الحياة بطبيعتها مليئة بالأحداث .. سعيدة كانت أم حزينة ؛ فهي لا تمضي على وتيرة واحدة .. تمر الأحداث بعد أن تأخذ وقتها وتمضي لحال سبيلها وتطويها الأيام لتصبح ماض وتاريخ، كما أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن الأحداث تتكرر بشكل مشابه فربما تضيع فرصة وتأتي أخرى وتكون أكبر وأفضل من سابقاتها، وتزدحم ذاكرة الانسان بأحداث الماضي عندما يمر شريط الذكريات المليء بالمشاهد والصور ؛ ليعيد تقييمها ويعمل على تقويمها في عملية "جرد حساب" فقد أصاب وأخطأ، فتارة تراه يشعر بالراحة النفسية لما حققه من إنجاز، وتارة يغضب لأخطائه ويشعر بالندم والحسرة كمن يقوم ب "جلد الذات" لما تعرض له من إخفاقات أو مرت به ظروف سيئة سواء كانت من صنعه أو وقع فيها ضحية .. والعاقل من استفاد من العبر والدروس والكيّس من اتعظ بغيره، ويستطيع الإنسان بعزيمته وإرادته تغيير الواقع لا الماضي ولا يتجمد في موقف أو مكان واحد يؤنب ضميره على ما فاته وقد تخونه الظروف في تحقيقها، فالمستقبل أمامه ليحقق أمنياته وتطلعاته، فالحياة مصدر التفاؤل بل هي الأمل "ولا حياة بلا أمل .." ومن الممكن تصحيح الخظأ بالاستفادة من الخبرة التراكمية وتجارب الماضي، فقد تصيب الانسان نائبة من نوائب الدهر مهما كان وقعها وألمها عليه، لكنها قد تكون سبباً في تغيير مسار حياته، فقط باقتناص الفرص وعدم ضياعها حتى لا يتحسر على ما فات. المفكر الهندي جيدوكريشنامورتي قال : "نحن نحتاج ماضينا، لأن سلوكنا الحاضر نتج عن تراكم لحظات وأحداث وتجارب قوية وملامح تنتمي إلى ماضينا، فنحن نحتفل كل عام بأعياد ميلادنا، ونتذكر معها ذكريات السنوات الماضية، ولأنها تمثل الماضي، وتعتبر دورساً تظل معنا مدى الحياة، حيث نتوقف عند أخطائنا ونتعلم منها، ولا ينبغي أن نقع فيها مجدداً، كما قيل قديماً من ليس له ماض، لا حاضر له ولا مستقبل. هذه الملامح من الماضي، تعتمد في جزء منها على ذاكرتنا العائلية التي تحرك ذكرياتنا الأولى، بعذاباتها، ولحظاتها السعيدة" . ويفسّر المحلل النفسي هنري فايزر أن "الذاكرة العائلية تلعب دور السماد المخصب لحاضرنا وبفضلها نؤسس القاعدة لهويتنا". ويضيف: "ينقل إلينا آباؤنا معارفهم وابتساماتهم، لكنهم ينقلون إلينا أيضاً شكوكهم وآلامهم، وهذا المخزون من المعطيات المتنافرة، هو ما نطوّره فيكبر معنا يوماً بيوم، إذن فالذاكرة العائلية هي ما تجعل كل فرد، إلى حد ما يشعر بذلك الإحساس الغريب، الإحساس بأن يكون نفسه". بناء السيناريوهات وبالنسبة إلى عدد كبير من الناس، فإن هذا المخزون من الذكريات، قوامه الأساسي هو الآلم والمعاناة التي عاشوها في الماضي، وتركت لديهم جراحاً لا تندمل مثل التعرض لاغتصاب، أو وفاة أحد الأبوين، أو تخلي الوالدان عن طفلهما صغيراً.. ويرى المحلل النفسي سافيرو طوماسيلا، صاحب كتاب "إعلان السلام بين المرء وبين نفسه" أن "هذه الجراح نادراً ما