لأول مرة| دراسة ل«القومي للبحوث» تبحث في شخصية المجرم.. خاطف الأطفال    نقيب البيطريين يكشف تفاصيل الأوضاع داخل النقابة بعد توليه المقعد (تفاصيل)    تعرف على متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط» اليوم    غداً.. البنك المركزي يطرح أذون خزانة بقيمة 45 مليار جنيه    أحدهم الاستقالة، لوبان تقسو على ماكرون وتطالبه ب 3 خيارات للخروج من الأزمة السياسية    العاصفة الاستوائية ألبرتو تقتل 4 أشخاص على الأقل في المكسيك    الثانوية العامة 2024.. توافد الطلاب على اللجان استعدادا لأداء امتحان اللغة العربية (صور)    اليوم.. الحكم على إنجي حمادة وكروان مشاكل بتهمة نشر فيديوهات خادشة    استقرار أسعار الذهب اليوم السبت 22 يونيو 2024    الثانوية العامة 2024.. عمليات التعليم تتابع تسلم كراسات امتحان اللغة العربية باللجان    مسؤول سعودي يدافع عن إدارة موسم الحج 2024 وسط انتقادات بسبب الوفيات    حفل أنغام بمهرجان موازين المغربي ... لم يحضر احد    المقاومة الإسلامية تعلن مقتل أحد عناصرها بقصف أمريكي قرب الحدود السورية    الخارجية السودانية تصدر بيانا بشأن الأزمة مع الإمارات.. ماذا حدث؟    نوران جوهر تتأهل إلى نهائى بطولة العظماء الثمانية للاسكواش    تراجع سعر الفراخ.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم السبت 22 يونيو 2024    تامر عاشور يعلق على أزمة شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب مع أسرتها.. ماذا قال؟    افتتاح وحدة علاج الجلطات والسكتة الدماغية فى مستشفيات «عين شمس» قريبًا    العثور على جثة طفل ملقاة بالزراعات في البداري بأسيوط    كلب مفترس يعقر 12 شخصا بقرية الرئيسية في قنا    التشكيل الرسمي لمباراة تشيلي وبيرو في كوبا أمريكا 2024    البرتغال وتركيا.. مواجهة مشتعلة على التأهل المبكر في يورو 2024    انتشال 14 جثة بعد غرق مركب مهاجرين أمام سواحل إيطاليا    دار الإفتاء تكشف حكم قراءة المرأة القرآن بدون حجاب    نائب رئيس لجنة الحكام يكشف كواليس اختيار طاقم تحكيم مباراة القمة بين الأهلي والزمالك    قتيلان ومصابون إثر إطلاق نار بولاية أركنساس الأمريكية    مصدر أمني يكشف حقيقة انتحار نزيلة روسية بأحد مراكز الإصلاح والتأهيل    سفينة تبلغ عن وقوع انفجار في محيطها شرقي مدينة عدن اليمنية    التعادل يحسم مباراة هولندا وفرنسا في يورو 2024    تركي آل الشيخ يحتفل بتصدر "ولاد رزق 3: القاضية" إيرادات السينما المصرية    بعد تعرضها لوعكة صحية.. نقل لقاء سويدان إلى المستشفى    عمرو دنقل: رحلة فرج فودة الفكرية مصدر إلهامي لانطلاق روايتي "فيلا القاضي" المؤهلة لجائزة طه حسين    تُلعب فجر السبت.. القنوات الناقلة لمباراة تشيلي وبيرو في كوبا أمريكا 2024    مفتي الجمهورية: عماد عملية الفتوى الإجابة عن 4 تساؤلات    موعد مباراة