يعني التطهير تطهير الناس من الذنوب و الخطايا ،وفي سياق الحياة العامة لبلاد وسط وشرق أوربا بعد عهد الشيوعية الشمولية ، اعتنقت هذه الدول التطهيركأحد أهم أليات العدالة الانتقالية ، و أصبح المصطلح يعني تطهير مؤسسات الدولة من "الخطايا" التي ارتكبتها هذه المؤسسات في ظل الأنظمة المستبدة السلطوية . وتراوحت تدابير التطهير المختلفة بين تحديد هويات المتعاونين مع النظام السابق والمسئولين في هذا النظام وفضحهم علنا، وبين حظر تعيين هؤلاء الأشخاص في مناصب ذات تأثير عام. وبذلت جهود التطهير إلى حد كبير بهدف تحقيق وحماية التغييرات في الأنظمة السياسية والاقتصادية لهذه البلاد من خلال القضاء على كل نفوذ للأفراد الذين كانت لهم صلة وثيقة بأجهزة الأنظمة السابقة، حيث افترض أن المسئولين والمتعاونين مع أنظمة الحكم السابقة يمكن أن يضعفوا الأنظمة الديمقراطية الجديدة القائمة على حرية السوق والتي تم إرساؤها في هذه البلاد بعد انهيار الحكم الشيوعي. وقد بررت الحكومات لجوئها للتطهير بأنه ضروري للتطور الديمقراطي للبلاد، مما يعني أنه وسيلة لكفّ أيدي أذناب النظام الشمولي المستبد السابق الذين يمكن أن يلحقوا الضرر بالنظام السياسي الاقتصادي الجديد في هذه البلاد لقد نفذت غالبية البلدان المشار اليها تشريعات صدرت عن برلماناتها المختلفة ، و دون تضمينها في دساتيرها سواء المؤقتة أو الدائمة ، تقضي بفحص جميع المرشحين لمنصب الرئيس و نائب الرئيس و أعضاء البرلمان والحكومة والعاملين في القضاء وضباط الجيش ومديري ورؤساء التحرير في التلفزيون والإذاعة الحكوميين و مديري مؤسسات التأمين والمؤسسات المالية والبنوك الحكومية ورؤساء ومديري الجامعات وكليات التعليم العالي، وتقضي هذه القوانين بمنع أي شخص اعتبرته لجنة الفحص متعاونًا مع الأجهزة السرية في عهد الشيوعية أو موظفًا في النظام الشيوعي من شغل أي من المناصب التي خضعت للفحص وذلك لمدة سبع سنوات. . و اتجه عدد أخر من الدول أيضًا إلى اصدار تشريعات تشترط على جميع الأعضاء والمرشحين للانتخاب في الهيئات التنفيذية للجامعات ومعاهد الأبحاث ، الإقرار بأنهم لم يرتبطوا بصلة وثيقة مع النظام الشيوعي السابق، سواء بصفتهم مسئولين في الحزب الشيوعي أم موظفين أم مخبرين لأجهزة الخدمة السرية أم محاضرين لموضوعات مثل التنظير الأيديولوجي للفلسفة الماركسية اللينينية أو تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي . ولكن ما يبقى ثابتاً في طابع التطهير بعد عهد الشيوعية في وسط أوربا هو أن التطهير تدبير إداري ، لم يضمن في دساتير أية دولة من الدول الرائدة التي اعتنقت ألية التطهير ، و لم تحاجج ثمة محكمة دستورية في الدول المشار اليها بعدم دستورية هذه التدابير و الاجراءات و التي تم اقرارها من جانب برلمانات هذه الدول ، بوصفها المجالس النيابية التمثيلية لجموع الشعب ، التي ارتضت التطهير للتخلص من أذناب الماضي المظلم ، و الذي يمكن أن يعيق عجلة التحول الديمقراطي ، و يحول دون تحقيق الحكم الراشد ، و يقوض أركان سيادة القانون . وفي عام 1992، أيدت المحكمة الدستورية التشيكوسلوفاكية سريان معظم نصوص قانون التطهير في ظل الدستور التشيكوسلوفاكي والوثائق الدولية الملزمة. وعبّرت المحكمة عن وجهة نظرها التي تفيد أن قانون التطهير تدبير مسموح به للتعامل مع أوجه الظلم في النظام السابق ولتأمين مستقبلها الديمقراطي حيث قضت المحكمة الدستورية في حكمها التاريخي : إن الدولة الديمقراطية ليس من حقها فقط، بل من واجبها أيضاً، أن ترسخ وتحمي المبادئ التي تقوم عليهاولا يمكن أن تبقى الدولة عاجزة إزاء وضع شغل المناصب القيادية على جميع المستويات على أساس معايير سياسية.