طرح المفكر الماركسي د. هشام غصيب الفكرة التالية بموقعه على الفيس بوك: "نحن نعيش في ظل نظام إمبريالي صهيوني. والرافع الأساسي لهذا النظام الآثم هو الإمبريالية الأميركية. وتناقضنا الرئيسي هو مع هذه الإمبريالية. وكل ما عداه هو ثانوي." وذلك على الرابط: https://www.facebook.com/#!/Hishbishghas/posts/10150806611378902?notif_t... بالطبع يأتي طرح هذه الفكرة في سياق الانهمام بما يجري حاليا في ربيع الثورات العربية، ومن منطلق أقرب إلى التلميح منه إلى التصريح .. جرى هذا الحوار مع المفكر الماركسي: تخيل يا د. غصيب .. لو أن ماركس أو لينين أو حتى ستالين .. قالوا مثل هذا الكلام: ("نحن نعيش في ظل نظام إمبريالي صهيوني. والرافع الأساسي لهذا النظام الآثم هو الإمبريالية الأميركية. وتناقضنا الرئيسي هو مع هذه الإمبريالية. وكل ما عداه هو ثانوي"). ترى ماذا كان سيحدث وقتها؟؟ هل كانت هذه الأطروحة ستتسبب في شل ثورة الجماهير ضد جهاز الدولة (الوطنية) الفاسدة .. بحجة أنه مجرد جهاز "محلي" "ثانوي" لا ضرر منه، بينما ينبغي على الثورة "الحقيقية" أن تركز "حصرا" على الأجهزة الدولية والعالمية والأمريكية؟ بحجة أن "الاستغلال العالمي" هو الحامل للتناقض الرئيس، بينما الاستغلال المحلي، ليس سوى مسألة "ثانوية" هامشية. يقول د. غصيب: "هذه الأجهزة (الدولتية الوطنية المحلية) هي امتداد في أغلبها للنظام الإمبريالي الصهيوني. ومجابهتها ينبغي أن تتم على هذا الأساس، وإلا ضاعت البوصلة" انتهى. لكن هل يعني هذا قبول و"مباركة" أجهزة الدولة الفاسدة الإقطاعية والديكتاتورية التي تمارس الاغتراب والاستغلال ضد مواطنيها فقط، لكونها لم "توفق" في ضبط علاقتها مع أمريكا؟ أو فقط لأنها تجد "مصلحة بديلة" في مناوءة أمريكا؟ هل يوجد للاستبداد والاغتراب والاستغلال، وجه واحد فقط حصري؟ هو ذلك القادم من الهيمنة الأمريكية حصرا؟ بحيث أن كل استغلال أو استبداد يأتي من أي جهة أخرى عدا أمريكا، سيكون مقبولا ومرحبا به، بل وربما مطلوبا أيضا؟ ألا يوجد للاستبداد والاغتراب والاستغلال، أوجه بديلة، بعيدة عن أمريكا؟ ولو كان ذلك كذلك، إذن فلا تعود هناك أي قيمة لمجمل التحليل الذي قام به ماركس وإنجلز، فقط لأنهما لم يشيرا إلى أمريكا، بل لم يشيرا حتى إلى "الإمبرياليات" التي كانت قائمة وقتهما، بل من المؤكد أنهما-ماركس وانجلز- قد "باركا" الإمبريالية البريطانية في الهند، حين وجدا في هذا الاحتلال فرصة لإدخال الهند في الحداثة. إذن، فلتسقط الماركسية، لأنها أغفلت، بل "باركت" الإمبريالية. ألم يكن هذا هو فحوى أطروحة إدوار سعيد، التي رفضها الماركسيون، فهل تعجز الماركسية عن الاعتراف، بان الاستبداد والاستغلال والاغتراب، ليست أمور أمريكية حصرية، بل هي أمور قائمة قبل أمريكا، وستسمر بعد زوالها، وأن الهدف هو رفض الاستغلال، وليس رفض أمريكا. يقول د. غصيب: "أنا لا أقول إن الاستبداد والاستغلال والاغتراب أميركي حصريا. بالتأكيد لا. لكن الرافع الرئيسي لذلك في عالم اليوم وفي النظام الصهيوأميركي هو الإمبريالية الأميركية، ومن ثم، فإن التناقض الرئيسي هو مع هذه الإمبريالية. وعليه، فإذا قررت الإمبريالية أن تشن هجوما على نظام ما، فعلينا أن ندرك أنها لا تفعل ذلك من أجل الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وإنما من أجل تحقيق مهمات إمبريالية معينة، ومن أجل تعزيز هيمنتها الإقليمية والعالمية. وعلينا أن نقف إلى جانب النظام المعتدى عليه، حتى لو اعتبرناه استبدادبا وقمعيا. هذا لا يعني القبول بهكذا أنظمة. فعلى الطبقات الكادحة أن تسعى دوما إلى تنظيم نفسها في مجابهة جميع الأنظمة البرجوازية على اختلاف أنواعها. لكن، عليها ألا تنساق وراء ألاعيب الإمبريالية ومؤامراتها." وللرد على هذا نقول: يقول د. غصيب "علينا أن "نقف" إلى جانب النظام المعتدى عليه (أي نقبله)، حتى لو اعتبرناه استبدادبا وقمعيا" انتهى ثم يقول: "هذا لا يعني القبول بهكذا أنظمة (أي الوقوف معها). فعلى الطبقات الكادحة أن تسعى دوما إلى تنظيم نفسها في مجابهة (أي عدم قبول) جميع الأنظمة البرجوازية على اختلاف أنواعها" انتهى. لكن أسمح لي: ألا ترى أن هناك معضلة شديدة البأس، تصل لدرجة التناقض بين هاتين الجملتين؟ أظن أن هذا التناقض والتحير، هو أحد أخطر مشكلات التيارات الماركسية المعاصرة. المنطق الثوري، يشتغل بعفوية، ويمكن أن يصيبه الشلل التام، إن أدخلناه في "تناقضات" غير مفهومة للطبقات الشعبية، التي تقوم بالثورة. لذا، فطالما أن "الاستغلال" ليس ملكية حصرية أمريكية، وطالما أن أي "جهاز" دولة، قادر على ممارسة الاستغلال، مثل الأمريكيين، إذن، الأجدى بالمهام الثورية، هو مجابهة "جهاز" الدولة المحلي الإقليمي، قبل الانخراط في "مجابهة" دونكيشوتية، مع النظام العالمي، وهذا أقرب إلى العفوية الثورية. في هذا الإطار، لابد من ضبط "المهام" الثورية، لنفرق بين الاستراتيجي والتكتيكي، وما وراء الاستراتيجي، كما يلي: أولا: مواجهة الاستغلال بكافة أشكاله ثانيا: مواجهة "جهاز" الدولة المحلي ثالثا: إنشاء "جهاز" دولة أقل استغلالا، ومن ثم رابعا: التخطيط لمواجهة "جهاز" الهيمنة العالمي ذلك أن مواجهة الهيمنة العالمية "الأمريكية"، هي مهمة مابعد استراتيجية، لا يمكن التفكير فيها أو تنفيذها، إلا بعد تحقيق "التحرر" من الاستغلال المحلي والإقليمي أولا، وليس تاليا. أما قلب هذا التسلسل، ليعمل من أسفل إلى أعلى، فهو بالضبط ما تمارسه الأنظمة الاستغلالية الاقطاعية، لتديم حكمها، وكأنها تقول للثوريين، بصيغة تعجيزية: "عندما تقدرون على الأمريكيين، وعندها فقط، تعالوا لتتفرغوا لنا، وهذا يخلق تضارب خطير في الفكر الثوري الماركسي، ولذا، فهو أصبح خارج حركة التاريخ، وخارج الحركة الثورية بشكل عام، عندما اغترب عن قضايا المحلية، واستبدل بها قضايا العالمية الدونكيشوتية. هذا أظنه أحد أسباب اغتراب الفكر الماركسي الثوري عن المجتمع المعاصر، لأن هذه الوضعية، تعني شلل الحركة الثورية على المستوى المحلي والإقليمي، نتيجة لتضارب مواقفها تجاه الاستغلال المحلي، لأنها مشغولة، كما المنوم مغناطيسيا، بمحاربة الاستغلال "الكوني"، على طريقة دونكيشوت! المسألة المطلوبة حصريا هي: إزالة الاستغلال وليست المسألة حصريا هي: إزالة الهيمنة الامريكية، لأن الهيمنة الأمريكية، مجرد شكل من أشكال الاستغلال، التي تعمل على مستوى ما وراء وما بعد محلي، بل كذلك، فإن الهيمنة الامريكية ليست هي الشكل الوحيد الأوحد للاستغلال. لذا، فإن الانشغال بمحاربة أمريكا، هو، في ظني، مهمة دونكيشوتية، وليست بالمرة مهمة واقعية استراتيجية قابلة للتنفيذ والتخطيط، لدى أغلب المفكرين الثوريين، اللهم في أمريكا نفسها ووحدها. لذا فإن الانشغال بمحاربة الهيمنة الامريكية، ربما يؤدي إلى "اختزال" كافة أشكال الاستغلال المحلي والإقليمي، فقط في الشكل الأمريكي البعيد، وهذا اسميه نزوع دونكيشوتي، لأنه مثالي بعيد حالم هادف للنجوم، متباعد عن الواقع المتعين القابل للتحقق، بل ومناهض للجدل، كما في كتاب الايديولوجيا الالمانية. لذا، فعلى الاقل أتمنى من حضرتك كتابة مقال أو أطروحة تبين لنا "تطور" استراتيجيات الفكر الثوري، منذ ماركس ولينين إلى جرامشي ومهدي عامل، لنفهم كيف تطورت الاستراتيجية الثورية من محاربة الاستغلال القائم في الواقع المتعين الفعلي المحلي الاقليمي، إلى وضع أهداف أخرى ربما كانت مستحيلة التحقيق، بل والتفكير فيها، بما أدى إلى شلل في الفكر الثوري. المشكلة الأخرى في مسألة "مناهضة" الهيمنة الامريكية هي كونها توفر غطاء مجانيا يبرر الاستغلال الذي يمارسه "جهاز" الدولة المحلية، وهذا الغطاء هو بالضبط ما تستر خلفه القذافي، بل واستخدمه مبارك نفسه في أكثر من مناسبة. فالمشكلة في غطاء "مناهضة" امريكا أنه غطاء مجاني لفظي، يمكن لأي سياسي أن يدعيه، بل ربما أمكن لأوباما نفسه أن يتستر به، أي كونه يريد ازالة الاستغلال من أمريكا. لذا، فإن المعيار الوحيد للحكم على درجة "الاستغلال" التي يمارسها النظام، ليست هي درجة "مناهضته لأمريكا لفظيا وصحفيا وشكلانيا، كما كان يفعل القذافي وجاك شيراك، بل يجب أن يكون معيار الحكم هو "الاستغلال" الواقع على الشعب المحكوم نفسه، وليس بناء على معايير مسيّسة يستحيل قياسها إلا لفظيا وبشكل مجاني وغير واقعي وغير متعين، لأنه يستند لنزعة شعاراتية بعيدة عن حياة الناس المحكومين اليومية. صحيح أن مجال اشتغال الامبريالية المعولمة المعاصرة هو العالم المعولم بأكمله، لكن صحيح أيضا أن مجال اشتغال المقاومة الثورية لا يمكن إلا أن يكون محليا واقليميا، وإلا أصبح خاويا وخياليا وغير متعين وشعاراتيا مجانيا. لذا، تجد أن الحركات التي تستفيد من الاستغلال المحلي وتوظفه وتكرسه بحجة أن المهمة المقدسة هي مناهضة الاستغلال العالمي قبل الاستغلال المحلي، هي محض تنظيمات إقطاعية جديدة، تقوم على التأجيل المستمر للثورة ضد الاستغلال، لأنها تتعامى عن الاستغلال المحلي، بينما تلهث وراء هدف خيالي ما ورائي اسمه الاستغلال العالمي. بينما أظن أن الوضع المنطقي والوضع الديالكتيكي السليم، النابع من فهم الواقع المتعين، لابد أن يبدأ من مناهضة وتفكيك منظومة الاستغلال المحلية والاقليمية، لأنها وحدها مجال الاشتغال الثوري الممكن. أما الانشغال بالمنظومة العالمية، رغم كونها خارج مجال الاشتغال الثوري المحلي، فهو يفتح الباب لتسويف وتأجيل مقاومة الاستغلال، لأنه يصيب حركات المقاومة بمرض الانفصام، الذي يقبل الاستغلال على المستوى المحلي الممكن مواجهته، بينما يرفض الاستغلال على المستوى العالمي حيث يستحيل مواجهته، وبهذا تصبح حركة المقاومة هذه مصابة بانفصام خطير يشلها، ويجعلها مجرد اعادة إنتاج لنفس التنظيمات الاقطاعية والطائفية القديمة. المقاومة هي اشتغال على موقع محلي محدد ومحدود، وليست اشتغال على مجال كوني لامحدود وغير متعين، لذا، فأول مجال لاشتغال المقاومة، هي ذات المقاوم نفسه، ثم جماعته، وهكذا بحيث نصل تدريجيا، إلى توسيع مجال ودائرة المقاومة، هذه هي الاستراتيجية الثورية المقاومة التي اتبعها غاندي ومارتن لوثر كنج، وأغلب الحركات الثورية المعاصرة الناجحة، والتي نعيشها الأن في الربيع الثوري العربي، أظن أننا هنا أمام حركة ثورية جديدة تقطع مع الفكر الثوري العنفي الاستغلالي السابق عليها، هذه الثورية الجديدة هي التي وضع تنظيراتها الفكر ما بعد الماركسي، المتجاوز لمشكلات وأخطاء الماركسية، وأقصد فكر ميشيل فوكو ودولوز وهابرماس. فقد ظهرت أغلب هذه التيارات الثورية الجديدة المعاصرة، بعد ونتيجة فشل الثورية الماركسية، التي لم تنجح سوى في إفراز نظم استغلالية جديدة، بحجة استمرار العمل على مقاومة النظم الاستغلالية الكونية. لقد اثبتت حركة التاريخ، فشل الفكر الثوري الماركسي القائم على مناهضة الاستغلال من خلال إنتاج نظم استغلالية بديلة أشد استغلالية من القائمة، مثل الستالينية، وقد اعترف بهذا الفشل الاتحاد السوفيتي نفسه. لذا، لابد من تنقيح ومراجعة الفكر الثوري الماركسي، الذي أصبح خارج حركة التاريخ، وهذه المراجعة، لن تتم من خلال استعادة واجترار نفس الأخطاء التي وقع فيها ستالين، بل بالاستفادة من قراءة مسارات الحركات الثورية التي نجحت حيث فشلت الستالينية، التي أودت بالماركسية إلى الفشل.