هناك أصوات غنائية تسعى دائماً إلى تقديم غناء يبقى ويعيش لسنوات طويلة، وهى هنا تحاول أن تقيم جسوراً بينها، وبين الجمهور فى مختلف العصور. وهناك مطربون يتعاملون مع الأغنية بمنطق الربح والخسارة، أى التجارة، وبالتالى تجد عمر إنتاجهم الفنى لا يتجاوز الشهر ويختفى. وللأسف أصبح 99٪ من المطربين المصريين يعملون وفق الشكل الثانى. فى الوقت الذى تجد أن أغلب مطربى العالم العربى الآن يسعون نحو الكلمة الجادة، واللحن الشرقى الثرى بمقاماته الموسيقية وكذلك فى عملية التنفيذ الموسيقى. وبما أننا حريصون على الغناء المصرى لابد أن نعترف بالأخطاء ونناقشها، ونضع تجارب الآخرين أمامنا لكى نستفيد. بالصدفة استمعت إلى الألبوم الجديد للمطرب اللبنانى وائل كافورى، الذى أصدره قبل أيام، ووجدت فى تجربة وائل ما يدعونا لإعادة طرح كل الأمور المتعلقة بالأغنية المصرية، ومقارنتها بمثيلتها العربية. ألبوم وائل يضم 8 أغانى هى «صار الحكى» و«كل شىء حوالى» و«الغرام المستحيل» و«ما فى لو» كلمات منير بوعساف وألحان وتوزيع بلال الزين. و«ضميرك مرتاح» كلمات منير عساف، وألحان هشام بولس وتوزيع دانى حلو. و«على فكرة» كلمات أنور مكاوى وألحان محمود العبد، وتوزيع عمرو صباع، و«يابكون» كلمات منير بوعساف، وألحان وتوزيع ملحم أبو شديد. و«كيفك يا وجعنى» كلمات منير بوعساف وألحان هشام بولس وتوزيع دانى حلو، بمجرد الاستماع إلى أول أغانى الألبوم ثم تتابع الأغانى تشعر أنك أمام أعمال غنائية مختارة بعناية شديدة، كتبت، ولحنت من أجل أن تقاوم الزمن، وتستمر. وهذا واضح تماماً من خلال التنفيذ الموسيقى، والتوزيع الذى لا يعتمد على الموضة السائدة والرائجة، فهو لا يقدم الهاوس أو اللاتين ميوزك. اختار وائل ومعه الموزعون الموسيقيون لغة الموسيقى التى تخدم الأغنية، ولا تنتمى لعصر الموضة، ولذلك فهو ألبوم أنتج ليعيش. وجاء صوت وائل كفورى معبراً تماماً عن الكلمات الجبلية ذات المساحات العريضة، إلا أنه اختار لغة التعبير بالصوت فوصل الأمر إلى بر الأمان على مستوى العالم العربى ليس وائل فقط الذى يفكر بهذه الطريقة لكن أغلب الأصوات مثل كاظم الساهر وماجدة الرومى ونجوى كرم ومحمد عبده وملحم زين وماجد المهندس وديانا حداد حتى إليسا ونانسى عجرم عندما تغنيان باللهجة اللبنانية تجدهما مختلفتين تماماً. كل هذه الأسماء وغيرهم تجد فى ألبوماتهم أشياء كثيرة مختلفة، ومتنوعة، لذلك تجد أعمال لماجدة الرومى وكاظم موجودة وحاضرة رغم مرور سنوات على إنتاجها، وهو أمر يؤكد أن هذه الأسماء تقدم فكراً مختلفاً. لو تتبعنا الساحة الغنائية المصرية خلال السنوات الأخيرة تجد الموضة الغنائية هى التى تتحكم فى الإنتاج الغنائى المصرى باستثناء اسمين أو ثلاثة على الأكثر محمد منير وعلى الحجار والباقى إما مختفى أو مقلد للغرب وأبرز الذين يسعون للتقليد عمرو دياب وتامر حسنى ومحمد حماقى، فهم يرون أن مستقبلهم مرتبط بما يقدمونه من موضة. وهناك أسماء أخرى كانت تستحق الأفضل بحكم الإمكانيات الصوتية لكنها غرقت أيضاً فى الموضة مثل شيرين فهى أكثر الأصوات النسائية ومعها أنغام قادرة على التعبير، ونقل الإحساس بالكلمة لكن أين شيرين؟ وأين أنغام؟.. نعم موجودتان على الساحة لكن هناك فارقاً بين أن تتواجد بعمل فنى وأن تتواجد من خلال البرامج. أيضاً آمال ماهر ليست ببعيدة عن شيرين وأنغام. رغم أنها تتمتع بصوت هائل، لكنها عندما تختار أشعر بأنها تختار وفقاً لما يحدث فى السوق، رغم أنها من الممكن أن تزاحم كل الأصوات العربية الموجودة، لأن خامة صوتها غير موجودة، لكن الملحن الذى يخرج هذه الطاقة غير موجود، والموجود على الساحة لا يفرق فى التعامل بين صوت آمال، وصوت أى مطربة أو مطرب آخر، وبالتالى أصبحت مثل كل الأصوات الموجودة. أزمة الغناء المصرى لخصها الراحل الكبير عمار الشريعى فى جملة ألا وهى «كل الأصوات المصرية بيختاروا زى بعض ويغنوا زى بعض» فضاعت شخصية الكل وتاه الجميع، وعمار الشريعى -رحمه الله- عندما يقول هذه العبارة، فهو يقولها بعد دراسة، وفحص لكل المتواجدين. وكل من عرفه عن قرب يجد أن آراءه ليست سطحية، لكنها عميقة، ومتأنية، فهو كان يرى أيضاً أن أنغام أفضل ما غنت، كانت أعمالها مع والدها محمد على سليمان، ورغم أن هذا الرأى أغضب أنغام، لكنه قال هذا الرأى بعد دراسة لكل ما قدمته. وأزمة الموضة التى تعانى منها الأغنية المصرية ليست بجديدة، لكنها مستمرة منذ منتصف الثمانينيات عندما ظهرت هوجة «لولاكى» للمطرب على حميدة، كان يقوم بقيادة هذه الهوجة حميد الشاعرى، وظل يقدمها بمصاحبة مجموعة من الشعراء أبرزهم عادل عمر ثم اختفى، وظهرت موجة مصطفى كامل كشاعر، ثم دخلنا فى مرحلة مجموعة أخرى إلى أن اكتملت المنظومة بجيل تامر حسنى، الذى حول كل كلمة تقال فى الشارع إلى أغنية، وهو أمر لا يليق بالأغنية المصرية، فالأغنية لها «فورمة» فى الكتابة لا يجب أن تخرج عنه، وكذلك فى التلحين. من هنا انهارت الأغنية المصرية، وتفوقت اللبنانية، والخليجية، وبما أننا بصدد عصر جديد فى مصر، علينا أن ننحاز أكثر للفن بدلاً من الانحياز لصالح الربح والخسارة التى تشتهر به لغة التجارة.