المعلم مراد صاحب المقهى، أو الحاج مراد عامر، أو مراد بك (المهندس الكبير سابقا)، انسان وجد حلا للمعضلة الانسانية الأزلية، حيث نجح في الجمع بين عشقه الشديد للحياة الحرة المتجددة التي تجلب السعادة، وبين الاخلاص في البحث لنفسه عن منزلة عند الاله. هو عدو لدود للثبات والجمود والتحجر، سواء على مستواه كفرد أو على مستوى مجتمعه المنكوب بحكم طاغية مستبد تؤازره مجموعة من الفاسدين. ورغم أنه نجح تماما في إجراء تغيير انقلابي غير عادي على مستويات حياته الاقتصادية والاجتماعية والعاطفية، مدركا – بعد نجاحه - أن كل من لديه الإرادة لتغيير واقعه، لا بد أن يكون قادرا على تغيير مجتمعه، الا أنه يصدم بالعجز والاستسلام واليأس والخنوع من جانب المجتمع أمام طغمة من اللصوص والمنافقين، تراجعوا بقدرات البلاد الى وراء بعيد، بعد أن نهبوها وأفشلوها عن جدارة. وبينما يسترجع المعلم مراد مذكراته عن النكسة، والتي كتبها منذ أربعين عاما، فإنه يكتشف من تتبعه لمظاهر الانهيار المعاصرة، أن البلاد مقدمة على كارثة محققة تهون أمام آثارها المدمرة آثار النكسة القديمة. ومن هنا فإنه يتخذ اتجاها تحريضيا في دوائر حركته الحياتية بين المقهى - الذي اشتراه بمباركة من زوجته دكتورة الفلسفة - والبار – حيث شلة الأنس القديمة التي لم يفارقها حتى بعد مفارقته الخمر- والشاطىء - حيث صديقته أم فؤاد صاحبة أصغر عشة على الأنفوشى وأضخم صدر بين نساء الاسكندرية - والمسجد – حيث الشيخ قناوي وكوارعه التي ترمّ الركب - محاولا كسر جمود الناس وتخاذلهم واستكانتهم، وعجزهم عن الفعل. وهو يؤسس فكره التحريضي المباشر وغير المباشر بإطلاعهم على نماذج من أحداث ومواقف إجرامية غير مسبوقة للمسئولين، قام بتجميعها من مصادره الخاصة وبوسائله الخاصة، لعله يستفز بها الناس فيثورون لتغيير حياتهم حتى يعيشوا في سعادة كبقية الخلق في معظم أنحاء الدنيا، لكنهم أبدا لا يثورون. كانت هذه كلمة مختصرة عن فكرة الرواية، والتي نشرت في يونيو/حزيران 2007 على حلقات مسلسلة بجريدة الدستور المصرية، حيث لم يكن يجرؤ رئيس تحرير جريدة معارضة في مصر – عدا إبراهيم عيسى - أن ينشر مثلها على الاطلاق، وأنا لا يمكن أن أنسى توسلات زوجتى ألا أنشرها، محذرة إياي من السجن والضرب والتعذيب، حيث كانت سلطات الأمن التي لا تعمل إلا في خدمة الرئيس وأسرته في حالة سعار جنوني ضد الفكر والمفكرين والكتاب المعارضين الأحرار، وحيث كانت حالتي الصحية في الحضيض على أثر جلطة حادة بالقلب داهمتني بمجرد الانتهاء من كتابة الرواية. كان ردي عليها بالحرف الواحد: - أموت وتنشر هذه الرواية، لأنها لو لم تنشر الآن سأموت بالفعل! ثم أعطيتها كشفا بمجموعة أسماء من أصدقائي الصحافيين الأحرار، مازلت أحتفظ به حتى اليوم، طالبا منها الاتصال بهم بعد اعتقالي، لإعلان الخبر على الرأى العام. *** كتبت هذه الرواية على مستويين متوازيين. المستوى الأول مرتبط بذكريات نكسة 1967 والثاني بإرهاصات النكسة القادمة التي كنت أتنبأ بوقوعها لو استمرت الأمور في سيرها على ذلك النحو من الانهيار والتراجع. ولهذا فإن الشكل الفني كان أشبه بقفزات السيناريو السينيمائي بين المستويين، والذي حاولت من خلاله عرض نماذج مفجعة من الفساد، على شكل بنود مرقمة في بعض الأحيان، وأحيانا على شكل تقارير تسجيلية قمت بتجميعها على مدى عامين من جرائد المعارضة ومن الصحافة العالمية، وأحيانا كنت