الأهلي والزمالك في الدوري المصري والقنوات الناقلة    منظمة الصحة العالمية تحذر من حقن تنحيف قاتلة    أهمية تناول الماء في موسم الصيف    مع انتهاء موسم الحج. سعر الريال السعودي اليوم السبت 22 يونيو 2024 مقابل الجنيه المصري    طبق الأسبوع| من مطبخ الشيف حنان محمد.. كرات اللحم بالجبنة وصوص الطماطم    المصرية للاتصالات.. موعد سداد فاتورة الإنترنت الأرضي يوليو 2024    أخبار اليوم الأسبوعي| حقائب التحدى ومفاجأة الأعلى للجامعات والجمهورية الجديدة    موعد سداد فاتورة التليفون الأرضي لشهر يونيو 2024 في مصر    أشرف زكي: قرارات النقابات المهنية بمقاطعة إسرائيل لا تقبل الجدل (فيديو)    إيمي سمير غانم ضيفة حسن الرداد في «الليلة دوب».. تعرف على الموعد (صور)    مصرع شاب فى حادث انقلاب دراجة نارية بالدقهلية    عضو لجنة العمرة يكشف مفاجأة بشأن وفيات الحجاج المصريين هذا العام (فيديو)    دعاء الثانوية العامة مكتوب.. أفضل 10 أدعية مستجابة عند الدخول إلى لجنة الامتحان    رئيس مجلس الدولة الجديد 2024.. من هو؟ مصادر قضائية تكشف المرشحين ال3 (خاص)    موعد نهائيات كأس الأمم الإفريقية بالمغرب 2025.. موقف السوبر بين الأهلي والزمالك (فيديو)    التعاون الإسلامي: اعتراف أرمينيا بدولة فلسطين ينسجم مع القانون الدولي    تنسيق الثانوية العامة 2024 محافظة القليوبية المرحلة الثانية المتوقع    أخبار × 24 ساعة.. التعليم لطلاب الثانوية: لا تنساقوا خلف صفحات الغش    إعلام إسرائيلى: الجيش يقترب من اتخاذ قرار بشأن عملية رفح الفلسطينية    مركز البابا أثناسيوس الرسولي بالمنيا ينظم اللقاء السنوي الثالث    أفتتاح مسجد العتيق بالقرية الثانية بيوسف الصديق بالفيوم بعد الإحلال والتجديد    مدير الحديقة الثقافية للأطفال بالسيدة زينب: لقاء الجمعة تربوي وتثقيفي    وزير الأوقاف: تعزيز قوة الأوطان من صميم مقاصد الأديان    أول تعليق من الأب دوماديوس الراهب بعد قرار الكنيسة بإيقافه عن العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أنا أروى يا مريم" رواية الهوية والألم
نشر في صوت البلد يوم 24 - 10 - 2019

تبدأ رواية "أنا أروى يا مريم"( دار الساقي- بيروت ) للكاتبة أريج جمال مع صوت مريم وهي تحكي لأروى حكايتها بصيغة المخاطب، وتكشف عن ماضيها وذاتها الأعمق، بل علة وجودها في هذا العالم.
لا تراهن الرواية على قضية المثلية النسوية لتكون القضية المحورية في النص فقط، إنها جزء من عالم السرد إذ ثمة محاور أخرى تتقاطع مع جوهر السؤال والبحث عن الهوية الجنسانية، الثورة، الحب، الفن، القهر، التمرد ، الظلم، الرفض، غياب العدالة، كلها قضايا تنشغل فيها الرواية، وتقدمها للقارئ بحساسية ورهافة، عبر لغة تشبه الغلالة الرقيقة التي يمكن رؤية ما وراءها بشفافية تجعل من بعض الوقائع والتفاصيل أشبه بتخمين مستمر عن حقيقته.
