وزير الصناعة والنقل يكشف سبب ارتفاع أسعار الأسمنت: التصدير سيكون للفائض فقط    الأمم المتحدة: ندعو لتحقيق مستقل في استهداف فلسطينيين حاولوا الوصول للمساعدات بغزة    فصيل يسمي نفسه كتائب الشهيد محمد الضيف يتبنى هجوما صاروخيا على إسرائيل من سوريا    «رونالدو خطير».. مدرب منتخب ألمانيا يحذر لاعبيه قبل مواجهة البرتغال    "الهلال الأحمر" بالمدينة المنورة يستقبل أكثر من 52 ألف مكالمة ويباشر 14 ألف بلاغ خلال الموسم الأول من الحج    سُنن عيد الأضحى.. من سنة إبراهيم إلى سنة محمد صلى الله عليه وسلم    برلماني: توجيهات الرئيس للمجموعة الاقتصادية مرحلة جديدة أكثر تنافسية    حزب المؤتمر يقدم ورقة عمل لمجلس حقوق الانسان المصري حول تضمين المبادئ في برنامجه    فرص عمل للمصريين بالأردن براتب يصل إلى 350 دينار.. اعرف التفاصيل    بريطانيا تخطط لإنتاج 7000 سلاح بعيد المدى لتعزيز قوتها الاستراتيجية    محمد صلاح ينضم لقائمة الأكثر حصداً لجائزة رجل المباراة بدوريات أوروبا .. اعرف التفاصيل    «القاصد» يرأس لجنة اختيار عميد كلية التربية الرياضية بجامعة المنوفية    ريال مدريد ينافس باريس على الموهبة الأرجنتينية الجديدة    الفريق أحمد خليفة يعود إلى أرض الوطن عقب انتهاء زيارته إلى رواندا| فيديو    تامر حسني يشكر جمهوره على دعمهم بعد الأزمة الصحية له ولابنه آدم    وزير الثقافة: تعليق زيادة رسوم المصنفات الفنية والتعامل بالرسوم السابقة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع أداء إيجابي    الشيخ خالد الجندي: من يأكل أموال الناس بالباطل لا حج له    الأزهر للفتوى: الأضحية من الشاة تجزئ عن الشخص الواحد وعن أهل بيته مهما كثروا    أحكام السعي بين الصفا والمروة خطوة بخطوة | فيديو    جامعة سوهاج تطلق قافلة طبية بالمنشأة    عيد الأضحى 2025| دليلك الذكي لتخزين اللحوم بطريقة صحية    أيام التشريق.. موعدها وحكم صيامها وأفضل العبادات بها    محافظ الدقهلية: الانتهاء من إنشاء ورفع كفاءة وتطوير 5 منتجعات سياحية    وزير الثقافة: تعليق تنفيذ قرار زيادة رسوم المصنفات الفنية والتعامل بالرسوم السابقة    وزير العمل يلتقي مسؤولة ب"العمل الدولية" ويؤكد التزام مصر بمعاييرها    الشربيني يستقبل وفدًا من وزارتي الاستثمار والبلديات وهيئة المقاولين بالسعودية    وزير الإنتاج الحربي: حريصون على التعاون مع جهات الدولة لتحقيق التنمية الشاملة    تشغيل عيادات التأمين الصحي بالدقهلية خلال عيد الأضحى المبارك.. تعرف على الأماكن والمواعيد    الخلود يقطع إعارة أليو ديانج ويعيده للأهلي قبل المونديال    محافظ بني سويف يكرم الأمهات المثاليات بمسابقتي التنمية المحلية والتضامن    وافدان جديدان يستعدان لتمثيل إنتر في كأس العالم للأندية    الجباس: الحديث عن تواجدي في بيراميدز بسبب علاقتي مع ممدوح عيد "عبث"    استشاري: الاتحاد الأوروبي بدأ التلويح للمعاملة بالمثل بعدما ضاعف ترامب الرسوم الجمركية    وكيل صحة شمال سيناء يتفقد جاهزية مستشفى نخل المركزي لاستقبال عيد الأضحى    منظمة التحرير الفلسطينية: غزة تتعرض لإبادة برعاية أمريكية وصمت دولى    المشدد 10 سنوات لعاطل لاتجاره في المخدرات بشبرا الخيمة    بيطري القليوبية: ضبط 25.5 طن لحوم ودواجن