجز. وقد آثرت نورا أن تختتم شهادتها بهذه العبارة: «كنتُ متمسكة بالذكرى الوحيدة حولي لميدان التحرير وللثورة: جسدي».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.