يبدأ النص مع صوت مريم، وهي في رحم أمها، هذا السرد الذي يبدأ من الرحم كفيل بأن يحمل القارئ إلى تلك الحالة العائمة لوجود مضطرب ومرفوض.. تأتي مريم إلى الحياة بسبب دعاء أمها صِديقة، وتوسلاتها بأن تنجب طفلا أيا كان، ولدا أو بنتا، لكن في حال كانت بنتا "سأسميها على اسمك" تخاطب صديقة مريم العذراء وهي تحدق في السقف.لنقرأ : "يا مريم..أنت أم خليني أم، هكذا تستعين بمن لا يستطيع الله أن يرده، يا مريم قولي له أن يعطيني وأنا أسمي العطية مريم" لكن الحياة ليست بهذه البساطة، مريم من وجودها الرحمي وهي نطفة تراقب العالم من حولها، تدرك جيدا الحزن الذي يحكم حياة صديقة، وسوف يحكم حياة مريم فيما بعد: " بدأت الحياة قبل أن أولد. ماما تجلس على مقعد وحيد في منتصف الغرفة بالضبط،كأنها قد أحصت المسافة جيدا واختارت مكانها، خائفة ألا تكون حبلى..حين كانت ماما خائفة، في الغرفة الفارغة، تُحملق في السقف لم تكن تعرف أني نجوت. هذه أول صورة أرى عليها أمي، يا أروى، صورة الحزن الذي لم يبدله وجودي فرحا.كيف أُخبرها أن الله قد سمعها واستجاب؟
مريم فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، تعيش مع جدها وجدتها، تكتب قصائد لا تعرف كيف تُكملها،لديها ماض واسع وشهادات مَرضية منذ كانت في العاشرة. ولدت مريم في مدينة الرياض،لأبوين مصريين مغتربين يعيشان في بيت ضيق، ويتمنيان قدوم ولد ذكر، لكن تأتي مريم إلى حياتهما، وبدلا من أن تهدأ صديقة وتنعم بقدوم الطفلة، تتكدر حياتها بتهددات الزوج بالزواج من أخرى للحصول على ولد.
***
ومن نافذة غرفة في شارع شامبليون تنظر مريم وأروى إلى الشارع المهتز تحت أرجل الثوار.. الثورة هنا باطنية بين فتاتين أيضا، إحداهما مريم التي تكتشف هويتها الداخلية مع قيام الثورة وظهور أروى، والأخرى أروى التي تختار العودة إلى مصر بعد قيام ثورة يناير 2011 وكأني بهذه الاختيارات الموشومة باحتراق محض اختياري من البطلتين، تسعى كل منهما إلى اكتشاف مصيرها المختار. الأولى في اكتشاف هويتها الجنسية، والثانية في رؤية المدينة المشتعلة بالثورة وكأنها بمجرد هذه الرؤية تتمكن من تحقيق انتقام فردي لمن سبب لها معاناة كبرى في حياتها ككل.
يدور الفصل الثاني على لسان مريم أيضا، تخاطب فيه الله وتحكي عن قصتها مع أروى. إنه الحب غير المتوقع، الصادم، الجارح، الفائض في وهجه عن القلب والإرادة، لأن كل شيء يتم بضربات فرشاة سريعة، مع صوت عزف متقطع لآلة الأوبوا، ثم هناك " الخوف"، إحساس راسخ في هذه الرواية. الخوف يسم حياة الأبطال جميعا، لا مريم وأروى فقط. يبزغ الخوف في حياة مريم منذ اللحظة التي تعرف أنه غير مُرحب بوجودها، لأن أبيها تمنى قدوم صبي يسميه "علي" كي يحمل اسم العائلة، وتدرك مريم أن قدومها إلى الدنيا يهدد حياة أمها صديقة بأن يتزوج والدها من أخرى لتنجب له الصبي. أما أكثر مواقف الرواية تصاعدا نحو الخوف في تلك اللحظة "التي يكتشف فيها الناس أن للميتين ابنة محبوسة في بيت بلا مفتاح"، يقضي والدا مريم حتفهما في حادث سير، بينما هي وحيدة في المنزل، تقضي أياما ثلاث تنتظر دون جدوى، ثم تسير الأحداث نحو عودة مريم إلى مصر لتعيش مع جدتها "أم كلثوم"، المرأة القاسية المتسلطة التي لم تتمكن مريم من حبها أبدا.
