في العام 1969، ومع المدّ الواسع الذي كانت تشهده الثورة الفلسطينية، بادر المخرج محمد صالح كيالي إلى إخراج فيلم بعنوان «ثلاث عمليات في فلسطين». جاء الفيلم مليئاً بالنوايا الحسنة، وحقق نجاحاً جماهيرياً ملحوظاً، نظراً لتشوّق المشاهدين لرؤية فلسطين على الشاشة، وربما دعمها وثورتها من خلال هذه المشاهدة، لكن الفيلم، في الوقت نفسه، لم يفلت من فخّ النمطية والتقليدية في الرؤية والتناول، والتجارية في البناء والعرض. اليوم بعد قرابة خمسين عاماً يكرّر المخرج رضا الباهي، الأمر في فيلمه «زهرة حلب»، لكن مع المدّ الذي تشهده تنظيمات من طراز «جبهة النصرة»، و «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش). في حالة نادرة، وفي عرضه العالمي الأول، افتتحت «أيام قرطاج السينمائية»، دورتها السابعة والعشرين، وهي الدورة الاستثنائية، لأنها تتوافق مع خمسين عاماً من عمر الأيام، بفيلم «زهرة حلب»، جديد المخرج رضا الباهي، وبطولة النجمة هند صبري، وهو الفيلم الذي سبقت عرضَه العالمي الأول هذا، ضجّة وجدل واسع متعلق بترشيحه رسمياً تونسياً لخوض منافسات جائزة «أوسكار أفضل فيلم أجنبي»، مطلع العام 2017. «زهرة حلب»، كما يقول عنوانه صراحة، وكما قيل وكتب عنه، يتناول حكاية التحاق شاب تونسي بالتنظيمات الإرهابية، واشتراكه في الحرب الدائرة في سورية، ولحاق والدته به إلى حلب لاستعادته إلى حضنها. ما يجعل الفيلم مفتاحاً لتناول أكثر من قضية في آن: تونس. سورية. التنظيمات الإرهابية. التغرير بالشباب. سؤال السينما.. التشريح والتحليل لم يسأل «زهرة حلب» نفسه سؤال: لماذا أضحت تونس أحد أبرز البلدان التي تضخّ قادة ومقاتلين في شرايين هذين التنظيمين؟ تونس التي طالما عرفنا أنها من أهمّ البلدان العربية، والأفريقية، ودول العالم الثالث»، التي خاضت تجارب في التنمية، والتحديث، والعلمنة، والتعايش ما بين الأديان، تماماً كما قدّمت النموذج والقدوة في مجال الثورات الشعبية، مرة تلو أخرى، وصولاً إلى فاتحة «الربيع العربي»، مع بوعزيزي، وبوسعيد، والأسماء التي أضحت أقانيم يعرفها الجميع. وفي وقت كان يمكن للمرء توقّع أن تأخذ تونس قصب المبادرة والريادة، كما في «الثورة»، كذلك في إعادة بناء الدولة، وترسيخ وتعميق التجربة الديموقراطية، والمضي على دروب التنمية، والتحديث... إلا أن ما حصل بعد ذاك مثّل انتكاسة غير خافية، دفع البلد أثمانها من دم أبنائه، أولاً، قبل أن يرتبط جزء من اسمه بحكاية العنف والتطرّف في المنطقة والعالم. منطقياً، كان من المُنتظر أن يقوم صاحب «شمس الضباع» بتناول هذه الظاهرة تشريحاً وتحليلاً، ليس فقط على مستوى أسباب ارتباط تونس البلد، بتصدير أفراد عنيفين إلى بلدان الجوار، والبلدان البعيدة، وكذلك تفشّي هذه الظاهرة في الهوامش المجتمعية والجغرافية التونسية ذاتها، ومن ثم مدّ أصابعها القاتلة في الحياة الحزبية التونسية العريقة (اغتيال شكري بلعيد، ومحمد براهمي 2013، مثلاً)، ومهاجمة مرافق البلد وصورته، بما لا يختلف عن أكثر البلدان تاريخاً في الأصولية والمحافظة بل والانغلاق والعنف. كما كان من المُنتظر أن