عن وجودها بشتي الطرق،كاشفة عن جمالِِ يتجلي في كل ما مر بنا من أشياء مفرحة، وعابرة، ومعتمة، وغريبة، وموجعة أيضا• من بوابة سوق الحميدية،تطالعك الوجوه التي تختلط في ذاكرتك ثم تتلاشي كخيالات عابرة•هذا السوق التي تميل الي العتمة بسبب سقفها المقنطر والمخرم ليست سوقا عادية،إنها السوق التي تتناسل من روحها مجموعة من الاسواق، وسوق العرائس، وسوق العطارين، وسوق البزورية، وسوق القطن،وسوق الذهب•ويظل ما يجمع بين هذه الاسواق جميعها هو عبقها العتيق الذي يجذب السياح العرب والاجانب،الايرانيين،والآسيويين•لعل أكثر ما يلفت الانتباه بالاضافة لتنوع البضائع هو تلك الأبنية التي تمتد من الشارع المرصوف بالأحجار القديمة حتي الأسقف المقوسة•لكن أصوات الباعة الذين ينادون علي بضائعهم لن تترك لك فسحة للإنصات والاستماع لأصوات عبرت هذا المكان•من هنا مر صلاح الدين،وعبر الأمير عبد القادر الجزائري ورفاقه•يظل حضورهم ساطعا في ذاكرتي دون أن أتمكن من استعادة خيال حكاية،أو حدث حفظه التاريخ،أحس أنهم أحياء ينبضون في روح المكان وداخل أوردته• أسارع بخطواتي لأتجاوز السوق الطويلة المزدحمة، أتركها بصخبه اوزبائنها وبضائعها ورائي، أنظر الي تلك البوابة المتشكلة من أعمدة هي بقايا آثار رومانية تجاورها ساحة واسعة هي "ساحة المسكية" التي تصطف حولها محلات التحف والأنتيكات القديمة• قبالة هذه الساحة يواجهك "الجامع الاموي" بكل جلاله وهيبته،وهديل الحمائم البيضاء التي تطوف حوله،فيما أطفال صغار يطاردون الحمام في ساحات المسجد وباحاته في أوقات الظهيرة•هذا الجامع الذي يسكنك الخشوع لدي سماعك صوت آذان العشاء يعلو من منارته يزداد بهاء وسكونا عند المساء حيث الأضواء البهية مسلطة علي جدران المسجد بأحجاره الضخمة التي تشكل السور الخارجي،وجدرانه المليئة بالموزاييك والزخرفات البديعة• عصير توت يا مال الشام يالله يا مالي طال المطال يا حلوة تعالي ترتفع هذه الاغنية من مكان ما،أتابع سيري باتجاه حي "باب توما"، أفتح قلبي علي صوت الموال،أتتبعه بروحي لأعرف أنه يتردد من مقهي "النوفرة" العريق والذي اشتهر في زمن ما بوجود حكواتي يسرد علي الزبائن حكايا يرغبون بسماعها وإن كانت وهما•أعبر من امام المقهي الذي تصطف طاولاته خارجا وتزدحم بزبائن عرب وأجانب تختلط اصوات قرقرات أراغيلهم مع صخب المقهي وغناء الموال الشامي•أتجاوز مقهي "النوفرة " بأمتار قليلة، أتذكر عطشي حين ألمح أحد بائعي العصير يقف في دكان صغيرة عُلق خارجها سلال شبكية مليئة بالبرتقال، فيما الطاولة الفاصلة بين البائع وبيني ترتفع ولا تكشف لي إلا عن وجهه الملتحي، وصنوف الفاكهة التي تصطف من خلف الحاجز الزجاجي للطاولة،أنظر الي اللائحة المكونة من ورق كرتون قديم سجل عليها أصناف العصير المتوافرة وأسعارها، أطلب عصير توت ثم آخذ الكوب منه وأجلس علي المصطبة الحجرية التي يجلس عليها عدة أشخاص ،بعضهم يأكل، او يشرب العصير ،بجانبي فتاة أوروبية تأكل سندويشا من الشاورما، ابتسمت للفتاة الاوروبية التي بادلتني ابتسامة مماثلة، تشجعت لأبادرها بالسؤال "إن كانت أحبت دمشق؟"،تجيبني بتلقائية عن إعجابها بالطعام والطقس وبساطة الناس، أبتسم لها وهي تحكي عن بلدها "سويسرا" عن برودة الطقس،وعن سفرها بعد غد•كان كوب العصير في يدي قد فرغ تماما،ودعتها وتابعت سيري،عدة خطوات الي الامام أكتشف انني لم أسألها عن اسمها، أنظر ورائي،كان مكان جلوسها شاغرا• لوحات لقيطة أمام بائع الانتيكات والمصنوعات النحاسية المقلدة عن مثيلتها القديمة، اقف لأتأمل لوحات مصفوفة خارج المحل،رسومات فن تشكيلي،ولوحات تعبيرية،كلها لا تحمل توقيعا،او اسما، او حرفا يرمز لصاحبها• يقترب مني البائع الصغير،أسأله عن قيمة اللوحة،يجيبني بعبارة" مش رح نختلف"•أشير الي لوحة معينة بألوان نارية صاخبة أسأله عن الفنان الذي رسمها،يبدو علي وجهه الارتباك قبل أن يجيبني قائلا:"رسامة عراقية"،أسأله عن اسمها، يقول لي انه لا يعرف،وأنها تأتي لتبيعه اللوحات وتذهب،وكأنه استدرك فجأة رغبتي في معرفة هوية من رسم اللوحة،رابطا بين فكرة الشراء والمعرفة، فقال لي" ربما اسمها عبير" عبير رددت في سري الاسم وانا اقول "هل هذا الاسم المستعار من تأليف البائع او من مخيلة صاحبة اللوحة•كانت اللوحات كلها لقيطة لا تحمل توقيعا،أكثر من عشر لوحات مسنودة الي الجدار مجهولة النسب، فيما بائع يعرف عنها انها لرسام او لرسامة من العراق،أحس بحزن ينخر مسامات روحي،أترك البائع الصغير وأتابع مسيرتي، خطوة في الزقاق الضيق،وخطوة في الذاكرة•