نعم وإذا تكلم شهيد مصر فالدنيا كلها آذان صاغية يرتلها النيل النبيل ويتجاوب صداها الأهرام.. فى عرس سماوى تحية من سكان الأرض إلى خير سكان السماء. فى عليين.. عند رب العالمين.. فى مقعد صدق عند مليك مقتدر يطل علينا من فوق السماوات السبع أحباء مصر وشهداؤها المعطرون بأريج الجنة.. إنهم عند «ربهم يرزقون». فى ذلك اليوم الذى كتبوا فيه لنا نحن أبناء هذه الأمة، سجلوا لنا تاريخاً جديداً وعهداً جديداً وصبحاً وفجراً جديداً كتبوه وسجلوه للتاريخ كله.. بدماء زكية فيها قطرات العطر، كتبوها حرفاً حرفاً.. نعم كتبوا على جدار الزمن بأحرف من نور ما عجز عنه الآباء والأجداد خلال أعوام وأعوام، وفى لحظة اللقاء بين القدر المكتوب والدم المكتوم فى طل الصدور وبعد أن بلغ السيل الزبى وبلغت القلوب الحناجر، وأصبح اليأس المرير عنوان حياتنا، وما وجدنا لنا طوق نجاة، وضاع فى دنيانا «الشراع والملاح».. وإذا بهاتف آت من وراء الغيب من وراء أسوار الزمان والمكان، وكان اللقاء التاريخى بين قلوب شباب هذه الأمة فى ميدان دخل بهم التاريخ ودخلوا به التاريخ.. ميدان التحرير الذى فى ليلة وضحاها أصبح عندنا «المكان المقدس» والذى وجب أن نحج إليه، أولاً مع هؤلاء الذين افترشوا أرضه مصلين لله أن يفرج كرب هذه الأمة، صلوات فى ميقاتها عند المسلمين ودعوات صادقات مع أبناء المسيح حاملين الصليب تدعيماً للحب والخير والحياة والحرية.. ونموت معاً أو نعيش معاً. متضامنون على الجهاد فما ترى إلا مسيحيًا يؤازر مسلما هش المقدس للمؤذن داعياً وحنى الهلال على الصليب وسلما وعند اللقاء التقت القلوب بالقلوب، وانطلق المارد الجبار من بين صفوف الملايين هاتفاً بالحرية وبمصر الحبيبة أمتًا، و«على الباغى تدور الدوائر».. هتافات من أعمق الأعماق تردد صداها فى أرجاء الدنيا كلها.. لقد استيقظ أبناء مصر من «غفلة ليل قد طال» وها هو يقدم روحه قرباناً لهذا الحب العظيم، فى نشيد قدسى: «نموت.. نموت.. وتحيا مصر». حطموا القيود، حطموا السلاسل، ذهب الليل الحزين وهذه نسمات فجر وليد تطل على الكون تحرسها ملائكة الرحمة وامتدت يد غادرة فاجرة كافرة لتطلق لهيب الرصاص فى قلوب الأبناء، زهور الحياة التى أينعت على أرض الميدان، وشعارهم: نجود بالنفس إذا ضنَّ الشجاع بها والجود بالنفس أسمى غاية الجود وسقط على الميدان، شهيد بعد شهيد، وسال الدم الغالى أغلى دماء الدنيا ليكتب على أرض بلدنا فى ذلك الميدان الكبير.. «هنا أبطال مصر وفخر شبابها، ماتوا ليعيش أبناؤها فى ظل من الحرية والكرامة آمنين». ونستمع إلى أرواحهم فى «عرس ربانى» هاتفة ما بين رحلة السماء والأرض: بروحى مصر نفديكى على كر السنين وإن دهاكى فأنت النور به اهتدينا ونحن الأسد إن خطب عراكى وحقًا.. «الحرية الحمراء باب.. بكل يد مضرجة يدق». وإذا ما ذهبنا ذات يوم إلى «ميدان الشهداء سوف نعيد بالفخر والحب والثناء وجوههم الساطعة بالنور وابتسامة الشهداء نرى أميرة تزغرد فى جنة ربها وتناجى أمها وهى تعد فى الدنيا يوم عرسها.. هذا يا أماه العرس الحقيقى.. وإسلام.. ونور.. وسامية شهيدة بفستان العرس الأبيض ومصطفى وهبة ومحمد ومحمود وأحمد وكريم وسيف الله والجميلة الشهيدة المبتسمة ابتسامة الشهداء سالى زهران.. ورود.. وزهور.. ورياحين.. وبدمائهم جميعاً كتبوا وثيقة النجاة للأجيال جيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وميدان الشهداء من اليوم يوم حمل الطاغى عصاه ورحل، وأما أنتم فإنه عهد وميثاق سنحج إلى ميدانكم الخصيب صباح مساء ونروى ورده والزهور بكل عطور الحياة.. وسوف تأتيكم طيور الليل السيارة تؤانس أرواحكم، لأن حياتنا الباقيات الصالحات كتبت بدمائكم الطاهرة. وإذا عبرنا - كل يوم - صباح مساء حول «كعبة الميدان الحر ونصبكم عالى المقام» سوف ينادينا صوتكم الحبيب كأنغام صوفية مرتلة من السماء قائلة لنا: شباب البلاد خذوا المدى واستأنفوا نفس الجهاد مديداً وتنكبوا العدوان واجتنبوا الأذى وقفوا بمصر الموقف المحمودا ودائماً وأبداً: «إلى لقاء تحت ظل عدالة.. قدسية الأحكام والميزان».