شهدت اللغة العربية كغيرها من اللغات، صراعات طويلة ومضنية، وربما أصعب بكثير من تلك التي خاضتها اللغات الأخرى، وخرجت من كل صراع، سواء في الشعر، أو في المسرح، أو في الرواية بصورة جديدة وبإنجاز حداثي يتناسب مع العصر. في رواية “بيبولار” اتخذ الكاتب التونسي أمين الحسيني، اللغة العربية الفصحى الحديثة وسيلة لسرد الأحداث، إذ تمكن الكاتب، منذ الصفحة الأولى من الرواية، من أن يقنع المتلقي بصدق الوصف والتصوير، وكأن قلق سارة في مطلع الرواية لا يجوز أن يوصف ويصور إلا بهذه اللغة، وبهذا الأسلوب الدال والإيحائي. فكانت لغة نفسية مطعمة بنكهة أجواء الشرق من شراب ونباتات وتوابل و”فلافل”. وهي لغة ذات إيحاء دال على الأجواء المحتقنة، وما ستؤول إليه الأمور في ما بعد. وقد حرص الحسيني في هذا الأثر على التنويع في الحوار، وكانت لغة النص في بعض المواقع، وحين تقتضي الحاجة، لغة شاعرية/ شعرية/ شوارعية، وتصويرية وإيحائية. كما يستطيع القارئ أن يلمس الدقة في تصوير قطبين نفسيين متناقضين، الأول نوبة الاكتئاب الكبرى، والثاني نوبة من الابتهاج غير الطبيعي، موظفا الموسيقى والأدب والروائح والرسم والتصوير والمسرح. وقد خصص الكاتب حيزا أكبر للحالة الأولى أكثر مما خصص للحالة الثانية. مع ذلك لا يظنّن أحد أن الرواية، الصادرة عن دار القلم للنشر والتوزيع بتونس، قد حرصت على تعدد الأصوات وتعدد اللغات وتعدد الأساليب بالمفهوم الذي يراه اللغوي والمنظر الروسي ميخائيل باختين، فالراوي المشرف الكلي المعلق قد طغى على بقية الأصوات، لكن هذا الراوي العليم قد وظفه الحسيني للحفاظ على تنويع في السرد وتنويع في الحوار، فجاء الوصف دقيقا للحالتين ولتنوع الشخصيات، وجاء الحوار، خاصة، ملائما لأفكار الشخصيات في تفاوتهم وتقارب رؤاهم وتنوع/ تقاطع زوايا النظر لديهم. النظم الشعرية إن الرواية لم تستسلم لسمات الروي التقليدي لأنها تخط طريقها بالنُظُم الشعرية التي تعتمد البوح الحميم المتدفق، وأول سمات هذا البوح هو اعتماد ضمير المتكلم “أنا” أو ما يحيل عليه، ليس إيغالا في الذاتية، ولكن دخولا في تجربة معرفية خاصة لا يمكن لراو آخر أن ينوب فيها عن الذات، ولا سيما أن هذه التجربة كانت عبر الرواية كلها تجربة تلقائية حدسية لم تسلم قيادتها للعقل الذي ثبت عجزه عن فك أزمة الإنسان المعاصر، ولم تلق بالا لكل ما وصل إليه من علم وتحليل وتركيب لأن كل ذلك كان ذرائعيا انحصرت أهدافه خارج التحقق الإنساني بنبله وانفتاحه على الخير والحياة، ولذلك تحصر الرواية عملية الروي داخل ضمير المتكلم الذي يقترب بطبيعته من الشعر بوحا، ويتيح لنفسه الخروج عن نطاق منظور الشخصية الواحدة، ويحتد الجدل من خلاله بين الذات والموضوع، إذ تنحصر المادة القصصية في نطاق وعي الراوي، فجوهر الضمير”أنا” هنا ينطوي في صميم بنيته اللغوية على جدلية الواحد المتعدد، لأنه ملك لكل متكلم في اللغة، ولذلك فهو يحتوي على “نحن” عميقة ومكثفة. من هذا المنظور استطاع الحسيني أن يأخذنا إلى رؤية العالم ومعايشته من خلال وعيه هو حين قدم لنا “سارة” كما أدركها بلا وساطة، حين طرحها بلا انتظامات صارمة إلا انتظامها هي في ذهنه التشكيلي، فلا فرق في سرده بين الحلم واليقظة وبين الخيال والحقيقة وبين الأسطرة والواقع وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وهكذا يتم نقل الحالة النفسية للرواية التي هي لقاء مباشر بين الذات الإنسانية المرهقة والعالم – الحياة /الموت. عالم الموت في “بيبولار”، رهن عالم “الموت” الشخصيات