يجد القارئ نفسه أمام بطلة واجهت رفضا لكيانها من سلطة الأب الذكورية، ثم واجهت فقدا لمصدر الأمان الوحيد في حياتها : أمها صديقة. إنها كيان متألم، حفر الألم فيه مجرى عميقا، لم يتم الشفاء منه أبدا.مريم بعد فقد أبويها تعاني من فقد الهوية والصورة، بل يصير اسمها بين الأقارب والأعمام " اليتيمة"، لكن مريم نفسها تعتبر أنها تيتمت مبكرا جدا وفقدت أبويها تقريبا منذ لحظة الميلاد.
في تكوين شخصية مريم ثمة تقاطعات حادة ينبغي التوقف أمامها ، لأنها تشكل حلقات متصلة من المهم استيعابها لأنها تمثل في سلوك مريم لاحقا ردة فعل ضد المجتمع، هناك الأم صديقة التي تعاني مع أبويها من تفضيل وتمييز أخيها علي عليها وعلى أخواتها البنات، ثم هناك والد مريم " محمد علي" الذي كره قدوم مريم للعالم، وهناك أيضا الجدة أم كلثوم التي أنجبت الذكور وكانت تتمنى أن يكون لها ابنة، لكنها في الوقت عينه تمارس قمعا ذكوريا نحو زوجة ابنها صديقة، مما يدل على أن الفكر الذكوري هو نمط مهيمن على عقلية النساء أيضا، وأن المرأة تمارس ضد المرأة أحيانا قهرا لا ينفصل عما يقوم به الرجل.
إن اختيار مريم للعلاقة المثلية، لا يدل فقط على الهوية الجنسية بقدر ما هو تعبير عن موقفها من العالم ككل. الشوق إلى الأنثى في حياة مريم هو شوق للأمان، إلى تلك اللحظة الطيفية في الرحم، لنقرأ :" واصلت الانزلاق، غير مصدقة أن الله الذي أودعني في الجنة يقتلعني منها الآن. عرفت أن العالم الجديد أبله وخبيث، وسريع النسيان، وصار علي أن أُسلم منذ الآن أنه لن يعيدني إلى وطني."
معاناة متوازية
الشخصية المحورية الثانية هي أروى لدى أروى نبرة خاصة في القطع والأمل، هي شخصية مختلفة تماما عن مريم، جريئة، مقاومة، متحدية لديها معاناة متوازية بالعمق ومتباينة في الشكل.أروى ابنة سارة وصلاح، وكان من المفترض أن تكون ابنة لسارة وميشيل. ومن هنا محور حكايتها؛ من لحظة لقاء سارة مع ميشيل النجار في الجامعة. لا تبدو قصة الحب بين سارة وميشيل مجرد قصة بين شاب مسيحي فقير وفتاة مسلمة ثرية ؛ في حكايتهما ثمة تقاطع للفن مع للحياة، لسيطرة الظلم وتحكمه المخل بالعالم ، بل تعديل المصائر لتكون أروى نتاج علاقة زواج يغيب عنه أي نوع من الحب. ولأن أروى تمتلك القدرة على التمرد،هي الشاهدة على انطفاء أمها سارة، على مواتها الداخلي، تختار عقابا قاسيا للأب، لا تترك مصيره للزمن، بل تختار هي أن تعذبه برحيلها إلى ألمانيا، بتمردها على سلطته، باختيارها أن تكون عازفة جوالة، لها خليلات وعشيقات؛ ثم في لحظة الثورة تختار الرجوع إلى مصر، لتلتقي مع مريم، وتكون بينهما حكاية.
