أخيراً، وبعد طول انتظار وأكثر من تأجيل، انطلقت عملية الانتخابات البرلمانية المصرية، انتخابات مجلس الشعب، كما تعرف الغرفة الأولى للبرلمان المصري. والمفترض أن تستمر هذه الانتخابات، التي قسمت إلى ثلاث مراحل، حتى العاشر من كانون ثاني/يناير المقبل؛ لتبدأ بعهدها الاستعدادات لانتخابات مجلس الشوري، غرفة البرلمان الثانية؛ وتتصاعد من ثم وتيرة حملات الدعاية لانتخابات رئاسة الجمهورية، المقرر عقدها في نهاية حزيران/يونيو. إن مضت الأمور طبقاً لهذا الجدول الزمني، فستنتهي المرحلة الانتقالية بانتخاب رئيس الجمهورية الجديد، وعودة الجيش إلى ثكناته. ولأن المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب شهدت إقبالاً شعبياً غير مسبوق، وسارت من جهة إدارتها في صورة مقبولة إلى حد كبير، فإن تفاؤلاً استثنائياً يتخلل الآن المناخ السياسي المصري. فهل وجد المصريون أخيراً المخرج من سلسلة الأزمات التي أحاطت بالمرحلة الانتقالية؟ عقدت الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في تسع محافظات مصرية، بينها محافظتا الثقل السكاني الكبير: محافظة القاهرة (الجزء الشرقي من القاهرة الكبرى)، ومحافظة الإسكندرية. وبالرغم من أن القانون المنظم للانتخابات جعلها عملية بالغة التعقيد، وأن كثيراً من المصريين لم يستطيعوا التعرف على برامج الكتل والأفراد المرشحين، وأن تخصيص ربع مجلس الشعب المقبل للمقاعد الفردية، يجعل من الصعب التوصل إلى حساب دقيق لتوزيع الأصوات، فقد انتهت الجولة الأولى بفوز كبير للتيار الإسلامي. حققت قائمة الحرية والعدالة، التي تضم الإخوان المسلمين وعدداً من مرشحي الأحزاب القومية والليبرالية الأخرى، النصييب الأكبر، بحصولها على ما يقارب الأربعين بالمائة من الأصوات. وسجلت القائمة السلفية مفاجأة كبيرة بحصولها على زهاء أربعة وعشرين بالمائة، بينما حصلت قائمة حزب الوسط، الإسلامي الليبرالي، على أقل من خمسة بالمائة بقليل. بذلك سيتراوح نصيب الإسلاميين مجتمعين بين ستين وخمسة وستين بالمائة من مجمل الأصوات الصحيحة في هذه المرحلة من الانتخابات. المتوقع، على أية حال، أن يتراجع نصيب الكتلة السلفية في المرحلتين الثانية والثالثة من الانتخابات، نظراً لأن المحافظات التي صوتت في المرحلة الأولى، مثل الإسكندرية ودمياط وكفر الشيخ والقاهرة، تضم معاقل قوية وتقليدية للتيار السلفي. ولكن مثل هذا التراجع للسلفيين لن يؤثر على الحصة المتوقعة للقوى الإسلامية من مجمل الأصوات. ثمة ادلة كافية الآن تؤشر إلى أن ستين بالمائة من المصريين، على الأقل، ولأسباب عديدة، لا مجال هنا لتفصيلها، يفضلون إعطاء فرصة للإسلاميين وحلفائهم لحكم البلاد في المرحلة المقبلة. وهذا بحد ذاته مدعاة للتأزم. أما السبب الثاني للتأزم فيعود إلى نجاح العملية الانتخابية النسبي. إذ ليس ثمة شك في أن المرحلة الأولى من الانتخابات شهدت العديد من مظاهر الاضطراب والتجاوز، وهي المظاهر المتوقع أن لا تختفي كلية في المرحلتين الثانية والثالثة، سواء على مستوى سلوك القوى السياسية أو على مستوى إدارة العملية الانتخابية. فقد سجلت حالات لاستمرار الحملات الانتخابية أمام محطات الاقتراع، وسجلت حالات أخرى لاستخدام المال