أدمج وقائع أحداث الفساد المعاصرة لكتابة الرواية في بنيان الرواية دمجا أتصور أنه كان فنيا وبغير تعسف. ولسوف أكتفي بذكر واقعة واحدة من وقائع الفساد التي أدمت قلبي، إذ أمر رئيس مجلس إدارة شركة خدمات البترول الجوية بإعداد طائرة تسع خمسين فردا، جهزت بأحدث أطقم "السرفيس" المستوردة لزوم السادة ركاب هذه الطائرة، دفعت تكلفتها من المال العام المتروك في يده، كما لو كان ملكية خاصة، وذلك لنقل وزير البترول وأسرته، ونائب رئيس مجلس الوزراء وأسرته، من القاهرة إلى مرسى مطروح لقضاء المصيف هناك. ويا إلهي فقد نسيت زوجة الوزير حقيبتها بالقاهرة، وعلى الفور أصدر سيادته أمرا بإقلاع طائرة أخرى سعة اثنين وخمسين راكبا لحمل حقيبة الهانم فقط وإعادتها الى مرسى مطروح. وقد أقلعت الطائرتان في اليوم نفسه خاليتين بلا ركاب! الجديد في تجربتي مع "الحب والزمن" خلافا لسائر رواياتي السابقة، هو أنني كنت طوال كتابتي لها، وطوال نشر حلقاتها الثلاث عشرة أسبوعيا بجريدة الدستور، أتخيل رجال الأمن والمباحث وهم يقتحمون بيتي فجرا كما اعتادوا بحقارتهم ودناءتهم منذ أن ابتليت مصر بحكم العسكر، ورغم ذلك فقد انقلب الأمر معي إلى تحد وعناد، وأصبحت مسألة شخصية الى جانب كونها مسألة عامة، إذ استبد بي اعتقاد راسخ بأنني لو لم أفعل ما أفعل، فسوف أمضي بقية أيام حياتى شاعرا بالجبن والتخاذل، إلى جانب الشعور بالذنب لجريمة السكوت عن الحق والخوف من مواجهة السلطان الجائر، كما استبد بى إحساس يقيني بأني بعد الانتهاء من كتابة هذه الرواية ونشرها سوف يشفيني الله من الأمراض الخطيرة الأخرى التي كنت أعاني منها قبل الجلطة (وهذا ما تحقق بالفعل فيما يشبه الأعجوبة)، وسوف أموت راضيا عن نفسي، شاعرا أنني أديت رسالتي وقمت بدوري في تسخير الموهبة التي منحني الله إياها لخدمة وطني الحبيب. ولست أبالغ لو قلت إنني لشدة فرحتي بنجاح الثورة لم أعد راغبا في كتابة أي شيء الآن والى أجل غير مسمى. *** أشار الدكتور حامد أبو أحمد مؤخرا في حوار له بجريدة الأهرام حول الكتاب والثورة الى أنني ذكرت في رواية "الشيء الآخر" – التي صدرت عن مكتبة المعارف ببيروت عام 2004 - أن هناك عصابة مكونة من أربعين شخصا هي التي تحكم مصر الآن، وأن هناك عجزا مطلقا لدى الشعب عن مقاومة هذه العصابة. ورغم ذلك فكان خوفي من بطش السلطات يدفعني الى استخدام الرمز حين التعرض لأسماء بعينها، الى أن وصلت مأساة سرقة البلد الى ذروتها، فلم يكن هناك بد من التحرر من الخوف الى الأبد. وفي دراسة للدكتور السعيد الورقى عن رواية "المقلب" - التي صدرت عام 2009 عن المجلس الأعلى للثقافة، قال: إن الانسان في أعمال سعيد سالم هو ابن الأرض الذي شكلته الظروف المحيطة، فجعلت منه الشرير المتسلق، والانتهازي المتسلط، كما جعلت منه النبيل المثالي الطموح. ومن الطبيعي أن ينشأ الفعل الدرامي هنا في الصراع بين النموذجين. ولأن كلا النموذجين مثالي في أفعاله التي لا يحيد عنها، فمن الطبيعي أيضا أن يكون الصراع هنا صراعا حادا وعميقا ومتضمنا لكل الأطر الثقافية المحيطة، وهو ما تضمنه الخطاب النصّي في الأعمال القصصية للكاتب منذ روايته "جلامبو" في أوائل السبعينيات وحتى رواية "المقلب" التي صدرت مؤخرا في 2009 عن مطبوعات المجلس الأعلى للثقافة. لذلك فأنا أؤكد على أنني لم أدّعِ أبدًا أنني تنبأت بحدوث الثورة بهذا الشكل، بل إنني أصبت بحالة من البكاء