غير صالحة للاستهلاك خلال شهر    مانشستر يونايتد مستعد لتلقي عروض لبيع سانشو    رئيس الهيئة الدولية للمسرح ينعى وفاة سيدة المسرح العربي سميحة أيوب    محافظ الفيوم: بدء تطبيق المحاور المرورية الجديدة أول أيام العيد    الداخلية تكشف تفاصيل فيديو قيام شخص بالتعدى على ابنته بالجيزة    الاتحاد السكندري: عبدالعاطي استقال على «الفيسبوك».. والمغادرة غير مقبولة    محافظ المنوفية يتفقد منظومة العمل بمركز الدراسات الوطنية    تطهير وتعقيم ونظافة الأماكن المعدة لصلاة عيد الأضحي المبارك بالقاهرة    وزير المالية: 50% من مستحقات الشركات في برنامج دعم الصادرات سيتم تسويتها من الضرائب أو الكهرباء    وزير الخارجية اللبناني ونظيره الإيراني يبحثان السبيل الأمثل لتطوير العلاقات الثنائية    توجيهات مهمة من رئيس الوزراء بشأن التحركات الدبلوماسية    رسالة دكتوراه تناقش تقييم جدوى تقنية الحقن الأسمنتي كعلاج فعال لكسور هشاشة العظام    مهرجان إيزيس الدولي ينعى سيدة المسرح العربي سميحة أيوب    رئيس أساقفة الكنيسة الأسقفية يهنئ رئيس الجمهورية وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى    "المطاعم السياحية": بحث ضرائب الملاهي الليلة وإطلاق شعار موحد للمنشأت    ضبط أصحاب شركة المقاولات المتورطة في التنقيب عن الآثار أسفل قصر ثقافة الطفل بالأقصر    موعد ومكان جنازة الفنانة سميحة أيوب    درجات الحرارة اليوم الثلاثاء 3 يونيو 2025 فى القاهرة والمحافظات    من الصفائح التكتونية إلى الكوارث.. كيف تحدث الزلازل ؟    مستشار الرئيس للشئون الصحية: مصر تشهد معدلات مرتفعة في استهلاك الأدوية    «كل حاجة هتبان».. هاني سعيد يرد على رحيل إدارة بيراميدز والدمج مع مانشستر سيتي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نورا أمين تحرّر الأنثى من حروبها اليومية
نشر في صوت البلد يوم 21 - 03 - 2017

ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ هذا السؤال قد يراود قارئ كتاب «تهجير المؤنث» (دار آفاق) للمصرية نورا أمين، الروائية والمُترجمة والممثلة والمخرجة المسرحية. وفي مستهلّ كتابها، الذي كتبته بالإنكليزية قبل أن تنقله بنفسها الى العربية، تقول أمين إن «مهنتها لا تستطيع أن تنقذها»، حين تسير في شوارع القاهرة وسط الناس، فتُجبَر على إغلاق جسدها، كما تغلقه السيدات والفتيات الأخريات. تضطر مجبرة أن تتشبّه بنساءٍ لم يحلمن ربما بالرقص مثلها، ولم يؤسسن منصات متعددة كي يعطوا صوتاً للمقهورين في المسرح وفي الحياة.
«تهجير المؤنث» هو عنوان العمل الذي يمكن التطلع اليه «كدراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العمومي». هو ليس عملاً نقدياً ولا فكرياً فحسب، أو هو ليس كذلك على النحو المعتاد في الأعمال العربية؛ حين تتعدد الإحالات من المراجع والتعريفات المنقولة بالحرف عن كتب الأسلاف كدليل على قوتها الموضوعية والعلمية، وأحياناً كثيرة كدليل على جفافها. إنه عمل فني أيضاً. تقول عنه نورا إنه «الأصل في كل ما كتبت». هو شيء يُشبه الشِعر من حيث كونه البذرة الخالصة، أو البيان السياسي وباعتبار أنه يحدد ملامح الاستيعاب الشخصي لتجربة الوجود الإنساني على هذه الأرض العنصرية من جهة والكريمة من جهة أخرى، في تضاد متواصل ومرهق.