و الدولة الديمقراطية يقع عليها واجب السعي إلى القضاء على التفضيل الذي لا مبرر له لمجموعة من المواطنين على أساس مبدأ العضوية في حزب سياسي معين، وكذلك القضاء على التفرقة بين مواطنيها. و استطردت المحكمة لتقرر : ان التطهير ليس ثأرًا ضد أفراد بعينهم أو مجموعات من الأشخاص أو تفرقة ضد أشخاص انتهكوا في الماضي حقوق الإنسان الأساسية، خلافًا للمبادئ الأساسية المسلّمة بصفة عامة وأيضًا المعايير السائدة في ذلك الوقت، سواء بمفردهم أم بالتعاون مع أو من خلال أجهزة قمعية .. كما أنه لا ينص على تفرقة ضد هؤلاء الأشخاص في عملهم أو مهنتهم .. إنه يحدد فحسب مزيدًا من الشروط لأداء بعض الوظائف الحاسمةالحساسة . إن كل دولة، لا سيما تلك التي تعرضت قسرًا لانتهاك الحقوق والحريات الأساسية من جانب السلطة الشمولية لمدة تربو على أربعين عامًا، تملك الحق في تنفيذ هذه التدابير التشريعية من أجل إقامة نظام ديمقراطي يهدف إلى القضاء على خطر التدمير الداخلي أو الارتداد المحتمل للنظام الشمولي . ان هذه العبارات المانعة الجامعة نطقت بها المحكمة الدستورية العليا في تشيكوسلوفاكيا ، لتؤكد حق الشعب السيد مانح السلطة ، صاحب الحق الاول بل الاصيل في اختيار النهج السياسي الذي يتلائم مع طموحاته و تطلعاته ، و اذا كان البرلمان أحد المؤسسات الدستورية المجسدة لارادة و سيادة الشعب ، فان البرلمان ذاته لا يجوز أن يتجاوز الوكالة التي أوكلها اليه هذا الشعب . ما نريد أن نؤكده بداءة في هذا السياق ، و في معرض حديثنا عن الدجل لا الجدل ، الذي ثار في برلماننا الموقر ، بخصوص عدم دستورية أية تشريعات تقضي باقصاء رموز الحزب الوطني المنحل من الترشح لمنصب الرئاسة ، فالثابت أن البرلمان وحده الان هو الجسد الوحيد الذي يأتي علي رأس الامة بموجب مسلمة دستورية لا تفترض النقاش و لا المداولة ، و لا يعد البرلمان في كله افرادا منتخبين ، و لكن الامة جمعاء مجردة من مكوناتها الفردية . ان ما يصدر عن أعضاء البرلمان من تشريعات أو مقترحات أو توصيات أو غيرها من تصرفات برلمانية ، لا تعبر عن ضمائرهم الذاتية ، بل أنها صادرة عن ضمير الامة ، حيث لا يتجرد هؤلاء بحال من الاحوال عن حدود الوكالة التمثيلية للشعب ، فلا يتغيا هؤلاء تحقيق مصلحة غير مصلحة الامة ، و لا يطمح هؤلاء أيضا للحصول علي منفعة خاصة ، دون المنفعة العامة للأمة . أما و قد كشفت الانتخابات البرلمانية الاخيرة الحقيقة الساطعة سطوع الشمس في كبد السماء ، بأن المواطنيين المصريين الشرفاء قد لفظوا أذناب الماضي الذين عاثوا في الارض الفساد ، و جلبوا الخراب علي العباد و البلاد ، فلا جرم أن ينحاز البرلمان لمطالب الشعب ، و يحفظها في شغاف القلب ، و يصونها و يرعاها ، و يسنها قوانين ، و يرفعها الي أعلي عليين . و من أسف ، أن تنبري قلة قليلة لا يحسب لها حساب ، و لا يعد لها عداد ، فتستميت دفاعا عن أركان نظام لم يكن بحال من الاحوال نظام ، فتدفع بعدم دستورية هذه التشريعات التطهيرية ، و تذكر كلمة " دستور " من غير سياق .