الهستيري، والذي أعتقد أنه كان مزيجا من الشعور الطاغي بالامتنان لله مع فرحة عارمة بتحقيق الحلم تصل الى عدم التصديق. حدث ذلك عند نزولي للمظاهرة في ميدان القائد إبراهيم لأول مرة، ورؤيتي للآلاف من جماهير الشعب الثائرة التي سدت الطريق من شاطئ البحر حتى الشوارع الرئيسة والفرعية بالإسكندرية، ولا أبالغ إذا قلت إنني سمعت البحر وهو يردد معنا الهتاف بإسقاط النظام. وما زلت، حتى هذه اللحظة، لا أصدق أن الثورة التي لم أتنبأ بها قد قامت ونجحت! كما لم يبلغ بي التفاؤل يومًا أن الثورة ستحدث بهذه القوة والعظمة والرقي والتحضر، وحتى إن تصورت حدوثها، فإنني لم أكن أصدق أنني سأعاصرها وأعايشها وأنا أقترب من السبعين، وإنما كنت أراها في الخيال حلمًا عزيز المنال، تحقق بدماء شهدائنا من الشباب الذين قادوا الجماهير إلي ميادين الثورة بأقاليم مصر كافة، وليس بميدان التحرير أو ميدان القائد إبراهيم وحدهما. إن أحدًا لا يتصور أنني ذبت في المظاهرة وأنا أصرخ مع الشباب رافعًا قبضتي في الهواء مرددًا معهم هتافاتهم، ولم أشعر بنفسي إلا في الإبراهيمية حين أحسست أن ظهري قد سقط مني، فاتجهت إلى أول "تاكسي" ليعيدني إلى المنزل منخلع الظهر، منشرح الصدر، مفجوعًا - من شدة الفرحة - إلى الطعام، وكأنني، كما يقولون "آكل في آخر زادي"! *** لقد قامت أعمالي الروائية بوجه عام، والثلاثة الأخيرة، بوجه خاص، على طرح أشكال الفساد والانهيار الشامل لكل أحوال البلاد، وعجز الشعب عن مواجهة دنس السلطة الطاغية المستبدة، ورضوخه لسطوتها وجبروتها وقهرها، واستسلامه لليأس والتخاذل وأحلام اليقظة، والاكتفاء بالدعاء إلى الله. هذا ما أدعيه، وهو تقريبًا ما قاله النقاد في دراساتهم المنشورة عن هذه الأعمال. لقد عبَّرت عن ذلك بأشكال فنية تعدُّ تحريضًا غير مباشر علي الثورة في "الشيء الآخر" عام 2004 و"الحب والزمن" عام 2007 وأخيرًا "المقلب، وهى أعمال تكشف بوضوح عن الواقع الأليم الذى يحياه شعب مصر، محكوما بالحديد والنار والفاسدين والانتهازيين والمنافقين. ورغم ألمى الشديد ومعاناتي القاتلة أثناء كتابة رواياتي الا أنني كنت أشعر بلذة فائقة في الالتفاف حول متابعة عيون النظام للكتاب المزعجين بحيث أوصل أفكري الى القراء، ولقد نجحت في ذلك بالفعل، رغم أن استخدامي للرمز كان شفافا الى درجة الوضوح العلني، ولقد ساعد على نجاح مقصدي جهل رؤوس النظام بكل ما يتعلق بالأدب والثقافة من قمتهم الى قاعدتهم، وكنت أقيس هذا النجاح بنوعية الخطابات التي كانت تصلني من قرائي بالبريد العادي أحيانا، وبالبريد الالكتروني في معظم الأحيان، والتي كانت تثلج صدري وتسعدني وتشفيني من المرض. ورغم هذا كله فقد كنت أفتقد الأمل تماما في قيام ثورة، فما كنت أرى أمامى شيئا غير العجز في مواجهة الدنس. ولما تصاعدت حدة القهر والبطش، وتحول الفساد من فساد عظيم إلى ما أسميته ب "عصر الفساد الأعظم" وأصبح وزير الداخلية – خادم الرئيس وأسرته والمطيع الأعمى لتعليمات سيده بإطلاق الرصاص على المتظاهرين ودهسهم بمجنزاته الرهيبة – هو الحاكم الفعلي لمصر، والذي تسبب بجرمه في إفساد العلاقة بين الشعب والشرطة الى أجل غير مسمى، والمسئول عن الفوضى الأمنية العارمة التي تسود البلاد الآن، قررت أن أتحرر من جبني وحذري وأن أترك الرمز والهمز، والغمز واللمز، إلى الصراخ الفني العلني، فسلمت أمري الى الله وكتبت "الحب والزمن". ---- الإسكندرية 8/7/2011