تعبّر الكاتبة عما تريد قوله في شكل شهادة شخصية أولاً، فتحكي عن الأحاسيس والأفكار والصفعات التي تلقتها ولم تنسها بتفاصيلها المؤلمة والمهينة على نحو ما. ترويها بنبرة هادئة ليكون تأثيرها مضاعفاً. تستفز شهادات مماثلة من نساء وفتيات ومثقفات مصريات، يجدن في عمل نورا بلا شك، حقيقة أن وجعهن جماعياً. «الذاتية هنا ليست لعنة مطلقاً وإنما هي أداة ومنظور مفيدان للفهم». ولكن ليست هذه هي الفائدة الوحيدة للذاتية. لقد أُكلت التجربة النسوية في مصر وجُوبهت بضراوة من أجل ذلك الطابع الذاتي أصلاً. في الكثير من الأحيان تحاول الكاتبات إثبات أنهن يكتبن كما يكتب الرجال، أنهن يفكرن مثلهم، لأن خصوصيتهن معيبة من وجهة نظر الآخر. هنّ لا يحاولن رؤية ذلك الرجل كإنسان عادي أو مقاربة ما أنتجه من أدب كأدب فقط من دون أن يتماهين معه ويفقدن أنفسهن.
تجارب خاصة
مثقفات كثيرات ينظرن إلى زميلهن المثقف كأنه نصف إله، ولا يسألن فعلاً ما الذي غيَّره ذاك الكاتب الرجل؟ ألم تكن هذه الذاتية هي التي انطلقت منها ذات يومٍ أروى صالح في عملها «المبتسرون»، وهي تفك أسر تجارب لها مع مثقفي وسط البلد، بعدما اقتربت من عوالمهم ورأت نظرتهم المهتزة الى العالم وإلى أنفسهم؟
عرَّفت أروى ايضاً تصوراتهم عن أهداف الأيديولوجية النفعية وهي التي صدقتهم يوماً. وخرجت بنتائج عامة من التجربة الشخصية (لأن لا تجربة شخصية صماء)، ما جعل كتابها يبقى حاضراً حتى بعد انتحارها، وتُقبل مؤسسات ثقافية مثل »مكتبة الأسرة» على إعادة إصداره وتوزيعه اليوم لهذا السبب، إضافة إلى فنيَّته الرفيعة طبعاً.
من هنا يمكننا أن نرى عمل نورا أمين أو أن نعيد رؤيته- على ضوء أعمالها الأخرى في القصة والرواية والمقال والمسرح- وهو في مكانه الطبيعي إلى جانب أعمال كاتبات أخريات، غير عربيات مثلاً، كأعمال سيمون دو بوفوار في مذكراتها المختلفة وفي عملها «الجنس الثاني» بخاصة. والمقصود هنا لناحية رصده هذه التفرقة المبكرة، وفي إجبار الأنثى على أن تصير أنثى مع الوقت، مغتربة أو بعيدة من نفسها.
حضور ذلك التاريخ البديل ربما، للكاتبات النساء وللملايين من المناضلات اليوميات في شتى أنحاء العالم، هو حضور راسخ بالفعل وباللغة في نص «تهجير المؤنث». كُتب هذا العمل أولاً بالإنكليزية بدعم من مؤسسة berlin 60 pages، وهكذا فإنه ربما يكون قُدّم أصلاً لجمهور أجنبي، «ولولا أن العمل كان لا بد أن يُكتب باللغة الإنكليزية لما تم». فلغة الجسد الأم هي العربية وهي اللغة التي مثلت أداة التنكيل الأول الذي تشتكي منه أصلاً الكاتبة. وكأنها تستعين بلغة ثانية خاصة بها تهضم فيها ميراث اللغة الأولى من دون أن تفزعها في عريها، ثم هي تعود نورا بعدما أطلقت التجربة إلى آخرها فترجمت بنفسها النص إلى لغتها الأولى، ونشرته عربياً الآن. لم يكن هذا تخففاً من الحِمل الثقيل، لأن نورا بالطبع عادت إلى حمله لاحقاً، أو أنه كان تخففاً موقتاً، نوعاً من التحايل حتى تتم عملية الكشف، لكنه أتاح شكلاً من تعدد اللغات الضمنية داخل النص.
