اكتشفها «جاهين» فى الليلة الكبيرة بعد 500 عام من وجودها أكثر من خمسين عاماً ويزيد مرت على سيرة الأسطى عمارة التى جاء على ذكرها الشاعر الكبير صلاح جاهين فى رائعته الليلة الكبيرة مبتدئاً السيرة بقوله: ورينا القوة يا بنى انته وهوه مين عنده مروة وعاملى فتوة يقدر بقدارة على زق الطارة ويفرقع بمبة وسع وسع وسع أنا أزق الطارة وأضرب ميت بمبة دنا الأسطى عمارة من درب شكمبة صيتى من القلعة لسويقة اللا لا، أنا واخد السمعة طب يالله تعالى لا يا عم سعيدة.. دى البدلة جديدة ها ها سعيده.. يابو بدلة جديدة.. من خلال اثنى عشر سطراً هى تاريخ الأسطى عمارة الساكن بدرب شكمبة القابع فى سكون يليق بتاريخه، بين حوارى وعطوف السيدة زينب، ستعرف الوجه الحقيقى لقاهرة المعز، حينما كانت تحتفل المحروسة بموالد أولياء الله الصالحين، ويجتمع الكل أمام مقام الولى فى ملحمة إنسانية فريدة، قبل أن يعرف سكانها من مصريين ورحالة وعابرى السبيل الشاشات الفضية ومواقع الفراغ المعروفة بالتواصل الاجتماعى من فيس بوك وتوتير وغيرهما. فى مولد صلاح جاهين وليلته الكبرى ستجد شخصيات مثل الأسطى عمارة اختفت من حياتنا التكنولوجية الحالية، فمن منا الآن يرى الأراجوز - بائع الحمص - بائع البخت - القهوجى الظريف - المعلم صاحب الهيبة والمسيطر على من يجلس ومن يرحل عن القهوة - العمدة - راقصة المولد - مدرب الأسود - المصوراتى الجوال - معلن السيرك - المنشد – الفلاح - الأطفال بعيونهم البريئة قبل أن تتجمد أمام شاشات الكمبيوتر ومسلسلات التليفزيون الكئيبة والمليئة بألفاظ يعاقب عليها القانون، ومقالب رامز جلال السخيفة. الجميع اختفى ولم يتبق سوى سيرة الأسطى عمارة ابن البلد الشعبى، مفتول العضلات، الذى يرتدى للمولد بدلة جديدة، وخرج صيته وفتونته من درب شكمبة ليمتد ويصل القلعة حتى «سويقة اللالا»، حيث تنتهى سمعة الأسطى عمارة وشهرته، لتبدأ رحلة «الوفد» فى اكتشاف تلك الحارة الصغيرة التى كانت فى الزمن البعيد مسكن الباشوات والأمراء وبها القصور والمساجد والمعالم التاريخية من حمامات وأسبلة وزوايا، حيث ظلت حارة «سويقة اللالا» مكانا يعيش فيه الأمراء والباشوات وعلية القوم قبل حدوث النهضة العمرانية فى أواخر القرن التاسع عشر ومن ضمنهم الأمير أصلان باشا، والأمير حسين باشا الطوبجى، وكذلك إبراهيم باشا أدهم صاحب الفضل الكبير فى النهوض بالمدفعية المصرية وتأسيس ترسانة القلعة لصناعة الأسلحة والمدافع، وأيضاً من أشهر من سكنوا السويقة العالم اللغوى «مرتضى الزبيدى» صاحب كتاب «تاج العروس من جواهر القاموس»، وقد مات بمنزله فى «سويقة اللالا» بمرض الطاعون سنة 1790م. وفقاً ل«مخطوطة على باشا مبارك فى الجزء الثالث من الخطط التوفيقية الجديدة» والتى صدرت فى 20 جزءاً و4 مجلدات (طبعة المطبعة البولاقية عام 1886) ليعيد لنا اكتشافها شاعرنا الكبير صلاح جاهين فى أوبريت الليلة الكبيرة حينما كتبه منتصف خمسينيات القرن الماضى. مجرد أن تطأ قدماك حارة (سويقة