ثمة كتب عن حمق جورج بوش الابن تسجل جهله في السياسة، بل في اللغة الإنكليزية. وقد افتقدنا مثلها بعد أن دخل باراك أوباما البيت الأبيض، فهو أستاذ جامعي درس في هارفارد. الآن وقعتُ على أول كتاب عن حمق المهرج دونالد ترامب بعد أن طال انتظاري، وأرجح أن كتباً أخرى ستسخر منه قبل أن يخسر انتخابات الرئاسة الأميركية ويختفي عن الساحة السياسية. لا أستطيع في هذه العجالة سوى الإيجاز، فأبدأ برأيه في نفسه (وأحتفظ بتاريخ كل قول له ومكانه): - لا أريد أن أكون رئيساً. أنا واثق من هذا مئة في المئة. أغير رأيي إذا رأيت البلاد تواصل السقوط. - عادةً لا تستطيع أن تحترم بعض الناس لأنهم لا يستحقون الاحترام (هو من هؤلاء الناس حتماً). - عندي طائرة خاصة وعندما أصبح رئيساً نوفر بعدم استخدام الطائرة الرئاسية «سلاح الجو رقم واحد». - أنا معتاد على النجاح. هذا ما تحتاج إليه البلاد الآن. - أستطيع أن أقف في وسط الشارع الخامس (في نيويورك) وأن أقتل إنساناً بالرصاص من دون أن أخسر أي أصوات. - أؤيد تعذيب السجناء بجعلهم يعتقدون أنهم سيغرقون. قال: يجب أن نحصل على معلومات منهم. أكمل ببعض السياسة العامة كما يفهمها ترامب ويريد ممارستها رئيساً: - أوباما سيدخلنا الحرب العالمية الثالثة. لا أحد يحترمه. - مصدر موثوق قال لي أن شهادة ميلاد أوباما مزورة... ربما سبب كتم شهادة ميلاده أنها تسجل أنه مسلم (شهادة الميلاد الأميركية لا تشير إلى دين حاملها إطلاقاً). - جون ماكين بطل حرب لأنه أسِرَ. أفضل الناس الذين لم يُؤسروا (أتفق مع ترامب في هذا الكلام). - الإرهاب الإسلامي يأكل مساحات واسعة من الشرق الأوسط وأنا أنافسهم. هم بنوا فندقاً في دمشق. هل تصدقون هذا؟ بناء فندق. (طبعاً هذا لم يحصل أبداً إلا في عقل ترامب). - على أوروبا والولاياتالمتحدة أن توقفا فوراً قبول اللاجئين من سورية. هذا نهاية الحضارة. - بعد يوم من مهاجمة أميركي أسود في مهرجان انتخابي لترامب، أصدر فريقه الانتخابي أرقاماً عن قتل البيض والسود بعضهم بعضاً، صادرة عن مكتب إحصاءات القتل في سان فرانسيسكو. ثبت أن لا وجود لهذا المكتب. - أوباما أسوأ رئيس في تاريخ الولاياتالمتحدة. - إذا استقال أوباما الآن يقدم خدمة عظيمة للبلاد وأعطيه عضوية مدى الحياة في أحد نوادي الغولف التي أملكها. - أدعو إلى منع كامل لدخول المسلمين الولاياتالمتحدة... هناك أماكن في لندن لا يدخلها غير المسلمين... لا أحد يريد إغلاق أماكن عبادة ولكن لا خيار لنا في إغلاق المساجد. أكمل بالنساء اللواتي كانت له علاقات معهن، وفي الميدان السياسي: - المرأة الذكية تتصرف بأنوثة وهي في داخلها قاتلة. الذي قال الجنس الضعيف (اللطيف) كان ساذجاً. - أحب النساء اللواتي دخلن قلبي. حتى اللواتي خرجن منه لهن مكان في قلبي (هو تزوج ثلاث مرات). - أريانا هفنغتون (مؤسسة «هفنغتون بوست») غير جذابة من الداخل أو الخارج. - كارلي فورينا، التي كانت مرشحة للرئاسة، يسأل هل يتصور الإنسان رئيسة أميركية لها هذا الوجه؟ - مذيعة التلفزيون ميغان كيلي التي قَسَت عليه في مقابلات قال عنها كلاماً بذيئاً لا يمكن نشره في جريدتنا هذه. أخيراً، ترامب وجدّاه من أصل ألماني، زعم أن فلاديمير بوتين رئيس قوي وأنه رآه مرات عدة، مع أنه شاركه في برنامج «60 دقيقة» التلفزيوني، إلا أن بوتين تحدث من موسكو وترامب من نيويورك. ما سبق نقطة في بحر «ذكاء» ترامب وسأعود إلى الموضوع مع الكتاب التالي عنه. لكنهم يعتمدون جميعاً على ميليشيات لا فارق بين تعصّباتها ولا بين ارتباطاتها أو أجنداتها. ردّد الروس والأميركيون دائماً أن أساس «تفاهماتهم» الحفاظ على الدولة والمؤسسات في سورية، لكنهم عجزوا عن أي «تفاهم» في الوقت المناسب، أي عندما كان ذلك ممكناً قبل أربعة أو حتى ثلاثة أعوام. والأخطر أن الروس والأميركيين تغاضوا عن النظام السوري وحلفائه الإيرانيين حين راحوا يجهّزون البيئة لاجتذاب الإرهابيين، بل كانوا يحذّرون جميعاً من تفشّي الإرهاب، لكنهم فعلوا كل ما يلزم لتسهيل استشرائه. كانت الطرق أمام الدواعش تُفتح تحت كل الأنظار، وتسهيلات دخولهم الرقّة ومركزها الحكومي تتم بعلم الجميع، والتنسيق بين «داعش» وأكراد «الاتحاد الديموقراطي» أو حل خلافاتهم ووقف اشتباكاتهم تتولاها أجهزة نظامي دمشق وطهران وبعلم من استخباريي موسكو وواشنطن... كل ذلك معروف على رغم استمرار التعتيم الإعلامي عليه، فمَن يصدّق أن هذه الأطراف باتت تريد محاربة الإرهاب ما دامت مسؤوليتها عن وقوع المحظور ثابتة ومؤكّدة؟ كان يمكن للأداء أن يكون أفضل في العراق، مع كل التحفّظ ومن دون أوهام، فللمرء أن يتساذج فيقول إن هناك حكومة، لئلا نقول دولة وأن هناك جيشاً، وأن الاميركيين أسياد الجو في العراق (كما هم الروس في سورية) أعلنوا مراراً أنهم لا ينسّقون مع الإيرانيين ولا يدعمون معارك تخوضها أو تشارك فيها ميليشيات منفلتة، خصوصاً أن سوابق ديالى وتكريت برهنت أن عصابات الطائفيين الموتورين متشبّعة بعقيدة لا تختلف عن تلك «الداعشية» إلا في بعض التفاصيل. غير أن الوقائع بيّنت أن «عدم التنسيق» عنى أن يقوم الأميركيون بما يناسبهم، كذلك الإيرانيون وميليشياتهم، حتى لو أدّى ذلك إلى تشويه الأهداف المتوخاة من عملية «التحرير». وفي حال الفلّوجة كان ينبغي التحوّط ل «الثأرية» التي ضاعفت هوس زعماء الميليشيات وجاءت بقاسم سليماني وتوصيات المرشد، فهؤلاء يعتقدون أنهم أجادوا إدارة الدولة في العراق وأن هذه المدينة هي التي أفشلت تجربتهم، ولذلك أرادوا الانتقام من سكانها. لكن، أي رسائل بُعثت وتُبعث من خلال عمليات «التحرير»، وهل تختلف إذا كان «داعش» مرسلها أو أي طرف آخر؟ أولى الرسائل أن مصير المدن هو الدمار، والثانية أن مآل أهلها المهانة، وثالثتها أن مَن يحرّرها ويحرّرهم هم الذين تسبّبوا أصلاً بوجود «داعش» واستفادوا من دخوله في الذهاب ويستفيدون من إخراجه في الإياب. ولا شك في أن نموذج «تحرير» الفلوجة كان صارخ الشذوذات واللاانسانية. أكثر من ثمانين في المئة من أهلها خرجوا بعد سيطرة «داعش» عليها، وشارف من بقوا فيها على المجاعة منذ شهور طويلة، ومع اندلاع المعركة لم يتوقّع أحد أن يُستقبل الهاربون منها بالترحيب والحفاوة الأخويين، لكن ما لم يبدُ مفهوماً بأيّ معيار أخلاقي أن تمتنع الحكومة ومنظمات الأممالمتحدة عن توفير أبسط الإغاثات المتوقّعة وأن تمنع الميليشيات هيئات عراقية محلّية من تقديم أي مساعدة. تُرك المسنّون والنساء والأطفال أياماً في العراء من دون غذاء أو ماء أو دواء أو اسعافات. أما الرجال فاقتيدوا إلى معسكرات اعتقال ليصبح مئات منهم في عداد «المفقودين» ويُعرَّض مئات آخرون للتعذيب والسحل والتنكيل ويُجبَروا على ترديد شعارات «شيعية» من قبيل تحقيرهم، وأن يتعمّد جلادوهم/ «مواطنوهم» المفترضون تصوير كل ذلك وتعميمه... فهذه هي الرسالة التي أرادها الإيرانيون أن تصل أبعد من الفلوجة وأهلها، ومن خلالها يقولون مع نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وأوس الخزاعي وغيرهم من أتباع إيران ومجرميها أن لا عيش ولا تعايش مع سنّة العراق بعد اليوم. «داعش» لم يكن سوى الوسيلة والذريعة. يُقال الكثير الآن عن أن تحرير الموصل، وربما منبج والرقّة، سيكون «نموذجاً» في مراعاة المدنيين، فهل سيُعتمد على الذين ظهروا بزيّ عسكري وهم ينكّلون بالفلوجيين أم على الأكراد الذين نظّموا عراضة الجثث في عفرين السورية. لم يبالغ بعض المحللين إذ تحدّث عن محنة السكان بين جحيم «داعش» وجحيم محرِّريهم منه. فهذا «تحرير» يتحوّل في مجرياته مصنعاً لإعادة إنتاج الإرهاب، فلا الحملة الجويّة بدت مجدية في المدى المنظور ولا الحملة البرّية تبدو أكثر فاعلية في المدى البعيد. قد يساهم كلاهما في ضرب «داعش» وإخراجه من المدن، لكن ما يرافقهما من ممارسات يأتي بنتائج عكسية، ويكفي التفكير في اتجاهات ثلاثة لتقدير الموقف: أولاً بالجيل الذي ينطبع وعيه بالمهانة التي يتعرّض لها مع أهله وب «لعبة العنف» الوحيدة المتاحة أمامه. وثانياً بالصراعات المذهبية (سنّة - شيعة) أو القومية (عرب - كرد) التي باتت محاربة الإرهاب منفذها لتحديد المنتصر والمهزوم بغضّ النظر عن مدى إرهابية هذا الطرف ووحشية ذاك. وثالثاً بالنتائج السياسية الآخذة في الارتسام، وفقاً لأجندات القوى الدولية وأهوائها، سواء بالظروف التي يوفّرها الأميركيون والروس لإيران كي تقطف ثمار سياساتها العدوانية والتخريبية في العالم العربي وحتى بمكافأتها بمحاربة إرهاب صنعته ورعته، أو بالتغييرات الجغرافية التي يستعدون لبنائها على إحباطات تاريخية عربية إضافية لمعالجة إجحاف تاريخي عومل به الأكراد قبل مئة عام وجعلهم اليوم أول المطالبين بتقسيم العراق وسورية. نقلا عن صحيفة الحياة