يجدر التوقف في هذه الرواية طويلا أمام اللغة، لا يمكن وصف اللغة بالشعرية فقط، بل أُفضل استخدام كلمة الخصوصية، سواء عبر الاستعانة بمفردات تبدو للوهلة الأولى عامية، سرعان ما ينتبه القارئ إلى أصلها الفصيح، أو في محاولة تعديل العامية أو استخدامها عبر وضعها ضمن أقواس خلال السرد، مثلا تستخدم الكاتبة فعل "شاف" بشكل متكرر عوضا عن "رأى"، وفعل "باس" بدلا من "قبل"، تقول : " خضني فهم أنها تبوسني من أنفي"، "قومي يا مريم، قومي وخليني أشوفك كلك."
بالإضافة إلى احتواء الجمل على تواصيف وتشابيه غير مألوفة، كأن تقول : "واصلت عيناها التحديق بي كمركز للخيبة"، " ضامة يديها إلى كفها، رافعة اليدين في وضع الميزان".. " رأيتك أولا شبه الذئاب ثم جعلني أنفك الصغير المائل أفكر بالنسور، لم تتصور أن ملاك القدر الواقف على قفاها قرر أن ينفذ لها الأمنية كما هي".. "أضحت الحياة مع الوقت كتابا بلغة لم تعد مقروءة".. " كل إجابة هي صفر جديد تضيفينه إلى العالم".
تبدأ رواية "أنا أروى يا مريم"( دار الساقي- بيروت ) للكاتبة أريج جمال مع صوت مريم وهي تحكي لأروى حكايتها بصيغة المخاطب، وتكشف عن ماضيها وذاتها الأعمق، بل علة وجودها في هذا العالم.
لا تراهن الرواية على قضية المثلية النسوية لتكون القضية المحورية في النص فقط، إنها جزء من عالم السرد إذ ثمة محاور أخرى تتقاطع مع جوهر السؤال والبحث عن الهوية الجنسانية، الثورة، الحب، الفن، القهر، التمرد ، الظلم، الرفض، غياب العدالة، كلها قضايا تنشغل فيها الرواية، وتقدمها للقارئ بحساسية ورهافة، عبر لغة تشبه الغلالة الرقيقة التي يمكن رؤية ما وراءها بشفافية تجعل من بعض الوقائع والتفاصيل أشبه بتخمين مستمر عن حقيقته.
يبدأ النص مع صوت مريم، وهي في رحم أمها، هذا السرد الذي يبدأ من الرحم كفيل بأن يحمل القارئ إلى تلك الحالة العائمة لوجود مضطرب ومرفوض.. تأتي مريم إلى الحياة بسبب دعاء أمها صِديقة، وتوسلاتها بأن تنجب طفلا أيا كان، ولدا أو بنتا، لكن في حال كانت بنتا "سأسميها على اسمك" تخاطب صديقة مريم العذراء وهي تحدق في السقف.لنقرأ : "يا مريم..أنت أم خليني أم، هكذا تستعين بمن لا يستطيع الله أن يرده، يا مريم قولي له أن يعطيني وأنا أسمي العطية مريم" لكن الحياة ليست بهذه البساطة، مريم من وجودها الرحمي وهي نطفة تراقب العالم من حولها، تدرك جيدا الحزن الذي يحكم حياة صديقة، وسوف يحكم حياة مريم فيما بعد: " بدأت الحياة قبل أن أولد. ماما تجلس على مقعد وحيد في منتصف الغرفة بالضبط،كأنها قد أحصت المسافة جيدا واختارت مكانها، خائفة ألا تكون حبلى..حين كانت ماما خائفة، في الغرفة الفارغة، تُحملق في السقف لم تكن تعرف أني نجوت. هذه أول صورة أرى عليها أمي، يا أروى، صورة الحزن الذي لم يبدله وجودي فرحا.كيف أُخبرها أن الله قد سمعها واستجاب؟
مريم فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، تعيش مع جدها وجدتها، تكتب قصائد لا تعرف كيف تُكملها،لديها ماض واسع وشهادات مَرضية منذ كانت في العاشرة. ولدت مريم في مدينة الرياض،لأبوين مصريين مغتربين يعيشان في بيت ضيق، ويتمنيان قدوم ولد ذكر، لكن تأتي مريم إلى حياتهما، وبدلا من أن تهدأ صديقة وتنعم بقدوم الطفلة، تتكدر حياتها بتهددات الزوج بالزواج من أخرى للحصول على ولد.