أو المساعدات العينية؛ إضافة إلى فقدان اللجنة العليا للانتخابات، المكلفة بإدارة العملية الانتخابية، الخبرة والكفاءة الكافيتين لإدارة عملية بهذا الحجم وهذا الإقبال على التصويت. ولكن ذلك كله لا يجب أن يقدح في نتائج الانتخابات، ليس فقط لأن المظاهر السلبية لم تكن واسعة الانتشار وحسب، بل أيضاً لأنها أصابت معظم القوى ولم تترك تأثيرها على كتلة دون الأخرى. الحقيقة، أن الجيش بذل جهداً هائلاً لإنجاز عملية انتخابية شفافة ونزيهة إلى حد كبير، وبعيدة عن المخططات المعتادة لتزييف إرادة الناخب، إضافة إلى جهد الجيش في تأمين سلامة الانتخابات والمقترعين على السواء. هذا النجاح للعملية الانتخابية والإقبال الشعبي على الاقتراع، الذي لم تعرفه مصر منذ ما قبل ثورة 1952، والذي أوصل نسبة المقترعين في المرحلة الأولى إلى أكثر من ستين بالمائة ممن يحق لهم التصويت، سيؤدي إلى ولادة مجلس شعب قوي، يتمتع بشرعية لا يتطرق إليها الشك، يمكن أن يصبح نداً حقيقياً للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. بمعنى أن أداء الجيش العالي في الإشراف على وحماية العملية سينتهي بولادة برلمان قادر على تحدي إرادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. خرج المصريون للتظاهر بمئات الألوف في التجلي الثاني لثورتهم في 18 تشرين الثاني/نوفمبر. كان السبب الرئيسي خلف انطلاقة الموجة الثانية للتظاهر محاولة المجلس الأعلى فرض ما بات يعرف بوثيقة السلمي، التي حملت عدداً من المبادىء فوق الدستورية، وعدداً من القواعد التي تحكم عملية تشكيل الجمعية التأسيسية، التي يفترض أن تضع مسودة الدستور المصري الجديد. مشكلة وثيقة السلمي أن بعضاً من المبادىء والقواعد التي تطرحها يقصد بها، في شكل واضح وصريح، أن يتحول الجيش إلى مرجعية عليا للنظام المصري الجديد، وأن يتمتع الجيش بموقع يعلو على المساءلة التشريعية، وأن يتحكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تشكيل الجمعية التأسيسية وعملها في كتابة مسودة الدستور. خلال الأيام التالية لمليونية الجمعة 18 تشرين الثاني/نوفمبر، تصاعدت المواجهات بين الشبان النشطين وقوات الأمن، المدعومة بوحدات عسكرية، وأدت إلى مقتل أكثر من أربعين من المتظاهرين وجرح المئات. وبالرغم من أن المحتجين يواصلون اعتصامهم في ميدان التحرير، فإن أغلبيتهم لم تعارض انطلاق العملية الانتخابية. في النهاية، على أية حال، غطت الانتخابات على اعتصام ميدان التحرير، ولكنها لم تستطع أن تضع نهاية للأزمة التي أدت إلى انفجار الميدان والاعتصام فيه؛ بما في ذلك الصعوبة البالغة التي يجدها رئيس الوزراء المكلف علي الجنزوري في تشكيل حكومة الانقاذ الوطني الموعودة. تتعلق الأزمة القديمة، المستعادة، والتي لا يبدو أنها وصلت إلى سكة الحل والانفراج بعد، بوضع المؤسسة العسكرية ودورها في النظام المصري الجديد. هذه مسألة أعيد التذكير بها في هذا الموقع منذ شهور، وليس لدي شك أنها لم تزل عقدة العقد في عملية الانتقال نحو نظام حر، تعددي، ديمقراطي وكريم، وليس فوز الإسلاميين أو تشظي الساحة السياسية أو الاستقطاب المتزايد بين القوى السياسية. لا يرى الجيش المصري نفسه مؤسساً للجمهورية