تناولنا فى مقالين سابقين أزمتين من الأزمات الاقتصادية العديدة التى توطّنت فى مصر منذ عقود، وحاولنا استعراض بعض الحلول غير التقليدية للخروج من هاتين الأزمتين بسرعة وكفاءة. اليوم نضيف أزمة جديدة هى بادئ الرأى فرصة ومغنم فى بلاد عدة، لكنها فى مصر بلد التناقضات تهديد ومغرم!. فالاستثمار الأجنبى تلقّاه حكام مصر منذ ستة عقود وحتى عهد قريب بأحد وجهين إما بالعسف والاضطهاد والاستبعاد وإما بالتدليل والإباحة المطلقة والإفساد. فحينما خرجت مصر من عباءة الاشتراكية -أو أرادت أن تخرج- فتحت اقتصادها بصورة غير مسبوقة فى سياسات ما عرف بالانفتاح الاقتصادى، ونشأت عن ذلك تشوهات اقتصادية واجتماعية عديدة، فازدادت حدة الفقر دون أن يشعر أحد بأن الاستثمارات قد اتجهت لأنشطة إنتاجية أو ساهمت بصورة فعّالة فى حل أزمة البطالة مثلاً. ولما أراد مبارك أن يحذو حذو التجارب الأوروبية لخصخصة القطاع العام، اتجه الجدل فترة طويلة فى مصر لضبط مصطلح الخصخصة وما إذا كان صحيحاً لغوياً أم لا!! بينما خطط التصرّف فى حصيلة الخصخصة بما يخدم الاقتصاد الكلى كانت نهباً لمجالس من الأشقياء الذين انصرف جل اهتمامهم بتأشيرات الوزراء، ولم تنته بهم إلى لجان وفرق عمل متخصصة كالتى تخدم أعضاء المجالس النيابية فى الدول المحترمة. فأصبحت الخصخصة موضة ودعاية لنظام فاسد، أراد أن يسبغ على نفسه ملامح الاقتصاد الحر، فكانت النتيجة ما نراه الآن فى ساحات المحاكم المصرية، من بطلان عقود الخصخصة لمستثمرين أجانب، لم يأتوا إلى مصر إلا بعد أن قدّم لهم المفاوض المصرى تنازلات واستثناءات عجيبة، تشبه فى مضمونها الامتيازات الأجنبية التى كان يتمتع بها الأجانب فى عهد الاحتلال البريطانى!. فلا خزانة الدولة استفادت من الضرائب التى كان ينبغى أن تفرض عليهم، ولا ساهمت هذه المشروعات المخصخصة فى حل أزمة البطالة، بل على النقيض من ذلك، لعبت دوراً هاماً فى تشريد فائض العمالة بتلك المشروعات، وعلى الرغم من أن هذه العمالة لا تعدو أن تكون سوى بطالة مقنّعة، أراد بها النظام الناصرى ووريثيه رشوة الطبقة العاملة، إلا إن تكريس هذا الوضع المعيب عدة عقود لا يصح أن يدفع ثمنه العامل البسيط، بل ينبغى أن يحاكم عليه رؤوس الفساد وإن كانوا قبض القبور. ولأن الخصخصة صارت فى عهد مبارك حلية النظام الفُضلى، فقد أحدث توقّفها قلقاً لدى القيادة السياسية آنذاك، فكانت تتعامى عن حقيقة أن المستثمر الأجنبى يهفو إلى الدول المستقرة سياسياً وأمنياً فى المقام الأول، وأن هذا الاستقرار ليس مرادفاً لحالة الموات السياسى التى غرسها مبارك وأعوانه، ولكنه المرادف المنطقى لوجود وفعالية المؤسسات وغياب الروتين وصنابير الفساد المفتوحة عن آخرها، ولأن هذه العلل من سمات العهد السابق، فلم يكن النظام ليتخلى عنها، لذا رضى بتقديم تنازلات اقتصادية ومالية تضر باقتصاد الدولة، كما رضى باستقطاب الاستثمار الأجنبى من الفئة ب وج وأحياناً، وأقصد بهذا المجاز هذا النوع من الاستثمار الذى يأتى بأموال ساخنة سرعان ما تجنى الأرباح وتغادر البلاد دون خسائر، وذلك حال تدهور أوضاعها وانهيار استقرارها المزعوم إما بموت الرئيس أو بحدوث ثورة كالتى شرفت بها البلاد حديثاً. فظهر فى أدبيات إدارة المخاطر بالعديد من مؤسسات التصنيف الائتمانى الدولية نوع من المخاطر اختصت به مصر أطلقوا عليه deputy risk أو مخاطر النائب، نتيجة عدم وجود نائب أو خليفة معلن للرئيس المخلوع، علماً بأن هؤلاء المستثمرين لا تنطلى عليهم دعاية مبارك المضحكة بأن مصر فى عهده كانت دولة مؤسسات!. النتيجة أن الاستثمارات الأجنبية التى وردت مصر مؤخراً استقرّت فى الاقتصاد الريعى المتمثّل أساساً فى الاستثمارات العقارية وتسقيع الأراضى والمضاربة فى البورصة. وكلها أنشطة اقتصادية هامة لكن إضافتها للاقتصاد الحقيقى لم تكن ملحوظة. وإن المرء ليعجب من تدنّى سعر فدان الأرض التى يحصل عليها هذا المستثمر أو ذاك، علماً بأن الدولة كانت تقدّم له