***
ومن نافذة غرفة في شارع شامبليون تنظر مريم وأروى إلى الشارع المهتز تحت أرجل الثوار.. الثورة هنا باطنية بين فتاتين أيضا، إحداهما مريم التي تكتشف هويتها الداخلية مع قيام الثورة وظهور أروى، والأخرى أروى التي تختار العودة إلى مصر بعد قيام ثورة يناير 2011 وكأني بهذه الاختيارات الموشومة باحتراق محض اختياري من البطلتين، تسعى كل منهما إلى اكتشاف مصيرها المختار. الأولى في اكتشاف هويتها الجنسية، والثانية في رؤية المدينة المشتعلة بالثورة وكأنها بمجرد هذه الرؤية تتمكن من تحقيق انتقام فردي لمن سبب لها معاناة كبرى في حياتها ككل.
يدور الفصل الثاني على لسان مريم أيضا، تخاطب فيه الله وتحكي عن قصتها مع أروى. إنه الحب غير المتوقع، الصادم، الجارح، الفائض في وهجه عن القلب والإرادة، لأن كل شيء يتم بضربات فرشاة سريعة، مع صوت عزف متقطع لآلة الأوبوا، ثم هناك " الخوف"، إحساس راسخ في هذه الرواية. الخوف يسم حياة الأبطال جميعا، لا مريم وأروى فقط. يبزغ الخوف في حياة مريم منذ اللحظة التي تعرف أنه غير مُرحب بوجودها، لأن أبيها تمنى قدوم صبي يسميه "علي" كي يحمل اسم العائلة، وتدرك مريم أن قدومها إلى الدنيا يهدد حياة أمها صديقة بأن يتزوج والدها من أخرى لتنجب له الصبي. أما أكثر مواقف الرواية تصاعدا نحو الخوف في تلك اللحظة "التي يكتشف فيها الناس أن للميتين ابنة محبوسة في بيت بلا مفتاح"، يقضي والدا مريم حتفهما في حادث سير، بينما هي وحيدة في المنزل، تقضي أياما ثلاث تنتظر دون جدوى، ثم تسير الأحداث نحو عودة مريم إلى مصر لتعيش مع جدتها "أم كلثوم"، المرأة القاسية المتسلطة التي لم تتمكن مريم من حبها أبدا.
يجد القارئ نفسه أمام بطلة واجهت رفضا لكيانها من سلطة الأب الذكورية، ثم واجهت فقدا لمصدر الأمان الوحيد في حياتها : أمها صديقة. إنها كيان متألم، حفر الألم فيه مجرى عميقا، لم يتم الشفاء منه أبدا.مريم بعد فقد أبويها تعاني من فقد الهوية والصورة، بل يصير اسمها بين الأقارب والأعمام " اليتيمة"، لكن مريم نفسها تعتبر أنها تيتمت مبكرا جدا وفقدت أبويها تقريبا منذ لحظة الميلاد.
في تكوين شخصية مريم ثمة تقاطعات حادة ينبغي التوقف أمامها ، لأنها تشكل حلقات متصلة من المهم استيعابها لأنها تمثل في سلوك مريم لاحقا ردة فعل ضد المجتمع، هناك الأم صديقة التي تعاني مع أبويها من تفضيل وتمييز أخيها علي عليها وعلى أخواتها البنات، ثم هناك والد مريم " محمد علي" الذي كره قدوم مريم للعالم، وهناك أيضا الجدة أم كلثوم التي أنجبت الذكور وكانت تتمنى أن يكون لها ابنة، لكنها في الوقت عينه تمارس قمعا ذكوريا نحو زوجة ابنها صديقة، مما يدل على أن الفكر الذكوري هو نمط مهيمن على عقلية النساء أيضا، وأن المرأة تمارس ضد المرأة أحيانا قهرا لا ينفصل عما يقوم به الرجل.