وتحكم بمصيرها فجعلها تتلاشى وتضمحل وجوديا مقابل نماء داخلها يجرد شخصية أخرى ترسم معالم حياة لا تقوى على اكتشاف كنهها إلا بلغة الحسيني السابحة في حساسية شعرية فريدة تهيئ للسرد حيواته في فتوحات اللغة الشعرية. وقد لجأ أمين الحسيني إلى المجاز كحل سحري للتعبير عن أشد لحظات الحيرة والقلق الوجودي، وطبعا بالإضافة إلى استخدام تقنيات كالبناء الدائري، والتناص، والاقتباس، والحوار والمجاز ومضامين كالسؤال حول الزمن والاشتباك مع “الموت” وطرح الحب كوسيلة وغاية وسبب ونتيجة هي تقنيات ومضامين رافدها الأول أجناس أدبية أخرى غير الرواية كالشعر بالأساس أو المسرح، وقد ظهرت في هذه الرواية على سبيل الاستعارة والتلاقح والتقاطع، لتحميل الرواية بحمولات فنية أثْرَت العمل في الكثير من الأحيان. وهذا الانتظام الذي سردت به الرواية هو نظام خلقته شبكة علاقات خاصة تشكل هندستها رؤية كثيفة معتركة، ولكنها في صميمها تعرف ما تريد، فسرد الرواية بناء على ذلك يخلو من الحوار المباشر لأن الحوار كشف عن دواخل الشخصيات وإظهار للمخفي وبسط للتفاصيل وهذا ما لا يتيحه الشعري في عملية الروي، ولا يقبله التكثيف الشديد الذي بني عليه هذا النص. بذلك تكون رواية “بيبولار” منتمية بقوة إلى الكتابة الروائية الحداثية التي تبني تجدّدها عبر عمق معناها واستكشاف الهوية واختلاف الجنس الإبداعي، وهي رواية تمتح من قوة الحساسية التي تعاين بشفافية ماهية خارطة وجود الإنسان في لحظات إرهاقه، فتسبر إرهاصاته الملتبسة والمشكّلة برؤية إبداعية تُمكّن الفعل الروائي من السيرورة الدرامية الإيقاعية، لارتكازها على شعرية اللغة الحافرة في ماهيات التفاعل الإنساني مع شروط وظرفية مجهضة للكينونة الإنسانية والصيرورة الحضارية. شهدت اللغة العربية كغيرها من اللغات، صراعات طويلة ومضنية، وربما أصعب بكثير من تلك التي خاضتها اللغات الأخرى، وخرجت من كل صراع، سواء في الشعر، أو في المسرح، أو في الرواية بصورة جديدة وبإنجاز حداثي يتناسب مع العصر. في رواية “بيبولار” اتخذ الكاتب التونسي أمين الحسيني، اللغة العربية الفصحى الحديثة وسيلة لسرد الأحداث، إذ تمكن الكاتب، منذ الصفحة الأولى من الرواية، من أن يقنع المتلقي بصدق الوصف والتصوير، وكأن قلق سارة في مطلع الرواية لا يجوز أن يوصف ويصور إلا بهذه اللغة، وبهذا الأسلوب الدال والإيحائي. فكانت لغة نفسية مطعمة بنكهة أجواء الشرق من شراب ونباتات وتوابل و”فلافل”. وهي لغة ذات إيحاء دال على الأجواء المحتقنة، وما ستؤول إليه الأمور في ما بعد. وقد حرص الحسيني في هذا الأثر على التنويع في الحوار، وكانت لغة النص في بعض المواقع، وحين تقتضي الحاجة، لغة شاعرية/ شعرية/ شوارعية، وتصويرية وإيحائية. كما يستطيع القارئ أن يلمس الدقة في تصوير قطبين نفسيين متناقضين، الأول نوبة الاكتئاب الكبرى، والثاني نوبة من الابتهاج غير الطبيعي، موظفا الموسيقى والأدب والروائح والرسم والتصوير والمسرح. وقد خصص الكاتب حيزا أكبر للحالة الأولى أكثر مما خصص للحالة الثانية. مع ذلك لا يظنّن أحد أن الرواية، الصادرة عن دار القلم للنشر والتوزيع بتونس، قد حرصت على تعدد الأصوات وتعدد اللغات وتعدد الأساليب بالمفهوم الذي يراه اللغوي والمنظر الروسي ميخائيل باختين، فالراوي المشرف الكلي المعلق قد طغى على بقية الأصوات، لكن هذا الراوي العليم قد وظفه الحسيني للحفاظ على تنويع في السرد وتنويع في الحوار، فجاء الوصف دقيقا للحالتين ولتنوع الشخصيات، وجاء الحوار، خاصة، ملائما لأفكار الشخصيات