تتحوّل السينما بين أيدي مخرج من هذا الطراز إضافةً في التراكم المعرفي المؤسس لنسف هذه الظاهرة من الذهنية، والسلوك، لاسيما أوساط الشباب، المخزن الأساسي لهذا الضخّ. يميل «زهرة حلب» إلى التقليدية في حكاية مراد؛ شاب في الثامنة عشرة من عمره، وحيد لأبوين منفصلين، يبدوان على قدر من «السلوك الحضاري»، إذ رغم الانفصال بينهما، إلا أن هذا لا يمنعهما من اللقاء والحوار والنقاش، وكذلك المضي في «إجراءات» التقاضي! والعناية بابنهما الشاب، وتربيته وفق فضاءات أسرة بورجوازية متوسطة، جيدة الحال، بما يمكّنها من توفير المعيشة اللائقة للفتى، غرفة مستقلة وحاجياته الإلكترونية من لابتوب وموبايل، وأيضاً وسائل ممارسة الهواية من الغيتار الكهربائي، إلى الغيتار العادي. الشاب أيضاً يرتبط بعلاقة جيدة مع خالته، التي لا تنتمي للوسط الشعبي العام، لا ممارسةً، ولا طراز حياة. ولديه صديقة؛ شابة جميلة. نحن في بيئة البورجوازية الوسطى في المجتمع التونسي، متمتعاً بأبرز سماته العامة، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي. لكنه، ومع هذا التأثيث الغني على مستوى الشخصيات، إلا أن الفيلم بقي فارغ اليدين من سيناريو يمكن له معرفة ماذا يفعل بشخصياته هذه، بل أزهق الثلث الأول منه في الدوران بين هذه الشخصيات، من دون أن يكون لهذا الدوران دور تأسيسي في ما سيحصل بعد، في انكسارٍ للحكاية، ولننتقل إلى ما يبدو أنه جزء من فيلم ثانٍ، مختلف تماماً، على مستوى الشخصيات، بخاصة شخصية الأم سلمى، والشاب مراد، وعلى مستوى الوقائع، والصلة.
مشكلة السيناريو.. مأزق الشخصيات ينبني السيناريو على أربع حركات، التي تأخذ هيئة «ألعاب»، على النحو التالي: الأفغنة. التغابي. الاكتشاف. الإنقاذ. يمرّ الفيلم بهذه الأطوار، من دون مفاجآت، أو انعطافات، أو اقتراحات ذكية، سواء على مستوى المعالجة، أو على مستوى السرد، بل إن «زهرة حلب» لا يخيّب ظنّ أكثر الخيارات بساطة، في الميل إلى الصدفة والحلول الجاهزة، في أكثر نماذجها تلفيقاً. الحكاية سيدة الفيلم، مع أنها حكاية تخلو من أي جديد، أو مدهش، أو غير مألوف: شاب يقع في براثن تنظيم إرهابي، ويذهب إلى حلب، فتلحقه والدته إلى حلب لتسترده، ويكون أن... يعيد تكرار أكثر الميلودرامات فجاجة، في السينما المصرية، حتى لا نقول الهندية. «حكمتك يا رب». الانسياق أو الانسحاق لسطوة الحكاية المُمعنة في التبسيط والسذاجة، جعل فيلم «زهرة حلب»، يتجرأ حتى على ما يعرفه المشاهد في أبسط حالاته، وما يتطلّبه التناول الجدّي لظاهرة على هذا القدر من الخطورة، وما راكمه فن السينما، في سياق تصديه للآفات السياسية والاجتماعية والثقافية، في أفلام نقد سياسي، وتحليل اجتماعي، وتفكيك ثقافي، وأطروحات فكرية، أثارت أسئلة وجدلاً، فغدت من عيون المُنجز السينمائي العالمي. «زهرة حلب» يتخلّى عن المهمة طوعاً، وينشغل بتفاصيل أضحت عيوباً للفيلم، وعمّقت مأزق الشخصيات. في الحركة الأولى من الفيلم، التي تمكن تسميتها «لعبة الأفغنة»، يعزل الفيلم الأسرة وأفرادها، وكذلك العصابة المتطرفة، عن البيئة السياسية والاجتماعية التونسية، وعن المؤثرات العامة، التي باتت تساهم في صوغ إنسان هذا الزمان. وقت ضائع في عرض فكرة أن يقوم «صديق سوء»، بالتغرير بالشاب مراد، وأخذه إلى إرهابي متسلّط، عنيف. يُخضعه للتنظيم، ويدرّبه على استخدام السلاح، ومن ثمّ يرافقه إلى حلب (دعك من أنه سيتحوّل إلى مجرد مقاتل تحت إمرة مراد). هل يؤمن الفيلم وكاتباه بأن القصة قصة تغرير يقوم به «صديق سوء»؟ ترى ما الذي يجعل شاباً مثل مراد يقع في براثن هذا التغرير؟ في الحركة الثانية، يعتمد فيلم «زهرة حلب» أسلوب «تغابي» أو «تعامي» شخصياته المحيطة بمراد، وعدم انتباهها أو رؤيتها، ومن ثم مبادرتها، لإنقاذ الشاب مما هو مُنزلق إليه، بل إن الخالة، وعندما يخبرها مراد صراحةً بما يفكّر فيه، ويعزم عليه، تسأله عن والديه، في محاولة منها للربط بين ما يجرى لمراد من تحوّلات فكرية، وانفصال والديه وطلاقهما، في منطق غريب! لا أحد ينتبه إلى «أفغنة» مراد، التي تأخذ قرابة النصف الأول من الفيلم، لنجد أنفسنا أمام عملية تتم بيسر. من دون أسئلة، أو جدل مع الذات، أو شكوك. ومن دون محاولة للمواربة، أو التخفي، أو السرية. ومن دون خوف من رقابة مجتمعية، أو أجهزة أمنية. الشخصيات المأزقية تهرب مما ينبغي أن تراه، ومراد لا يقلّ عنها وقوعاً في المأزق، ليبدو شخصية سلبية، مُنقادة، أقرب إلى الشخصية المهزوزة أصلاً، التي قليلاً ما تثير أسئلة قلقة تجاه الذات، والمحيط، والمجتمع، وتجاه القضايا العامة. يتعلّق مراد بقصة أن تضع أمه وخالته «الحجاب»، وفي أفقه أن تضعا «النقاب». طرح شكلي متردّد، وخجول، وعلى شكل رجاء، لفتى سيبقى حليق الذقن، في الشقّ التونسي من الفيلم، وسيبقى يتناول الطعام بيده اليسرى، مثلاً. وفي استكمال لهذا، فإن الفيلم يعتمد فكرة أن عملية «الأفغنة»، وعلى رغم ملامحها الظاهرة، في القول والفعل والكلام والسلوك، إنما هي عملية متعالية على الاكتشاف، إلا بعد فوات الأون. لا سلمى، ولا الوالد، ولا الخالة، ولا الصديقة، وهم جميعهم من طراز المثقف الذي على صلة بالحياة ووسائلها وأساليبها... لا المدرسة، ولا رفاق البكالوريا... لا أحد منهم سوف يفكر للحظة في ما يجرى لمراد، الذي لم يكن يخفي ما هو عليه، بل إن الاكتشاف سيأتي بلمحةٍ بعد فوات الأوان، وبطريقة بالغة السذاجة: تدخل سلمى إلى غرفة ابنها، وترى أشياءه، ومن بينها راية «جبهة النصرة»! الحلّ الفردي.. لعبة الاستخبارات تذهب سلمى إلى الحلّ الفردي، الأخطر، والمتلخّص بفكرة أن تلحق بابنها إلى حلب لاسترداده. لن تُعلن هذا، ولن تقوله، ولن تختار طريق توسّل العودة، والاستعطاف، بل ستختار أسلوب «اللعبة الاستخباراتية»، من خلال الادّعاء بأنها مجاهدة، ما يعني إيمانها بأنها قادرة على خداع هذه التنظيمات، واختراقها، والوصول إلى ابنها، وإقناعه بالعودة برفقتها إلى البيت، حتى لا نقول استرداده وإجباره على العودة معها. صحيح أن الفيلم أشار إلى مشاركة سلمى في إحدى التظاهرات، وكان اختار لها مهنة الإسعاف الميداني، وهي المهنة الأقرب إلى العمل الفدائي، فهل هذا يكفي، ويبرر، أن تختار فكرة اللحاق بالابن إلى حلب، بطريقة استخباراتية؟ وهل الحل الفردي هذا هو البديل العملي لحركة أمهات أولئك الشباب المُغرَّر بهم، من قضى منهم، ومن ما زال على قيد الحياة؟ الفيلم الذي لم يؤسّس لرؤية منهجية ذات علاقة بظاهرة الإرهاب، ومأزق نزف تونس لشباب منها، يلتحقون بهذه التنظيمات، وهناك من يقول إنهم يصبحون الأكثر عنفاً بين «المقاتلين المهاجرين»، عرباً وغير عرب؛ الفيلم الذي أعفى نفسه من مهماته وأسئلته الحقيقية، ومال إلى الحكاية، كان من الطبيعي له أن ينهج خيار الحلّ الفردي، الذي لا نبالغ إذا قلنا إنه ليس خياراً أصلاً، وليس حلاً فعلاً. يزيد من المشكلة أن الفيلم أخذ هذا الحلّ بوصفه جزءاً أساسياً من خيارات شخصياته، من دون الكثير من الجدل. الوالد؛ عنيف المسلك، لن يناقش مع طليقته سلمى سلامة الفكرة، من حيث جوهرها فكرةً وخياراً، أو من حيث المبدأ أو التنفيذ، بل تحدّث عن موضوع قدرته على المشاركة في دفع التكاليف المادية لإنقاذ ولده! التنميط... آفة السينما التجارية الجزء الأخير من الفيلم، والذي تمّ الإعداد له فيلمياً (سردياً وإنتاجياً) على عجل، ليدور في ما يُفترض أنها حلب، وفي أوساط التنظيمات الإرهابية (جبهة النصرة، داعش)، يسم الفيلم بالتقليدية من حيث الرؤية والبناء والسرد. لا يترك «زهرة حلب» شيئاً مما ورد في الصورة النمطية عن التنظيمات الإرهابية، وإلا يقوله، بل سيزيد عليه مما لديه، حتى لو كان مخالفاً للواقع، ومجافياً للوقائع. لن نقف كثيراً عند قصة «أبو الوليد»، الخارج من كهف التاريخ، ونذكّر بأن كلاً من البغدادي والجولاني والعدناني والشيشاني والمحيسني والتونسي والسوري، وغيرهم الكثير إنما هم من أجيال الشباب، الذين لا يتجاوزون الأربعينات من العمر، لا الكهول الطاعنين حدّ الموات. كما لن نقول إن قصص السبايا وبيعهن أو اغتصابهن، لم تُؤثر عن حلب وأريافها، بل عن الموصل وضواحيها. وعن «داعش»، وليس «النصرة»! ما سنقوله هنا: إن التقليدية والتنميط، لا ينفعان في تعميق أيّ فهم لأمر، ولا في التأسيس المعرفي لأيّ ظاهرة، بل هما أسلوبان لدغدغة مشاعر وعواطف الجمهور، والانسياق وراء غرائزه، والانتساب إلى وسائل الإعلام كالتلفزيون والصحف والمجلات، أكثر من وسائل الثقافة وعلى رأسها السينما. ما الجديد، أو العميق، الذي يمكن أن يكون عندما يصوّر فيلم القتل بدم بارد، أو الانشغال بالحديث عن الهوس والسعار الجنسي، والاغتصاب، وانتهاك الحرمات، عند قادة وعناصر هذه التنظيمات؟ وهل هذه هي حدود دور الفيلم السينمائي، الروائي بخاصة، حتى لو كان تجارياً؟ ولا بد لاستكمال التقليدية والتنميط من متلازمات مُصاحبة، مثل الاستسهال البالغ في الحلول، والصدفة الخارقة في الوقائع، واللامنطقية العجيبة في النتائج. ومن المؤسف أن هذا كله متوافر بوفرة في «زهرة حلب»، إلى درجة أنه يغدو من مرتكزات الفيلم، ويضحي في سبيلها بالغايات كلها، بما فيها تلك التي «تبرر الوسيلة». ثلاث عمليات في كويرس تجهز على المنطق في الفيلم وتنتهي إلى نحو لا نعلم إلى أي درجة يفيد المشاهد. عظمة الفيلم أي فيلم، أن يخرج المشاهد منه وهو يعرف أكثر، ويحسّ أعمق، وينتمي أقوى... فهل تحقق هذا في «زهرة حلب»؟ في العام 1969، ومع المدّ الواسع الذي كانت تشهده الثورة الفلسطينية، بادر المخرج محمد صالح كيالي إلى إخراج فيلم بعنوان «ثلاث عمليات في فلسطين». جاء الفيلم مليئاً بالنوايا الحسنة، وحقق نجاحاً جماهيرياً ملحوظاً، نظراً لتشوّق المشاهدين لرؤية فلسطين على الشاشة، وربما دعمها وثورتها من خلال هذه المشاهدة، لكن الفيلم، في الوقت نفسه، لم يفلت من فخّ النمطية والتقليدية في الرؤية والتناول، والتجارية في البناء والعرض. اليوم بعد قرابة خمسين عاماً يكرّر المخرج رضا الباهي، الأمر في فيلمه «زهرة حلب»، لكن مع المدّ الذي تشهده تنظيمات من طراز «جبهة النصرة»، و «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش). في حالة نادرة، وفي عرضه العالمي الأول، افتتحت «أيام قرطاج السينمائية»، دورتها السابعة والعشرين، وهي الدورة الاستثنائية، لأنها تتوافق مع خمسين عاماً من عمر الأيام، بفيلم «زهرة حلب»، جديد المخرج رضا الباهي، وبطولة النجمة هند صبري، وهو الفيلم الذي سبقت عرضَه العالمي الأول هذا، ضجّة وجدل واسع متعلق بترشيحه رسمياً تونسياً لخوض منافسات جائزة «أوسكار أفضل فيلم أجنبي»، مطلع العام 2017. «زهرة حلب»، كما يقول عنوانه صراحة، وكما قيل وكتب عنه، يتناول حكاية التحاق شاب تونسي بالتنظيمات الإرهابية، واشتراكه في الحرب الدائرة في سورية، ولحاق والدته به إلى حلب لاستعادته إلى حضنها. ما يجعل الفيلم مفتاحاً لتناول أكثر من قضية في آن: تونس. سورية. التنظيمات الإرهابية. التغرير بالشباب. سؤال السينما.. التشريح والتحليل لم يسأل «زهرة حلب» نفسه سؤال: لماذا أضحت تونس أحد أبرز البلدان التي تضخّ قادة ومقاتلين في شرايين هذين التنظيمين؟ تونس التي طالما عرفنا أنها من أهمّ البلدان العربية، والأفريقية، ودول العالم الثالث»، التي خاضت تجارب في التنمية، والتحديث، والعلمنة، والتعايش ما بين الأديان، تماماً كما قدّمت النموذج والقدوة في مجال الثورات الشعبية، مرة تلو أخرى، وصولاً إلى فاتحة «الربيع العربي»، مع بوعزيزي، وبوسعيد، والأسماء التي أضحت أقانيم يعرفها الجميع. وفي وقت كان يمكن للمرء توقّع أن تأخذ تونس قصب المبادرة والريادة، كما في «الثورة»، كذلك في إعادة بناء الدولة، وترسيخ وتعميق التجربة الديموقراطية، والمضي على دروب التنمية، والتحديث... إلا أن ما حصل بعد ذاك مثّل انتكاسة غير خافية، دفع البلد أثمانها من دم أبنائه، أولاً، قبل أن يرتبط جزء من اسمه بحكاية العنف والتطرّف في المنطقة والعالم. منطقياً، كان من المُنتظر أن يقوم صاحب «شمس الضباع» بتناول هذه الظاهرة تشريحاً وتحليلاً، ليس فقط على مستوى أسباب ارتباط تونس البلد، بتصدير أفراد عنيفين إلى بلدان الجوار، والبلدان البعيدة، وكذلك تفشّي هذه الظاهرة في الهوامش المجتمعية والجغرافية التونسية ذاتها، ومن ثم مدّ أصابعها القاتلة في الحياة الحزبية التونسية العريقة (اغتيال شكري بلعيد، ومحمد براهمي 2013، مثلاً)، ومهاجمة مرافق البلد وصورته، بما لا يختلف عن أكثر البلدان تاريخاً في الأصولية والمحافظة بل والانغلاق والعنف. كما كان من المُنتظر