اللالا) سينتابك شعور بأنك ترى لوحة باهتة من القاهرة الفاطمية، بمنازلها الصغيرة العتيقة ومشربياتها الخشبية وأبوابها ذات المقابض الحديدية على شكل يد بشرية رقيقة تستأذن سكان المنزل فى الدخول والائتناس بأهل الدار. طول الحارة لا يتجاوز 270 متراً، يبدأ فى آخر شارع الحنفى بجوار درب الهياتم، وينتهى بشارع الدرب الجديد، من جهة اليسار ثلاث عطف أولاها عطفة المحتسب بداخلها زاوية صغيرة تعرف بزاوية رضوان فيها لوح رخام منقوش فيه (أحيا هذه الزاوية المباركة بعد اندثارها حضرة الأمير رضوان اختيار جاويشان محرم أمين عفا الله عنه افتتاح عام سنة ست ومائتين وألف، تليها عطفة المدق بداخلها زاوية صغيرة تعرف بزاوية عمر شاه، أما آخر عطفات (سويقة اللالا) فهى عطفة مرزوق، وكان بها حمام للسيدات يعرف بحمام مرزوق أنشأه حسين أغا نجاتى، وقد هُدم هذا الحمام تماماً منذ سنوات عديدة وحلت محله عمارة خراسانية، ومن جهة اليمين حارة العراقى يسلك منها شارع الناصرية. فى حارة (سويقة اللالا) عاشت الست صفية اللالا التى كانت تعمل مربية لأولاد الملوك والأمراء فعرفت الحارة بمهنة الست صفية أشهر سكانها، فكلمة اللالا باللغة التركية تعنى المربى أو المعلم. أهل الحارة طيبون، معظمهم أسطوات وعمال، يعرفون شذرات من تاريخ حارتهم ويفخرون بأن بيت داود باشا يجاور منازلهم المتواضعة. حكاية بيت داود باشا تشغل خيال أهل الحارة وتنسج خيوطا من الأساطير حول صاحب الدار والمسجد العتيق المسمى باسمه تكونت من أقاويل متضاربة عبر أفواه الأجداد وعجائز الحارة، ولكن لنبدأ بداود باشا والذى يذكر فى كتب التاريخ بانه تولى وزارة مصر من سنة 1538 حتى 1549، يقول أمين سامى فى كتابه «تقويم النيل»: «كان يشتهر بداود باشا الخصى حيث كان من عبيد السلطان العثمانى سليمان القانونى. تصدى له الشيخ أحمد بن عبدالحق شيخ الأزهر مرة وقال له: أنت لا تصلح للحكم وأنت تحت الرق وما دمت غير معتوق، فالأحكام باطلة. فهم الوالى بإعدامه. ولكن منعه الجند وتعصبوا للشيخ. وبلغ الأمر السلطنة فأرسلت للوالى ورقة عتقه مع الشكر لشيخ الإسلام الذى لم تكن له مرتبات فى دفاتر الحكومة حينذاك والذى لم يقبل أى هبة أو هدية من الوالى، وفى خطاب السلطنة للوالى التشديد عليه بحسن السير مع الرعية والاستعانة بالعلماء فى الحكم حسب الشريعة الإسلامية. بجانب جامع الكردى يوجد بقايا بيت قديم يشبه الرَّبع أو الوكالة له بوابة كبيرة يعلوها نحت بارز لعلم مصر القديم باللون الأخضر، وهى تجسيد حى لحجم الإهمال والجهل بتراثنا المعمارى النفيس. يؤمن أهل الحارة أن داود باشا سكنه وعاش فيه سنوات، بل أحدهم همس فى أذنى وكأنه يطلعنى على سر خطير: داوود باشا كان يهوديا وأسلم وكان رجلا طيبا والبيت دا كان بيته.. البيت مكون من طابقين يطلان على فناء، يستأجره أربعة عشرة أسرة كل أسرة تسكن بحجرة. سكان البيت والذين رفضوا ذكر أسمائهم: كان فيه دور تالت واتهد، كلنا هنا مأجورون من واحد اسمه عبدالقادر