تسمح بإعادة تكوين بنية سيكولوجية في السلوك، بل تبلغ أحياناً حد منع شخص ما من أن يعيش حياته بالشكل الذي يجعله يستشعر المتعة فيها، وهكذا تغرقه في حالة من الكآبة الدائمة، تنتج هذه الجراح المعيقة أيضاً أحاسيس من الوحدة العميقة جداً، التي تفرغ الفرد وتمتص منه كل طاقة إيجابية فيه". فيؤكد سيجموند فرويد أن "بداخل كل واحد منا، يوجد نظام ذهني يقوم على التكرار أو الإعادة، يجعلنا نحس ونعيش الأحاسيس نفسها التي خبرناها في طفولتنا مرات ومرات"، ويضيف: "هذا الميل إلى الإعادة، يؤثر بالضرورة في كل علاقاتنا العاطفية مع المحيطين بنا، ويجبرنا على أن نعيد بناء السيناريوهات نفسها التي عشناها في حياتنا المبكرة، ومن هنا يتضح أنه مثلاً، إذا كان هناك شخص تعرض في طفولته لضرب مبرح أو تصرفات عنيفة من قبل والديه، فإنه سيتأثر طوال حياته بهذه العملية، التي تسبب له الاضطراب، وقد يعيد إنتاجه كما هو بالضبط، أو أن يتخذ بطريقة مرضية مبالغ فيها مواقف وقائية، تحسباً لأن يتكرر في الحاضر ما عاشه هو في الماضي، مثلاً كأن يقطع أي علاقة له بالأطفال مخافة أن يؤذيهم كما تعرض هو للأذى، وهو في مثل سنهم". مع كل هذا، فإن توقيف آلية التكرار والإعادة هذه، وإبطالها أو حتى تخطيها، أمر ممكن وإن كان صعباً جداً، وهذا يكمن في دور علم النفس والطب النفسي، كيف ذلك؟ يشرح لنا هنري فايزر الأمر قائلاً: "أولاً، وقبل كل شيء، على الطبيب المعالج أن يحدد ماهية الصدمة العاطفية التي تعرض لها المريض وهو طفل، لهذا يبدأ المعالج في الحفر والتنقيب داخل لا وعي المريض وداخل ذاكرته، لاقتلاع أبرز العناصر التي سببت له الاضطراب، ويتابع: "أستطيع أن أؤكد أن هذا الحفر في أعماق اللاوعي، يتم عادةً والمريض مستلق على ظهره في وضع مريح على كرسي طويل، لأن هذه الوضعية تحيل بسهولة إلى فترة الطفولة، حين كان الطفل الصغير غير قادر على التحكم في عضلاته، ويعتمد على أمه لتحمله. والمرحلة الثانية، كما يقول فايزر هي مرحلة القطيعة مع الماضي، حيث يتخلص الفرد من الماضي ويقاطعه، لا يعني هذا بالضرورة أن ينساه أو أن يمسحه تماماً من ذاكرته، لكن يعني فهمه وتوجيهه وتحويله إلى عنصر مقبول بالنسبة إلى الذات. وبطبيعة الحال، فإن هذا العمل لن يكون سهلاً أبداً، ذلك أنه داخل كل منا كتلة من الأحاسيس التي تتنوع ما بين الندم والألم وتأنيب الضمير، والتي تجثم ثقلها على ذاكرتنا كما لو كانت صندوقاً كبيراً مليئاً بالأثقال. وهنا، يوضح فايزر: "يأتي دور المعالج النفسي أو الطبيب الذي يكون عليه أن يفرغ هذا الصندوق من الأثقال، ويجعله أخف وزناً حتى يتمكن المريض من أن يبدأ عملية إصلاحات، تمكنه في النهاية من أن يعيش حياته ويستمتع بكل لحظة فيها، والهدف من هذا طبعاً ألا تصبح آلام ماضينا نقاط ضعف في مستقبلنا". فالذاكرة هي هوية الفرد ومن غيرها يكاد يكون شخصاً ميتاً، كالأمة التي بلا ماض تظل أمة ميتة.