إن اختيار مريم للعلاقة المثلية، لا يدل فقط على الهوية الجنسية بقدر ما هو تعبير عن موقفها من العالم ككل. الشوق إلى الأنثى في حياة مريم هو شوق للأمان، إلى تلك اللحظة الطيفية في الرحم، لنقرأ :" واصلت الانزلاق، غير مصدقة أن الله الذي أودعني في الجنة يقتلعني منها الآن. عرفت أن العالم الجديد أبله وخبيث، وسريع النسيان، وصار علي أن أُسلم منذ الآن أنه لن يعيدني إلى وطني."
معاناة متوازية
الشخصية المحورية الثانية هي أروى لدى أروى نبرة خاصة في القطع والأمل، هي شخصية مختلفة تماما عن مريم، جريئة، مقاومة، متحدية لديها معاناة متوازية بالعمق ومتباينة في الشكل.أروى ابنة سارة وصلاح، وكان من المفترض أن تكون ابنة لسارة وميشيل. ومن هنا محور حكايتها؛ من لحظة لقاء سارة مع ميشيل النجار في الجامعة. لا تبدو قصة الحب بين سارة وميشيل مجرد قصة بين شاب مسيحي فقير وفتاة مسلمة ثرية ؛ في حكايتهما ثمة تقاطع للفن مع للحياة، لسيطرة الظلم وتحكمه المخل بالعالم ، بل تعديل المصائر لتكون أروى نتاج علاقة زواج يغيب عنه أي نوع من الحب. ولأن أروى تمتلك القدرة على التمرد،هي الشاهدة على انطفاء أمها سارة، على مواتها الداخلي، تختار عقابا قاسيا للأب، لا تترك مصيره للزمن، بل تختار هي أن تعذبه برحيلها إلى ألمانيا، بتمردها على سلطته، باختيارها أن تكون عازفة جوالة، لها خليلات وعشيقات؛ ثم في لحظة الثورة تختار الرجوع إلى مصر، لتلتقي مع مريم، وتكون بينهما حكاية.
يجدر التوقف في هذه الرواية طويلا أمام اللغة، لا يمكن وصف اللغة بالشعرية فقط، بل أُفضل استخدام كلمة الخصوصية، سواء عبر الاستعانة بمفردات تبدو للوهلة الأولى عامية، سرعان ما ينتبه القارئ إلى أصلها الفصيح، أو في محاولة تعديل العامية أو استخدامها عبر وضعها ضمن أقواس خلال السرد، مثلا تستخدم الكاتبة فعل "شاف" بشكل متكرر عوضا عن "رأى"، وفعل "باس" بدلا من "قبل"، تقول : " خضني فهم أنها تبوسني من أنفي"، "قومي يا مريم، قومي وخليني أشوفك كلك."
بالإضافة إلى احتواء الجمل على تواصيف وتشابيه غير مألوفة، كأن تقول : "واصلت عيناها التحديق بي كمركز للخيبة"، " ضامة يديها إلى كفها، رافعة اليدين في وضع الميزان".. " رأيتك أولا شبه الذئاب ثم جعلني أنفك الصغير المائل أفكر بالنسور، لم تتصور أن ملاك القدر الواقف على قفاها قرر أن ينفذ لها الأمنية كما هي".. "أضحت الحياة مع الوقت كتابا بلغة لم تعد مقروءة".. " كل إجابة هي صفر جديد تضيفينه إلى العالم".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.