وحارساً لمقدراتها وحسب، بل ويعتبر مصدراً رئيسياً لقيادات المؤسسات المدنية، ويتحكم في قطاع واسع من الانتاج الصناعي والتجارة الداخلية والخارجية كذلك. كما الجيش التركي والجيش الجزائري، يصعب على الجيش أن يتخلى كلية عن دوره المرجعي لسياسات الدولة والحكم، حتى إن قبل أن يكون رئيس مصر المقبل مدنياً. وقد عزز الجيش موقعه في منعطف الثورة المصرية بالدور الكبير الذي لعبه في دفع الرئيس المصري السابق حسني مبارك إلى التنحي، ومن ثم الإعلان عن انتصار الثورة. ولكن هذا لا يعني أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في وضع مريح، أو أنه يستطيع أن يفرض تصوره لمستقبل مصر كما يريد. يواجه المجلس الأعلى الآن قوتين رئيسيتين تقفان في وجه محاولة إعادة إنتاج دور الجيش في النظام السياسي المصري: الأولى، هي قوة النشطين الشبان الذين فجروا الثورة والذين لم يزل عدد منهم يتواجد في ميدان التحرير ويعول على استجابة الشعب المصري للعودة إلى الميدان، إن تطلبت تطورات الأحداث مثل هذه العودة. أما القوة الثانية فهي تلك المتمثلة في مجلس شعب قادم، يتمتع بشرعية كبيرة، وتقوده الكتلة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة وحلفاؤها من برلمانيي الأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية. هذا لا يعني بالضرورة أن شباب الثورة لم يزالوا على وحدتهم، سيما بعد أن افترقوا إلى عدة أحزاب وكيانات سياسية، ولا يعني أن قوى التيار الإسلامي وحلفاءه متفقة على موقف واحد من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ولكن المؤكد أن هناك أغلبية سياسية وشعبية ترغب في بناء دولة جديدة متحررة من السيطرة العسكرية، الضمنية أو الصريحة، وفي عودة الجيش إلى دوره الطبيعي والضروري في حماية البلاد ككل، وحماية حدودها، وتوكيد دورها الإقليمي. ثمة عدد من الاستحقاقات التي يمكن أن تفجر الأزمة مرة أخرى، وتفجرها على نطاق أوسع بكثير مما شهدته مصر خلال الأيام التالية لتظاهرة 18 تشرين الثاني/نوفمبر: أولها، بالطبع، هو الاحتمال القائم لعودة المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى إحياء وثيقة السلمي، بصيغة أخرى وبصوت وزاري آخر، أو حتى مفاجأة المصريين بإعلان دستوري يتضمن المبادئ والقواعد التي طرحت في الوثيقة؛ وثانيها، بروز أغلبية واضحة في مجلس الشعب الجديد، تطالب بأن تمثل الحكومة إرادة الأكثرية البرلمانية، وهو الأمر الذي يرفضه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويمكن أن يؤدي إلى صدام سياسي بين مجلس الشعب والمجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ وثالثها، محاولة المجلس الأعلى التدخل في انتخابات الرئاسة، سواء بترجيح أحد المرشحين، أو حتى طرح مرشح جديد كلية. أما رابعها، فيتعلق بإحجام المجلس حتى الآن عن تعهده بعودة الجيش إلى الثكنات، بمجرد انتخاب رئيس جديد للبلاد. الطريق إلى الجمهورية المصرية الثانية، باختصار، لم تزل محفوفة بالمخاطر والعقبات، ولم تزل ثمة حاجة ملحة لتبلور إرادة فوق حزبية، إرادة وطنية لحسم الصراع على مستقبل البلاد وروحها. ' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث نقلا عن القدس العربي