كأن مصر كانت تحتاج مثل هذا اليوم لتخرج وتقرر مصيرها. وإلا ما معني هذا الخروج المكثف من القري والمدن.. حتي من المناطق الحدودية المتطرفة.. خرجت مصر في مظاهرة ولكن من نوع جديد، لتقول كلمتها. وربما لم تخرج مصر في يوم كهذا إلا مرتين. الأولي يناير 1924 بعد أن تم صدور دستور 1923 لتقرر مصيرها وتختار من يحكمها في انتخابات تاريخية سقط فيها رئيس الوزراء يحيي باشا ابراهيم - وهو وزير الداخلية - أمام شاب صغير من عائلة مرعي.. وجاء الشعب بأغلبية مذهلة برئيس شعبي يقود البلاد بعد ثورة 19 هو سعد زغلول.. فكانت وجاءت حكومة الشعب الأولي. والثانية في يناير 1950 بعد أن عانت مصر من حكومات للأقلية منذ أقيلت حكومة النحاس الوفدية يوم 8 أكتوبر 1944 وجاءت بعدها 8 حكومات، في حوالي 5 سنوات.. وعانت مصر الأمرين وشهدت اضطراباً أمنياً تم فيه اغتيال رئيسين للوزراء هما أحمد ماهر والنقراشي.. فضج الشعب.. وبحث عن الاستقرار.. وجاءت الانتخابات في يناير 50 ليذهب الشعب في اعداد غفيرة الي الصناديق ليعيد حكومة الوفد يوم 12 يناير. والشعب الذي خرج أمس وأول أمس ليصوت في الانتخابات خرج بحثاً عن الاستقرار وعن الأمان، بعد سقوط عشرات القتلي وآلاف الجرحي في ثورة عارمة منذ 25 يناير وحتي الآن. ومن يري طوابير الناخبين يتأكد ان مصر خرجت طلباً للاستقرار وأملاً في أن يعيش - بعدها - الشعب في أمان كامل. ولا أريد أن أكذب - بل أتمني أن أصدق - أن بعض طوابير الناخبين طالت حتي بلغ طولها نصف كيلو متر.. صفوف وراء صفوف خرجت منذ الصباح الباكر لتقول رأيها.. في مظاهرة سلمية اختارت الانتخابات طريقاً للتغيير. ورأيت طوابير السيدات تنافس طوابير الرجال في مدن اشتهر أهلها بالجدل والعراك السياسي مثل بورسعيد والاسكندرية، سيدات من أعمار مختلفة: صغيرات السن دون العشرين.. وكبيرات السن فوق الستين.. فتيات. وأمهات. وجدات.. خرجن جميعاً ليقررن مصير الوطن.. وبحثاً عن الأمان لأولادهن فالأم هي التي عانت أكثر من سقوط أولادهن هنا وهناك. حقاً جاءت طوابير السيدات «حاجة تفرح» وأجزم ان منهن من لم تخرج يوماً وتذهب الي صناديق التصويت.. في اقبال منقطع النظير.. وسمعت احداهن تقول: أنا انتظر منذ 5 ساعات. وغيري منذ 6 ساعات.. ولم تمل واحدة.. فنحن نصنع مستقبل مصر.. كانت مصر تقرر مصيرها. وأرفض ما قيل ان سبب هذا الاقبال هو تلك الغرامة التي يقررها القانون وهي 500 جنيه لمن لم يصوت.. بل هو الاصرار علي المشاركة في تقرير مصير مصر.. ليس خوفاً من الغرامة ولكن خوفاً علي مستقبل مصر. وما رأيناه - أمس وأول أمس - يؤكد ان المصري يتحرك عند الخطر. وهو عندما يجد أن صوته لن يذهب هدراً ولن يعبث أحد بالصندوق.. فإنه يذهب اليه ويدلي بصوته. واذا كان المصري - علي مدي نصف قرن - قد ابتعد عن الصندوق فإنما كان ذلك بعد أن رأي ان النتائج تصل الي 99.999٪ وأن الحكومة تعلن فوز من تريد. وتمنحه من عندها الأصوات التي تدفع به الي البرلمان.. وتلقي بآراء المواطنين في الترع والمصارف.. فهذه الأصوات لا قيمة لها. ولكن عندما يتأكد المصري ان صوته لن يعبث به أحد يذهب الي الصناديق وبأغلبية كثيفة كما حدث عامي 1924 و1950 وبسبب هذه الكثافة قررت الحكومة مد فترة التصويت ساعتين - أول أمس - من السابعة الي التاسعة.. رغم ان هناك يوماً ثانياً.. في الطريق. واذا قلنا ان مصر ثارت يوم 25 يناير ويوم 18 نوفمبر فإنه من باب الاعتراف بالحق أن نقول ان شمس الحرية قد أشرقت وعمت البلاد عندما خرجت مصر كلها لتعلن رأيها.. وتنتخب من تريد.. في عملية تسعد كل مصري غيور علي بلده. وعودة لأيام كان فيها المصري هو سيد قراره. كانت مصر في عرس حقيقي.. نتمني أن يكتمل باكتمال كل مراحل الانتخابات.. حتي تنتقل السلطة الي حكومة مدنية.. وتسير أمور البلاد. وكانت مصر أمس وأول أمس علي أول الطريق الصحيح.