تحضر الكاتبة الفرنسية آني إرنو التي سبق أن ترجمت لها نورا أمين روايتين عن الفرنسية أعادت دار «أزمنة» نشرهما أخيراً في كتاب واحد- في أسلوب نورا الحاد والناعم كملقاط، في تدفقها في رواية «الألم بلا توقف» (تقول مثلاً نورا عن أول مرة تعبر فيها ميدان التحرير وهي طفلة: لم أكن بعد خائفة. كنت لا أزال تحت وهم حماية الأم). اضافة الى استنادها بالطبع إلى التجربة الشخصية وثقتها في قدرتها على التعبير.
في المقاطع التي لا تحمل عناوين ولا أرقاماً وتطلق هيكل النص مرتاحاً من دون مطبات، تتحرك نورا من الطفولة إلى الشباب في مصر، تتكلم عما حدث في «ميدان التحرير» من تحرشات واغتصاب جماعي متكرر أيام الثورة المصرية.
صدمة نفسية
هي تبدأ من الحلم الوردي وتصل إلى الواقع، وتُعيد التذكير بتاريخ أُريد نسيانه وأزيح بقوة إلى العتمة. نحن الذين عِشنا الحكاية سيكون الأمر مريراً لكنه مفهوم، أما ما مثَّل الصدمة الأكبر فهي حادثة التحرش النفسي أو الانتهاك الذي تعرضت له في مطار مدينة ألمانية صغيرة. أعرف ما روته نورا عن نظرات الألمان تجاه الأجانب وخصوصاً من أصول عربية، ولكن ما فعلته معها نادلة مقهى في كوبنهاغن حين دفعتها دفعاً خارج الحيز الذي كانت تراه كحيز احتضان للغرباء والمهاجرين يطرح سؤالاً: إذاً أين سترتاح النساء؟
مجدداً: ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ ليست مصادفة أن تهاجر كاتبات اشتهرن في القاهرة ب «كاتبات جيل التسعينات». كثيرات منهن انتقلن للعيش في أوروبا وأميركا وكندا. إيمان مرسال ومي التلمساني وميرال الطحاوي وطبعاً نورا أمين، مثلما هي ليست مصادفة أن أروى صالح التي تمر كثيراً بين صفحات عمل نورا قد انتحرت بعدما كتبت أو حاولت أن تكتب أزمتها الشخصية والعامة في عملها المغضوب عليه.
هي بالطبع ليست دعوة للتشاؤم، هي أصلاً ليست دعوة، ما يحدث يومياً لا يمكن طرحه على طاولة الحرب الأهلية بين الإناث والذكور في مصر أو في الدول العربية أو في أي مكان في العالم. لكنّ الحل الوحيد هو رؤيته كما هو بأبعاده الحقيقية كطريقة للتفكير وسلوك لنظام كامل، لا على الرؤساء فقط، لكن أيضاً على السائرين بلا قصد في الشوارع.
نورا أمين حررت الجسد بالفن أكثر من مرة، كما في روايتها «قبل الموت» حين اتحدت امرأتان في جسد واحد لقتل العجز. وقد آثرت نورا أن تختتم شهادتها بهذه العبارة: «كنتُ متمسكة بالذكرى الوحيدة حولي لميدان التحرير وللثورة: جسدي».
ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ هذا السؤال قد يراود قارئ كتاب «تهجير المؤنث» (دار آفاق) للمصرية نورا أمين، الروائية والمُترجمة والممثلة والمخرجة المسرحية. وفي مستهلّ كتابها، الذي كتبته بالإنكليزية قبل أن تنقله بنفسها الى العربية، تقول أمين إن «مهنتها لا تستطيع أن تنقذها»، حين تسير في شوارع القاهرة وسط الناس، فتُجبَر على إغلاق جسدها، كما تغلقه السيدات والفتيات الأخريات. تضطر مجبرة أن تتشبّه بنساءٍ لم يحلمن ربما بالرقص مثلها، ولم يؤسسن منصات متعددة كي يعطوا صوتاً للمقهورين في المسرح وفي الحياة.