راشد وكيل ورثة داوود باشا، البيت ليس مسجلاً فى الآثار، أنا هنا من السبعينات والبيت آيل للسقوط ومش عارفين نعمل إيه ولا نروح فين، زمان ونحن أطفال كان خلفية البيت حديقة كبيرة ونافورة رائعة اختفت وحل محلها عمارة خراسانية قام ببنائها يوسف عبدالله الذى اشترى البيت من عبدالقادر راشد وعشم سكان البيت بشقق صغيرة فى تلك العمارة، وبعد أن وافقوا وجدوا أنه باع شقق العمارة لغيرهم ومن يدفع أكثر. محمد محمود شاب ثلاثينى يمتلك والده الحاج محمود محل أدوات كهربائية فى حارة (سويقة اللالا) فى الجهة المقابلة لمسجد داود باشا الأثرى، يقول ل«الوفد»: عمرى كله هنا فى الحارة، هنا ولدت وأعيش وأتمنى أن أتزوج وأربى أولادى، أخلاقيات الحارة لم تتغير فما زل أهلها يودون بعضهم البعض، ولكن ضيق الرزق جعل الجميع مهموما بتصاريف حياته، ولكن فى المناسبات الدينية كشهر رمضان ومولد السيدة زينب فحارة (سويقة اللالا) لا تنام ويتبادل الجميع السهر وأطباق الكنافة والحلويات، فهى عادة قديمة لم تنقطع بين سيدات الحارة ومنهن والدتى حتى الآن. يمسك محمود العاصى جار محمد فى الحارة ورفيق عمره ويعمل مورد زيوت للمطاعم الكبرى بطرف الحديث قائلاً: يوجد فى أول الحارة مقام «سيدى محمد الحلفاوى» أحد خادمى السيدة زينب الذى جاء معها إلى مصر، كما يوجد مسجد داود باشا الذى تعرض للتلف بعد تصدعه على إثر زلزال 92، وتم إغلاقه لمدة خمس سنوات تعرض خلالها لسرقة بعض الألواح الخشبية الأثرية الموجودة بباب المسجد والمنقوشة بالصدف والنحاس، ولا يزال هذا المسجد يحتفظ بواجهة جميلة من الرخام الملون مُثبت عليها لوحة تأسيس المسجد، وتعانى جدرانه من التآكل بفعل الرطوبة مع اختفاء بعض الحشوات العاجية والمقابض من أبوابه. وبجانب بوابة المسجد لُصقت ورقة بيضاء مطبوع عليها اسم الجامع ونشعر بالحزن على المسجد لأنه لم يرمم حتى الآن برغم من أن المسجد يعد تحفة معمارية. ليت الزمان يعود ليس فى حارة (سويقة اللالا) فقط، بل فى مصر كلها هكذا بدأ حديثه الأستاذ محمد محمود المولود فى الحارة والمعلم والمربى الفاضل لمادة الرياضيات لطلبة المرحلة الابتدائية فى مدارس منطقة السيدة زينب التعليمية والذى خرج معاشا منذ سنوات طويلة قائلاً: تعرضت الحارة لعواصف الزمن وتقلباته وتهدمت العديد من المنازل الأثرية ذات المشربيات الخشبية الجميلة التى كانت تزين جنبات الحارة لتحل محلها عمارات خرسانية قبيحة، فالحارة مليئة بالكنوز الأثرية التى يجب الاهتمام بها فيوجد بها مسجد «عيسى الكردى»، والذى بنى عام 1732 ويعرف فى المنطقة باسم جامع محرم أفندى والذى يحمل العديد من ملامح عصور متعددة فمئذنته طرازها مملوكى جراكسى وجسم المسجد كله عثمانى. أترك الحارة وأهلها الطيبين وذكرياتهم عن ملوك الحارة وباشواتها والأسطى عمارة جارهم من درب شكمبة، والذى وصل صيته إليهم وخلده شاعرنا الكبير صلاح جاهين كجزء عزيز وحميم من طقوس المولد التى لا تعرف للأسف الشديد الأجيال الجديدة عنها شيئاً.