أن تتحوّل السينما بين أيدي مخرج من هذا الطراز إضافةً في التراكم المعرفي المؤسس لنسف هذه الظاهرة من الذهنية، والسلوك، لاسيما أوساط الشباب، المخزن الأساسي لهذا الضخّ. يميل «زهرة حلب» إلى التقليدية في حكاية مراد؛ شاب في الثامنة عشرة من عمره، وحيد لأبوين منفصلين، يبدوان على قدر من «السلوك الحضاري»، إذ رغم الانفصال بينهما، إلا أن هذا لا يمنعهما من اللقاء والحوار والنقاش، وكذلك المضي في «إجراءات» التقاضي! والعناية بابنهما الشاب، وتربيته وفق فضاءات أسرة بورجوازية متوسطة، جيدة الحال، بما يمكّنها من توفير المعيشة اللائقة للفتى، غرفة مستقلة وحاجياته الإلكترونية من لابتوب وموبايل، وأيضاً وسائل ممارسة الهواية من الغيتار الكهربائي، إلى الغيتار العادي. الشاب أيضاً يرتبط بعلاقة جيدة مع خالته، التي لا تنتمي للوسط الشعبي العام، لا ممارسةً، ولا طراز حياة. ولديه صديقة؛ شابة جميلة. نحن في بيئة البورجوازية الوسطى في المجتمع التونسي، متمتعاً بأبرز سماته العامة، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي. لكنه، ومع هذا التأثيث الغني على مستوى الشخصيات، إلا أن الفيلم بقي فارغ اليدين من سيناريو يمكن له معرفة ماذا يفعل بشخصياته هذه، بل أزهق الثلث الأول منه في الدوران بين هذه الشخصيات، من دون أن يكون لهذا الدوران دور تأسيسي في ما سيحصل بعد، في انكسارٍ للحكاية، ولننتقل إلى ما يبدو أنه جزء من فيلم ثانٍ، مختلف تماماً، على مستوى الشخصيات، بخاصة شخصية الأم سلمى، والشاب مراد، وعلى مستوى الوقائع، والصلة.
مشكلة السيناريو.. مأزق الشخصيات ينبني السيناريو على أربع حركات، التي تأخذ هيئة «ألعاب»، على النحو التالي: الأفغنة. التغابي. الاكتشاف. الإنقاذ. يمرّ الفيلم بهذه الأطوار، من دون مفاجآت، أو انعطافات، أو اقتراحات ذكية، سواء على مستوى المعالجة، أو على مستوى السرد، بل إن «زهرة حلب» لا يخيّب ظنّ أكثر الخيارات بساطة، في الميل إلى الصدفة والحلول الجاهزة، في أكثر نماذجها تلفيقاً. الحكاية سيدة الفيلم، مع أنها حكاية تخلو من أي جديد، أو مدهش، أو غير مألوف: شاب يقع في براثن تنظيم إرهابي، ويذهب إلى حلب، فتلحقه والدته إلى حلب لتسترده، ويكون أن... يعيد تكرار أكثر الميلودرامات فجاجة، في السينما المصرية، حتى لا نقول الهندية. «حكمتك يا رب». الانسياق أو الانسحاق لسطوة الحكاية المُمعنة في التبسيط والسذاجة، جعل فيلم «زهرة حلب»، يتجرأ حتى على ما يعرفه المشاهد في أبسط حالاته، وما يتطلّبه التناول الجدّي لظاهرة على هذا القدر من الخطورة، وما راكمه فن السينما، في سياق تصديه للآفات السياسية والاجتماعية والثقافية، في أفلام نقد سياسي، وتحليل اجتماعي، وتفكيك ثقافي، وأطروحات فكرية، أثارت أسئلة وجدلاً، فغدت من عيون المُنجز السينمائي العالمي. «زهرة حلب» يتخلّى عن المهمة طوعاً، وينشغل بتفاصيل أضحت عيوباً للفيلم، وعمّقت مأزق الشخصيات. في الحركة الأولى من الفيلم، التي تمكن تسميتها «لعبة الأفغنة»، يعزل الفيلم الأسرة وأفرادها، وكذلك العصابة المتطرفة، عن البيئة السياسية والاجتماعية التونسية، وعن المؤثرات العامة، التي باتت تساهم في صوغ إنسان هذا الزمان. وقت ضائع في عرض فكرة أن يقوم «صديق سوء»، بالتغرير بالشاب مراد، وأخذه إلى إرهابي متسلّط، عنيف. يُخضعه للتنظيم، ويدرّبه على استخدام السلاح، ومن ثمّ يرافقه إلى حلب (دعك من أنه سيتحوّل إلى مجرد مقاتل تحت إمرة مراد). هل يؤمن الفيلم وكاتباه بأن القصة قصة تغرير يقوم به «صديق سوء»؟ ترى ما الذي يجعل شاباً مثل مراد يقع في براثن هذا التغرير؟ في الحركة الثانية، يعتمد فيلم «زهرة حلب» أسلوب «تغابي» أو «تعامي» شخصياته المحيطة بمراد، وعدم انتباهها أو رؤيتها، ومن ثم مبادرتها، لإنقاذ الشاب مما هو مُنزلق إليه، بل إن الخالة، وعندما يخبرها مراد صراحةً بما يفكّر فيه، ويعزم عليه، تسأله عن والديه، في محاولة منها للربط بين ما يجرى لمراد من تحوّلات فكرية، وانفصال والديه وطلاقهما، في منطق غريب! لا أحد ينتبه إلى «أفغنة» مراد، التي تأخذ قرابة النصف الأول من الفيلم، لنجد أنفسنا أمام عملية تتم بيسر. من دون أسئلة، أو جدل مع الذات، أو شكوك. ومن دون محاولة للمواربة، أو التخفي، أو السرية. ومن دون خوف من رقابة مجتمعية، أو أجهزة أمنية. الشخصيات المأزقية تهرب مما ينبغي أن تراه، ومراد لا يقلّ عنها وقوعاً في المأزق، ليبدو شخصية سلبية، مُنقادة، أقرب إلى الشخصية المهزوزة أصلاً، التي قليلاً ما تثير أسئلة قلقة تجاه الذات، والمحيط، والمجتمع، وتجاه القضايا العامة. يتعلّق مراد بقصة أن تضع أمه وخالته «الحجاب»، وفي أفقه أن تضعا «النقاب». طرح شكلي متردّد، وخجول، وعلى شكل رجاء، لفتى سيبقى حليق الذقن، في الشقّ التونسي من الفيلم، وسيبقى يتناول الطعام بيده اليسرى، مثلاً. وفي استكمال لهذا، فإن الفيلم يعتمد فكرة أن عملية «الأفغنة»، وعلى رغم ملامحها الظاهرة، في القول والفعل والكلام والسلوك، إنما هي عملية متعالية على الاكتشاف، إلا بعد فوات الأون. لا سلمى، ولا الوالد، ولا الخالة، ولا الصديقة، وهم جميعهم من طراز المثقف الذي على صلة بالحياة ووسائلها وأساليبها... لا المدرسة، ولا رفاق البكالوريا... لا أحد منهم سوف يفكر للحظة في ما يجرى لمراد، الذي لم يكن يخفي ما هو عليه، بل إن الاكتشاف سيأتي بلمحةٍ بعد فوات الأوان، وبطريقة بالغة السذاجة: تدخل سلمى إلى غرفة ابنها، وترى أشياءه، ومن بينها راية «جبهة النصرة»! الحلّ الفردي.. لعبة الاستخبارات تذهب سلمى إلى الحلّ الفردي، الأخطر، والمتلخّص بفكرة أن تلحق بابنها إلى حلب لاسترداده. لن تُعلن هذا، ولن تقوله، ولن تختار طريق توسّل العودة، والاستعطاف، بل ستختار أسلوب «اللعبة الاستخباراتية»، من خلال الادّعاء بأنها مجاهدة، ما يعني إيمانها بأنها قادرة على خداع هذه التنظيمات، واختراقها، والوصول إلى ابنها، وإقناعه بالعودة برفقتها إلى البيت، حتى لا نقول استرداده وإجباره على العودة معها. صحيح أن الفيلم أشار إلى مشاركة سلمى في إحدى التظاهرات، وكان اختار لها مهنة الإسعاف الميداني، وهي المهنة الأقرب إلى العمل الفدائي، فهل هذا يكفي، ويبرر، أن تختار فكرة اللحاق بالابن إلى حلب، بطريقة استخباراتية؟ وهل الحل الفردي هذا هو البديل العملي لحركة أمهات أولئك الشباب المُغرَّر بهم، من قضى منهم، ومن ما زال على قيد الحياة؟ الفيلم الذي لم يؤسّس لرؤية منهجية ذات علاقة بظاهرة الإرهاب، ومأزق نزف تونس لشباب منها، يلتحقون بهذه التنظيمات، وهناك من يقول إنهم يصبحون الأكثر عنفاً بين «المقاتلين المهاجرين»، عرباً وغير عرب؛ الفيلم الذي أعفى نفسه من مهماته وأسئلته الحقيقية، ومال إلى الحكاية، كان من الطبيعي له أن ينهج خيار الحلّ الفردي، الذي لا نبالغ إذا قلنا إنه ليس خياراً أصلاً، وليس حلاً فعلاً. يزيد من المشكلة أن الفيلم أخذ هذا الحلّ بوصفه جزءاً أساسياً من خيارات شخصياته، من دون الكثير من الجدل. الوالد؛ عنيف المسلك، لن يناقش مع طليقته سلمى سلامة الفكرة، من حيث جوهرها فكرةً وخياراً، أو من حيث المبدأ أو التنفيذ، بل تحدّث عن موضوع قدرته على المشاركة في دفع التكاليف المادية لإنقاذ ولده! التنميط... آفة السينما التجارية الجزء الأخير من الفيلم، والذي تمّ الإعداد له فيلمياً (سردياً وإنتاجياً) على عجل، ليدور في ما يُفترض أنها حلب، وفي أوساط التنظيمات الإرهابية (جبهة النصرة، داعش)، يسم الفيلم بالتقليدية من حيث الرؤية والبناء والسرد. لا يترك «زهرة حلب» شيئاً مما ورد في الصورة النمطية عن التنظيمات الإرهابية، وإلا يقوله، بل سيزيد عليه مما لديه، حتى لو كان مخالفاً للواقع، ومجافياً للوقائع. لن نقف كثيراً عند قصة «أبو الوليد»، الخارج من كهف التاريخ، ونذكّر بأن كلاً من البغدادي والجولاني والعدناني والشيشاني والمحيسني والتونسي والسوري، وغيرهم الكثير إنما هم من أجيال الشباب، الذين لا يتجاوزون الأربعينات من العمر، لا الكهول الطاعنين حدّ الموات. كما لن نقول إن قصص السبايا وبيعهن أو اغتصابهن، لم تُؤثر عن حلب وأريافها، بل عن الموصل وضواحيها. وعن «داعش»، وليس «النصرة»! ما سنقوله هنا: إن التقليدية والتنميط، لا ينفعان في تعميق أيّ فهم لأمر، ولا في التأسيس المعرفي لأيّ ظاهرة، بل هما أسلوبان لدغدغة مشاعر وعواطف الجمهور، والانسياق وراء غرائزه، والانتساب إلى وسائل الإعلام كالتلفزيون والصحف والمجلات، أكثر من وسائل الثقافة وعلى رأسها السينما. ما الجديد، أو العميق، الذي يمكن أن يكون عندما يصوّر فيلم القتل بدم بارد، أو الانشغال بالحديث عن الهوس والسعار الجنسي، والاغتصاب، وانتهاك الحرمات، عند قادة وعناصر هذه التنظيمات؟ وهل هذه هي حدود دور الفيلم السينمائي، الروائي بخاصة، حتى لو كان تجارياً؟ ولا بد لاستكمال التقليدية والتنميط من متلازمات مُصاحبة، مثل الاستسهال البالغ في الحلول، والصدفة الخارقة في الوقائع، واللامنطقية العجيبة في النتائج. ومن المؤسف أن هذا كله متوافر بوفرة في «زهرة حلب»، إلى درجة أنه يغدو من مرتكزات الفيلم، ويضحي في سبيلها بالغايات كلها، بما فيها تلك التي «تبرر الوسيلة». ثلاث عمليات في كويرس تجهز على المنطق في الفيلم وتنتهي إلى نحو لا نعلم إلى أي درجة يفيد المشاهد. عظمة الفيلم أي فيلم، أن يخرج المشاهد منه وهو يعرف أكثر، ويحسّ أعمق، وينتمي أقوى... فهل تحقق هذا في «زهرة حلب»؟