\r\n أنا زرتُ بغداد في مايو 1987، أي بعد شهر من بدء الوحدات العراقية باستخدام الغاز السام ضد القرى الكردية وحرقها ضمن برنامج منهجي يهدف إلى التصفية العرقية. وعلم السفير الأميركي بسرعة حجم الخراب، خلال رحلة كان قد قام بها إلى شمال العراق الملحق العسكري. لكنه أنكر امامي، ما علمت به من جهات أخرى، من أنه رفع تقريرا إلى واشنطن حول بدء عمليات الأنفال، ودُمغ على تقريره بأنه سري. \r\n \r\n مع بدء محاكمة صدام الثانية بتهمة ارتكابه جرائم حرب، تقدم شهود بإفاداتهم المؤلمة مع تفاصيل حول كيفية استمرار حملة الأنفال (غنائم الحرب) لأكثر من سنة. قالت امرأة «أنا لدي طفل. إنهم أنفلوه»، وهي إشارة إلى الهجمات بالغاز السام. \r\n \r\n نجمت الحملة عن تدمير ما يقرب من 2000 قرية ومقتل أكثر من 50 ألف كردي والاستيطان القسري لمئات الآلاف. وظلت إدارة ريغان بوش صامتة، مع استمرارها بمساعدة العراقيين في حربهم ضد إيران، بل إن واشنطن سعت إلى ضمان مشاركة العراق في المؤتمر العالمي المعتبر حول الأسلحة الكيميائية عام 1988. \r\n \r\n هذا التاريخ ما زال حيا، حتى مع ما نشاهده من مآس يومية في العراق، وحتى مع الدمار والقتل السائد في شوارع بغداد، ولكن كل ذلك لا يمكن أن يقلل من أهميته. إذ يستلزم الواجب الأخلاقي للولايات المتحدة تجاه العراقيين عدم تغطية هذا التاريخ خلال المناقشات حول الاستراتيجية والسياسات، التي راحت تتزايد مع اقتراب انتخابات الكونغرس النصفية. \r\n \r\n منذ عام 1972 ظل المسؤولون الأميركيون يدعمون الأكراد والشيعة العراقيين للانتفاض على النظام، لكنهم غيروا ولاءهم ليتوجه نحو الأقلية السنية المهيمنة في لحظات حرجة. وهم قاموا بذلك من منطلق الخوف من المجهول، مما قد تخلقه سياسة أميركا. \r\n \r\n بعد ثلاثة عقود على تقلب واشنطن، ازداد تصميم الأكراد على تجنب السيطرة المركزية من بغداد، وشجعوا الشيعة كي يكونوا حكومة خاصة بهم في الجنوب مع استقلال ذاتي كامل أيضا. قد يكون خارج قدرة واشنطن منع تقسيم العراق الآن، عن طريق تقوية حكومة مشكوك بوحدتها الوطنية. وقد لا يخدم ذلك مصالح واشنطن نفسها. \r\n \r\n بدلا من ذلك، ومع ما يبدو أنه نهاية اللعبة العراقية على واشنطن، يكون المطلوب التوثق من أنها لن تترك وراءها حكومة مركزية تستطيع أن تلحق القتل والدمار ضد مواطنيها. هذا هو الهدف الأقل لحل معضلة أخلاقية تعود إلى ما قبل بداية غزو العراق، الذي أمر به الرئيس بوش، بفترة طويلة. \r\n \r\n إنه ليس مصادفة أن تؤجل محاكمة صدام الأولى بعد انتهائها من أجل إصدار الحكم ضد تهم تتضمن عمليات إعدام جماعية في قرية شيعية، أو أن الثانية أصبحت منصة للتعبير عن الضيم الكردي، الذي ظل العالم يتجاهله لفترة طويلة أو يقلل من شأنه. \r\n \r\n من المهم الاعتراف بأنه لولا الغزو الأميركي للعراق لما كان ممكنا، إطلاقا، أن تجري هذه المحاكمات، لكن ذلك بالمقابل يؤكد ضرورة أن مواجهة إدارة بوش لهذه الحقيقة، تمكنها من تبرير التدخل العسكري، حينما يغير الأمور نحو الأحسن. هذا لا يعني أن يكون الوضع الجديد مثاليا، لكن وجود احتلال عسكري غير قادر على تحسين الوضع، يجعل منه عملا غير حكيم، في النهاية من غير الممكن الحفاظ عليه، أضف لذلك أنه غير أخلاقي، دعك من كون أن تورط أميركا في العراق نفسه، هو مرة أخرى قريب من كونه أيضا غير أخلاقي. \r\n \r\n * خدمة «مجموعة كتّاب واشنطن بوست» \r\n \r\n خاص ب«الشرق الأوسط» \r\n