وصلت أوروبا إلي مرحلة شديدة من التدهور المعيشي والانحطاط الفكري قبل أن تستقل قطار عصر النهضة الذي نقلها إلي آفاق الرفاهية المبنية علي القيم الحضارية والتصنيع ومواصلة الاكتشافات العلمية. يصف المفكر العظيم الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه «ثقافتنا في مواجهة العصر» حال أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي قبل انطلاق النهضة، عندما يقول: «كان البناء الفكري الثقافي كله قد تزعزعت أركانه وخارت قواه، انعكاسا لتدهور الحياة بشتي مقوماتها إذ ذاك، وكأنما إذا أراد الله لنظام فاسد أن يزول، أحاطه بما ينخر في عظامه، فلقد تكاثرت علي أوروبا عندئذ عوامل الضعف. ورجال الدين لم يعودوا يحافظون علي الدين إلا في قشوره دون اللباب، وفي شعائره دون المحتوي، وما يسمي في التاريخ بحرب مائة العام، ثم وباء الطاعون الذي يرد ذكره في الكتب باسم «الموت الأسود»، فماذا يتخلف عن جو كهذا سوي اضطراب القيم وفوضي الأخلاق، وجدب الفاعلية العقلية، ونكسة تصيب الإنسان في ثقته بعقله وتقذف به إلي دنيا الخرافة؟». لو أعدت التفكير في كلمات زكي نجيب محمود لوجدتها تنطبق علي الأيام التي نعيشها، فخلال ثلاثة عقود من الزمن تولي نظام حسني مبارك تجريف مصر في كل النواحي الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وكان الغالب علي الظن أننا قد انتهينا من هذا الموروث عندما استطاعت ثورة 25 يناير اقتلاع الموظف ضعيف الخيال الذي يعتلي عرش مصر، وانتظر الناس عاما ونصف العام عندما حكم المجلس العسكري البلاد فأدخلها في مرحلة ركود أشد، كان فيها كمن ورث تركة لا يدري ماذا يفعل فيها، فأبقي الأوضاع علي ما هي عليه، فأصاب الوطن بالجمود وأهدر الثقة التي اكتسبها من الشعب ليرحل غير مأسوف عليه ودون أن يجد أنصاراً، ويتجدد الأمل بانتخاب أول رئيس لا ينتمي للمؤسسة العسكرية منذ ثورة يوليو 1952، لكن النظام الجديد جاء بلا خبرة في إدارة مؤسسات الدولة، فكان الوطن عنده مثل لعبة بين يدي طفل يعبث بها كما يشاء، ولكي يتعرف علي اللعبة فإنه يتولي تفكيك أجزائها دون أن تكون لديه القدرة علي إعادة اللعبة إلي ما كانت عليه. ولأن النظام يخشي أن يخطف أحد منه اللعبة حرص علي عدم الاستعانة بأهل الخبرة في إدارة الأمور، وكان أول من ضحي به الدكتور كمال الجنزوري صاحب الخبرة الطويلة في التعامل مع مؤسسات الدولة، وتجنب النظام كل الأسماء التي لا يختلف عليها أحد لتولي مسئولية الحكومة في مرحلة حرجة تحتاج فيها البلاد إلي الخروج من عنق الزجاجة، وبدلا من أن يأتي النظام بخبير اقتصادي قادر علي قيادة السفينة، جاء برئيس وزراء قليل الخبرة والحيلة ومعه مجموعة من الوزراء «بعضهم من أحباب النظام» لتتخبط الدولة يميناً ويساراً، ويتفرغ رأس النظام للخطب التي يتضمن كل منها جملا تكون مثار سخرية وجدل بين الناس، ويتخذ قرارات متضاربة تدل علي غياب الفكر والرؤية المستقيمة والدراية بأحوال البلاد. ومن هنا ندرك أن السوس ينخر في عظام النظام، وأنه يمهد لزواله بيديه. ويتسق مع التدهور الذي نعيشه ما نراه من المشايخ الذين ظهروا علي الساحة ويخافون علي قشور الدين، ولذلك فزعوا عندما وجدوا السياحة الإيرانية تدق أبواب مصر، وعبروا عن خشيتهم علي إسلام المصريين من أن تتسلل إليه الأفكار الشيعية فيترك المسلمون المصريون المذهب السني وينتقلون إلي المذهب الشيعي، ونسوا أن الشيعة حكموا مصر في عهد الدولة الفاطمية ثم رحلوا دون أن يتمكنوا من تحويل المصريين إلي مذهبهم، بل إن المصريين حولوا الأزهر – المسجد الذي بناه الشيعة - إلي منارة للعلم تنشر المذهب السني المعتدل في جميع بقاع العالم. ويضاف إلي ذلك ما هو أخطر، فالسياح الإسرائيليون يأتون إلي مصر، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يستميلوا قلوب المصريين لحب الصهاينة، فلا تخشوا علي مصر من تغيير الهوية، لأن المصريين لا يفعلون إلا ما يتوافق مع طبيعتهم.