«تهجير المؤنث» هو عنوان العمل الذي يمكن التطلع اليه «كدراسة ثقافية عن التعديات على الجسد الأنثوي في المجال العمومي». هو ليس عملاً نقدياً ولا فكرياً فحسب، أو هو ليس كذلك على النحو المعتاد في الأعمال العربية؛ حين تتعدد الإحالات من المراجع والتعريفات المنقولة بالحرف عن كتب الأسلاف كدليل على قوتها الموضوعية والعلمية، وأحياناً كثيرة كدليل على جفافها. إنه عمل فني أيضاً. تقول عنه نورا إنه «الأصل في كل ما كتبت». هو شيء يُشبه الشِعر من حيث كونه البذرة الخالصة، أو البيان السياسي وباعتبار أنه يحدد ملامح الاستيعاب الشخصي لتجربة الوجود الإنساني على هذه الأرض العنصرية من جهة والكريمة من جهة أخرى، في تضاد متواصل ومرهق.
تعبّر الكاتبة عما تريد قوله في شكل شهادة شخصية أولاً، فتحكي عن الأحاسيس والأفكار والصفعات التي تلقتها ولم تنسها بتفاصيلها المؤلمة والمهينة على نحو ما. ترويها بنبرة هادئة ليكون تأثيرها مضاعفاً. تستفز شهادات مماثلة من نساء وفتيات ومثقفات مصريات، يجدن في عمل نورا بلا شك، حقيقة أن وجعهن جماعياً. «الذاتية هنا ليست لعنة مطلقاً وإنما هي أداة ومنظور مفيدان للفهم». ولكن ليست هذه هي الفائدة الوحيدة للذاتية. لقد أُكلت التجربة النسوية في مصر وجُوبهت بضراوة من أجل ذلك الطابع الذاتي أصلاً. في الكثير من الأحيان تحاول الكاتبات إثبات أنهن يكتبن كما يكتب الرجال، أنهن يفكرن مثلهم، لأن خصوصيتهن معيبة من وجهة نظر الآخر. هنّ لا يحاولن رؤية ذلك الرجل كإنسان عادي أو مقاربة ما أنتجه من أدب كأدب فقط من دون أن يتماهين معه ويفقدن أنفسهن.
تجارب خاصة
مثقفات كثيرات ينظرن إلى زميلهن المثقف كأنه نصف إله، ولا يسألن فعلاً ما الذي غيَّره ذاك الكاتب الرجل؟ ألم تكن هذه الذاتية هي التي انطلقت منها ذات يومٍ أروى صالح في عملها «المبتسرون»، وهي تفك أسر تجارب لها مع مثقفي وسط البلد، بعدما اقتربت من عوالمهم ورأت نظرتهم المهتزة الى العالم وإلى أنفسهم؟
عرَّفت أروى ايضاً تصوراتهم عن أهداف الأيديولوجية النفعية وهي التي صدقتهم يوماً. وخرجت بنتائج عامة من التجربة الشخصية (لأن لا تجربة شخصية صماء)، ما جعل كتابها يبقى حاضراً حتى بعد انتحارها، وتُقبل مؤسسات ثقافية مثل »مكتبة الأسرة» على إعادة إصداره وتوزيعه اليوم لهذا السبب، إضافة إلى فنيَّته الرفيعة طبعاً.
من هنا يمكننا أن نرى عمل نورا أمين أو أن نعيد رؤيته- على ضوء أعمالها الأخرى في القصة والرواية والمقال والمسرح- وهو في مكانه الطبيعي إلى جانب أعمال كاتبات أخريات، غير عربيات مثلاً، كأعمال سيمون دو بوفوار في مذكراتها المختلفة وفي عملها «الجنس الثاني» بخاصة. والمقصود هنا لناحية رصده هذه التفرقة المبكرة، وفي إجبار الأنثى على أن تصير أنثى مع الوقت، مغتربة أو بعيدة من نفسها.
