فارق كبير جدا بين الحي والميت. فالأول مفعم بالحركة والحيوية، بض تسرى فى بدنه حرارة الحياة، له تأثير فيما حوله وفيمن حوله، بينما الثانى جثمان يابس متحجر تسرى في أوصاله برودة الموت الساكنة التي تقطر بالصمت والجمود. فارق كبير جدا يعرفه كل من تعامل مع الموت وشهد منظر جثة تقلب يمنة ويسرة، ولا تحرك ساكنا، وهي التي كانت منذ لحظات تملأ الدنيا صخبا ونشاطا. هذه المقابلة بين الموت الحياة طالما ضرب بها الله (جل وعلا) ورسوله (صلى الله عليه وسلم) الأمثال. نعم تكرر هذا المثال فى كتاب الله وسنة رسوله (ص). يقول الله «أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون». ويقول سبحانه «أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ». ويقول رسوله (ص) «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» رواه البخارى. هذه نماذج سريعة تبين تلك المقابلة بين حالة الحياة بحراكها وحرارتها وبين حالة الموات بسكونها وبرودتها. والمتأمل في تلك المقابلة يعجب من هذا التضاد الرهيب والبون الشاسع بين الميت والحي وكيف أن الحال ينقلب رأسا على عقب، إذا انتقل الوصف من الأول إلى الثاني، فيخبو بريق الحياة في عينيه حتى يختفي تماما، وتتيبس الأطراف، وتسري فى البدن تلك البرودة الصامتة، ويتحول في لحظات إلى جثة هامدة. كيف انتقل من هذه الحالة إلى تلك؟ بشيء واحد نزع منه فصار إلى ما صار إليه .. لقد نزع السر الذى جعله الله من أمره وفي علمه. لقد نزعت الروح، ولما نزعت حدث كل هذا الانقلاب فى حال من نزعت منه. الروح هي أصل وسر تلك الحياة التي تنبض في العروق والبريق الذى يلتمع في العيون، والحركة التي يختلج بها القلب، والحرارة والحيوية التي تسري في جسد الحي. ومتى ما نزعت خبا كل ذلك. هل تتصور أن الله جل وعلا سمى الوحى المنزل بتلك الروح التى هى سر الحياة؟ نعم الله جل وعلا ذكر أن الوحى المنزل هو «روح من أمره»، وما أعظم هذا المسمى والوصف الذي أعده أخطر ما سمى به القرآن. «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور». لقد وصف القرآن بأوصاف كثيرة وبليغة. فهو النور المبين، وهو البيان والتبيان، وهو الشفاء والرحمة للمؤمنين، وهو الهدى والفرقان بين الحق والباطل، وهو أحسن الحديث والموعظة والبلاغ، وغيرها من الأوصاف والمسميات التي وصف الله بها كتابه العزيز وسماه بها. لكن تسميته بالروح لها قيمة مختلفة، لها دلالة تحتاج إلى وقفات. ويكأن القلوب من دون القرآن ميتة، والنفوس من دون القرآن يابسة متجمدة، والفكر من دون القرآن بارد ساكن. باختصار، مؤمن من دون قرآن عبارة عن جسد خاو من الروح. هل نظرت من قبل للقرآن هذه النظرة؟ هل تعاملت معه من هذا المنطلق؟ هل تعاملت مع كتاب الله أنه روح تحتاج أن تبث في قلبك ونفسك، وتسري حيويتها في أوصالك، وتمشى بها بين الناس، لتكون كمن قال الله فيه: «أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس». وليس كمن قال فيه سبحانه: «كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها». نحتاج أيما حاجة لأن ننظر للقرآن هذه النظرة، وأن نتعامل معه من منطلق مختلف عن منطلق كثير من الناس الذين لا يتعاملون معه إلا كترانيم لا يفقهونها أو كوسيلة لتحصيل الثواب– وهذا حسن– لكن للأسف ينشغلون بالهدية عن الوصية، وبالفرع عن الأصل. القرآن كتاب تغيير مفترض أن حياتك تنقلب رأسا على عقب– للأفضل طبعا– إذا سرى فيه القرآن، وتسربت إلى أركانها آياته. كم من قلوب كانت متشحة بالسواد ونفوس ميتة أحياها الله بهذا الكتاب المجيد! كم من بعيد عن الله مسرف على نفسه مرضيا لهواه .. هداه الله بتلك الروح من أمره! أكرر إن هذا القرآن كتاب مغير، ولا ينبغى أن يعامل على أنه وسية تحصيل ثواب فقط. لقد ذكر الله أنه «لو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى» .. تقدير الكلام في الآيات: لكان هذا القرآن! تأمل هذه الأحداث الجسام التى تكاد تكون مستحيلة من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى. هذا القرآن قدرته التغييرية توازى هذه الأفعال الجسيمة..! فهل تكون قلوبنا أقسى من الجبال التي لو أنزل عليها هذا القرآن لخشعت وتصدعت؟! إن شاء الله لن تكون كذلك. ينبغى علينا فقط أن نشعر بهذه الحاجة الملحة للعودة إلى القرآن .. بل لعودته إلى قلوبنا التي شارف بعضها على الوفاة إيمانيا. ينبغي أن نتناول القرآن هذا العام من منطلق العودة.