كافة الاستثناءات والإعفاءات الضريبية والخدمات المجانية أو رمزية التعريفة، وكل ذلك مقتطع من جيب المواطن الفقير!. وحينما أثيرت قضايا خاصة بفرض ضرائب أرباح رأسمالية على تعاملات البورصة كالتى يوجد لها نظير فى أغلب اقتصادات العالم المتقدمة والناشئة على السواء، كانت سطوة رأس المال من العنف بحيث أجهضت المشروع فى أيام، واستخدمت فزاعتى البورصة والاستثمار الأجنبى فى إثناء الدولة عن تنويع إيراداتها بصورة ترفع بعضاً من العبء عن كاهل المموّل الفرد البسيط. ذلك لأنه كما كان يحلو لنظام مبارك أن يدّعى أن مصر لها ظروف خاصة! وقد كانوا محقّين فى ذلك، فظروف مصر الخاصة نشأت عن محاولتها ترقيع الأثواب بدلاً من إنتاج أثواب جديدة، فقد كان النظام يريد استثمارات أجنبية ولكنه لا يريد أن يقدّم بعض الإصلاحات السياسية والإدارية التى تفتح الباب لتلك الاستثمارات، فكانت النتيجة الحتمية تسرّب الاستثمار الردىء إلى داخل البلاد، وعزوف الاستثمار المنتج عن دخول مصر إلا ما رحم ربى. واليوم بينما نعيش حالة من الغموض السياسى والفوضى الأمنية، مازلنا نسمع نائحين على الاستثمار الأجنبى، ومؤملين فى عودته واستقطابه أثناء المرحلة الانتقامية –أقصد الانتقالية-!! أريحوا أنفسكم، الاستثمار سواء الأجنبى أو حتى المحلّى لا يعيش ولا يُنتج فى أجواء الفوضى والغموض. أضف إلى ذلك حالة الترقّب التى تملّكت العديد من المؤسسات الأجنبية، خشية أن تعود مصر إلى سياسة التأميم والتى هلّت بشائرها بأحكام قضائية ألغت بعض عقود الخصخصة الفاسدة. وبالرغم من كون تلك الأحكام قضائية ولا دخل لها فى سياسة الدولة الاقتصادية وأيديولوجيتها المتّبعة، إلا إنه يلاحظ تهافت بعض الكتّاب على الدعوة الصريحة للتدخل فى شئون القضاء، بدعوى إيقاف ما يسمّونه: ردة عن نظام الخصخصة. الأمر أبسط من ذلك بكثير، فسياسة الدولة المعلنة يجب ألا تقتصر على إعلان النوايا الحسنة بأن مصر ستظل على درب الاقتصاد الحر، كما يجب ألا تبرز الدولة أنيابها لسلطة القضاء المستقلة، فاتخاذ موقف وسط بين الضدين هو أنسب الحلول، وإعلان الدولة عن سلسلة من المشروعات لدعم الاقتصاد الحر والقطاع الخاص بصفة عامة، حتى ولو بعيداً عن مشروعات خصخصة الأصول، من شأنه أن يأتى بأثر طيب على المستثمر الجاد الذى يضع خططاً استثمارية فى المستقبل القريب ولا نريد لمصر أن تخرج من مخططاته لدى استقرار الأوضاع. يبقى لنا أن نشير إلى بعض المقترحات فى هذا الشأن "وأفضل من عجز المحيط طاقة المشير" (كما قال العقّاد) فالمستثمر الأجنبى يجب أن يخضع لقوانين الدولة ولوائحها وقواعدها، فلا يحظى بأى استثناء إلا بالقدر الذى يضيف فيه إلى الناتج المحلى، وبقدر مساهمته فى حل أزماتنا الاقتصادية، يستوى فى ذلك الأجنبى والمصرى ويبقى للمستثمر المصرى فضل جنسيته وامتياز وطنيته دون منازع. ولتقم الدولة بحصر المشروعات التى تُعجِز الاستثمار الوطنى ويتم تصنيفها وترتيبها وفقاً لعائدها على الاقتصاد القومى فى مجموعه، مع وضع أوزان نسبية لأهمية كل مشروع من حيث تشغيل العمالة مثلاً، أو حجم مساهمته فى الناتج المحلى الإجمالى، أو الناتج الصناعى أو الزراعى، أو توفير عملة أجنبية..إلى غير ذلك من معايير هامة فى الترتيب. وتقوم الدولة بتذليل مختلف العقبات الإدارية والروتينية أمام الاستثمار الأجنبى فى تلك المشروعات كل بحسب أهميته. لنبدأ العمل اعتباراً من اليوم عسى أن تستقر أوضاع السياسة فيكون الاقتصاد مؤهلاً لاستقبال الاستثمارات الأجنبية وفقاً لشروط وضوابط تضمن استمرارها وعدم تحوّلها إلى أموال ساخنة، سرعان ما تهرب بما غلّته وتترك البلد بئراً معطلة وقصراً مشيداً. هنا تكمن أهمية عقود الانتفاع لفترات طويلة دون انتقال ملكية الأرض إلى مستثمر أجنبى، كما تكمن أهمية خصخصة الإدارة دون خصخصة الملكية، مع استهداف المشروع لعوائد جاذبة للمدير غير الحكومى. وعلينا فى المقال القادم إن شاء الله تحليل أزمة جديدة واقتراح ما يتيسّر من الحلول.