حضور ذلك التاريخ البديل ربما، للكاتبات النساء وللملايين من المناضلات اليوميات في شتى أنحاء العالم، هو حضور راسخ بالفعل وباللغة في نص «تهجير المؤنث». كُتب هذا العمل أولاً بالإنكليزية بدعم من مؤسسة berlin 60 pages، وهكذا فإنه ربما يكون قُدّم أصلاً لجمهور أجنبي، «ولولا أن العمل كان لا بد أن يُكتب باللغة الإنكليزية لما تم». فلغة الجسد الأم هي العربية وهي اللغة التي مثلت أداة التنكيل الأول الذي تشتكي منه أصلاً الكاتبة. وكأنها تستعين بلغة ثانية خاصة بها تهضم فيها ميراث اللغة الأولى من دون أن تفزعها في عريها، ثم هي تعود نورا بعدما أطلقت التجربة إلى آخرها فترجمت بنفسها النص إلى لغتها الأولى، ونشرته عربياً الآن. لم يكن هذا تخففاً من الحِمل الثقيل، لأن نورا بالطبع عادت إلى حمله لاحقاً، أو أنه كان تخففاً موقتاً، نوعاً من التحايل حتى تتم عملية الكشف، لكنه أتاح شكلاً من تعدد اللغات الضمنية داخل النص.
تحضر الكاتبة الفرنسية آني إرنو التي سبق أن ترجمت لها نورا أمين روايتين عن الفرنسية أعادت دار «أزمنة» نشرهما أخيراً في كتاب واحد- في أسلوب نورا الحاد والناعم كملقاط، في تدفقها في رواية «الألم بلا توقف» (تقول مثلاً نورا عن أول مرة تعبر فيها ميدان التحرير وهي طفلة: لم أكن بعد خائفة. كنت لا أزال تحت وهم حماية الأم). اضافة الى استنادها بالطبع إلى التجربة الشخصية وثقتها في قدرتها على التعبير.
في المقاطع التي لا تحمل عناوين ولا أرقاماً وتطلق هيكل النص مرتاحاً من دون مطبات، تتحرك نورا من الطفولة إلى الشباب في مصر، تتكلم عما حدث في «ميدان التحرير» من تحرشات واغتصاب جماعي متكرر أيام الثورة المصرية.
صدمة نفسية
هي تبدأ من الحلم الوردي وتصل إلى الواقع، وتُعيد التذكير بتاريخ أُريد نسيانه وأزيح بقوة إلى العتمة. نحن الذين عِشنا الحكاية سيكون الأمر مريراً لكنه مفهوم، أما ما مثَّل الصدمة الأكبر فهي حادثة التحرش النفسي أو الانتهاك الذي تعرضت له في مطار مدينة ألمانية صغيرة. أعرف ما روته نورا عن نظرات الألمان تجاه الأجانب وخصوصاً من أصول عربية، ولكن ما فعلته معها نادلة مقهى في كوبنهاغن حين دفعتها دفعاً خارج الحيز الذي كانت تراه كحيز احتضان للغرباء والمهاجرين يطرح سؤالاً: إذاً أين سترتاح النساء؟
مجدداً: ما الذي يستطيع أن يقدمه الوعي الكامل بالحقيقة للمثقفة المصرية؟ ليست مصادفة أن تهاجر كاتبات اشتهرن في القاهرة ب «كاتبات جيل التسعينات». كثيرات منهن انتقلن للعيش في أوروبا وأميركا وكندا. إيمان مرسال ومي التلمساني وميرال الطحاوي وطبعاً نورا أمين، مثلما هي ليست مصادفة أن أروى صالح التي تمر كثيراً بين صفحات عمل نورا قد انتحرت بعدما كتبت أو حاولت أن تكتب أزمتها الشخصية والعامة في عملها المغضوب عليه.
هي بالطبع ليست دعوة للتشاؤم، هي أصلاً ليست دعوة، ما يحدث يومياً لا يمكن طرحه على طاولة الحرب الأهلية بين الإناث والذكور في مصر أو في الدول العربية أو في أي مكان في العالم. لكنّ الحل الوحيد هو رؤيته كما هو بأبعاده الحقيقية كطريقة للتفكير وسلوك لنظام كامل، لا على الرؤساء فقط، لكن أيضاً على السائرين بلا قصد في الشوارع.
نورا أمين حررت الجسد بالفن أكثر من مرة، كما في روايتها «قبل الموت» حين اتحدت امرأتان في جسد واحد لقتل العجز. وقد آثرت نورا أن تختتم شهادتها بهذه العبارة: «كنتُ متمسكة بالذكرى الوحيدة حولي لميدان التحرير وللثورة: جسدي».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.