في تفاوتهم وتقارب رؤاهم وتنوع/ تقاطع زوايا النظر لديهم. النظم الشعرية إن الرواية لم تستسلم لسمات الروي التقليدي لأنها تخط طريقها بالنُظُم الشعرية التي تعتمد البوح الحميم المتدفق، وأول سمات هذا البوح هو اعتماد ضمير المتكلم “أنا” أو ما يحيل عليه، ليس إيغالا في الذاتية، ولكن دخولا في تجربة معرفية خاصة لا يمكن لراو آخر أن ينوب فيها عن الذات، ولا سيما أن هذه التجربة كانت عبر الرواية كلها تجربة تلقائية حدسية لم تسلم قيادتها للعقل الذي ثبت عجزه عن فك أزمة الإنسان المعاصر، ولم تلق بالا لكل ما وصل إليه من علم وتحليل وتركيب لأن كل ذلك كان ذرائعيا انحصرت أهدافه خارج التحقق الإنساني بنبله وانفتاحه على الخير والحياة، ولذلك تحصر الرواية عملية الروي داخل ضمير المتكلم الذي يقترب بطبيعته من الشعر بوحا، ويتيح لنفسه الخروج عن نطاق منظور الشخصية الواحدة، ويحتد الجدل من خلاله بين الذات والموضوع، إذ تنحصر المادة القصصية في نطاق وعي الراوي، فجوهر الضمير”أنا” هنا ينطوي في صميم بنيته اللغوية على جدلية الواحد المتعدد، لأنه ملك لكل متكلم في اللغة، ولذلك فهو يحتوي على “نحن” عميقة ومكثفة. من هذا المنظور استطاع الحسيني أن يأخذنا إلى رؤية العالم ومعايشته من خلال وعيه هو حين قدم لنا “سارة” كما أدركها بلا وساطة، حين طرحها بلا انتظامات صارمة إلا انتظامها هي في ذهنه التشكيلي، فلا فرق في سرده بين الحلم واليقظة وبين الخيال والحقيقة وبين الأسطرة والواقع وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وهكذا يتم نقل الحالة النفسية للرواية التي هي لقاء مباشر بين الذات الإنسانية المرهقة والعالم – الحياة /الموت. عالم الموت في “بيبولار”، رهن عالم “الموت” الشخصيات وتحكم بمصيرها فجعلها تتلاشى وتضمحل وجوديا مقابل نماء داخلها يجرد شخصية أخرى ترسم معالم حياة لا تقوى على اكتشاف كنهها إلا بلغة الحسيني السابحة في حساسية شعرية فريدة تهيئ للسرد حيواته في فتوحات اللغة الشعرية. وقد لجأ أمين الحسيني إلى المجاز كحل سحري للتعبير عن أشد لحظات الحيرة والقلق الوجودي، وطبعا بالإضافة إلى استخدام تقنيات كالبناء الدائري، والتناص، والاقتباس، والحوار والمجاز ومضامين كالسؤال حول الزمن والاشتباك مع “الموت” وطرح الحب كوسيلة وغاية وسبب ونتيجة هي تقنيات ومضامين رافدها الأول أجناس أدبية أخرى غير الرواية كالشعر بالأساس أو المسرح، وقد ظهرت في هذه الرواية على سبيل الاستعارة والتلاقح والتقاطع، لتحميل الرواية بحمولات فنية أثْرَت العمل في الكثير من الأحيان. وهذا الانتظام الذي سردت به الرواية هو نظام خلقته شبكة علاقات خاصة تشكل هندستها رؤية كثيفة معتركة، ولكنها في صميمها تعرف ما تريد، فسرد الرواية بناء على ذلك يخلو من الحوار المباشر لأن الحوار كشف عن دواخل الشخصيات وإظهار للمخفي وبسط للتفاصيل وهذا ما لا يتيحه الشعري في عملية الروي، ولا يقبله التكثيف الشديد الذي بني عليه هذا النص. بذلك تكون رواية “بيبولار” منتمية بقوة إلى الكتابة الروائية الحداثية التي تبني تجدّدها عبر عمق معناها واستكشاف الهوية واختلاف الجنس الإبداعي، وهي رواية تمتح من قوة الحساسية التي تعاين بشفافية ماهية خارطة وجود الإنسان في لحظات إرهاقه، فتسبر إرهاصاته الملتبسة والمشكّلة برؤية إبداعية تُمكّن الفعل الروائي من السيرورة الدرامية الإيقاعية، لارتكازها على شعرية اللغة الحافرة في ماهيات التفاعل الإنساني مع شروط وظرفية مجهضة للكينونة الإنسانية والصيرورة الحضارية.