وعلى الرغم من أن ملامح هذا الأخير وقسماته لا تزال غامضة ومجهولة، إلا أن المؤكد أنه سيكون عالماً أقل استقراراً وازدهاراً وسلاماً. وفي اعتقادي الشخصي أن المسائل التي ستقرر ما إذا كنا سندلف إلى عالم ما بعد فترة ما بعد الحرب الباردة هذا، ستختزل في مسألتين رئيسيتين هما، الكيفية التي ستتصدى بها كل من الهند والصين وروسيا لطموحات وتطلعات إيران النووية أولاً، وثانياً طريقة تعامل الغرب -ولا سيما الولاياتالمتحدة الأميركية- مع سعر 60 دولاراً لبرميل النفط. ولكي أوضح الأمر أكثر، دعوني أقول إنه فيما لو نجحت مساعي إيران في تطوير ترسانتها النووية، فإن من الأرجح أن تتخذ المنحى ذاته كل من المملكة العربية السعودية ومصر، وغيرهما من الدول العربية الأخرى التي تدين بالمذهب السني. ففي وسع دول كهذه أن تبتلع حيازة جارتها القريبة -إسرائيل- للأسلحة النووية على مضض، لكنها لن تتمكن من التعايش مع الخطر نفسه، ما أن يكون ذلك السلاح بيد طهران الشيعية. فالذي يبدو في علاقات طهران بجاراتها السنيات العربيات، يشبه كثيراً علاقة التنافس المستمر بين الأخوات الشقيقات. إلى هنا نصل إلى حقيقة أنه إذا ما قدر للعالم العربي كله أن يطور أسلحته النووية، فعندها يكون قد تداعى تماماً نظام حظر انتشار الأسلحة النووية، الذي ميز عالم ما بعد الحرب الباردة. \r\n ويقيناً فإن عالماً بكل هذا القدر من اتساع دائرة انتشار السلاح النووي، خاصة عندما يكون هذا الانتشار في المنطقة الرئيسية المنتجة والمصدرة للنفط، يتوقع له أن يكون أقل استقراراً وأكثر خطورة بما لا يقاس، إلى ذلك العالم الذي ساد في أعقاب نهاية الحرب الباردة. ولمن يشك في هذا الأمر، فإن عليه أن يتخيل حيازة إيران لبراميل لا تحصى من النفط، سعر كل واحد منها 60 دولاراً، مع مواصلة استفزازها للعالم، وهي بعد مسلحة بدرع نووي ضارب، يحمي صلفها وعنجهيتها ضد أية ردود فعل عسكرية ربما تتعرض لها جراء ذلك الصلف! أما إن كنت راغباً حقاً في التقاط انطباع أولي لما سيصير إليه عالم ما بعد فترة ما بعد الحرب الباردة، فما عليك إلا أن تستمتع إلى تلك السموم التي ينفثها الرئيس الإيراني المتشدد محمود أحمدي نجاد. فقد نقلت عنه صحيفة ''الجارديان'' اللندنية قوله مؤخراً: ''ليس في وسع أعدائنا أن يفعلوا بنا شيئاً... فنحن لسنا بحاجة إليهم البتة، وإنما هم بحاجة إلينا''. \r\n وفي اعتقادي الشخصي، أنه ما من سبيل للجم إيران ووقف هذا الصلف عند حده عبر الوسائل السلمية الدبلوماسية، سوى تدخل كل من روسيا والصين والهند. ذلك أن أوروبا من الضعف والهزال بمكان اليوم، في حين استنفدت أميركا كل ما في جعبتها من عقوبات اقتصادية تفرضها على إيران. يذكر هنا أن كلاً من الصين والهند وروسيا، تجيء في مقدمة الدول المستفيدة من النظام العالمي الذي ساد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وأنها السباقة في جني كل المزايا والفرص التجارية والاقتصادية والتنموية والتصديرية التي أتاحها ذلك النظام. يضاف أن هذا العالم، قد تكفلت الولاياتالمتحدة أكثر من غيرها بتشكيل ملامحه وحمايته، في حين استمتعت الصين والهند وروسيا، بركوب سفينته عبر رحلة مجانية طويلة، امتدت كل هذه السنين. ولكن ها هي لحظة الخطر الجدي على مصير ذلك النظام قد حانت الآن، ولم يعد من سبيل إلى بقائه واستمراره ما لم تتخط هذه الدول الثلاث ترددها وتلكؤها، لتقترب من الولاياتالمتحدة وتأتلف معها في شراكة حقيقية، تستهدف الحفاظ على نظام وعالم ما بعد الحرب الباردة. ولكي تترجم الدول الثلاث شراكتها هذه إلى موقف عملي -مع ملاحظة أنها تمثل نصف البشرية جمعاء تقريباً- فإن عليها أن تواجه طهران وجهاً لوجه وعيناً بعين، وتؤكد لها استعدادها للانضمام إلى أي قرار دولي يقضي بفرض عقوبات دولية على إيران، إن هي سعت إلى تطوير وصنع قنبلتها النووية. تلك هي اللحظة الوحيدة التي ستوقظ إيران من غيبوبة صلفها وعنجهيتها، لتنتبه إلى ما يقال لها مباشرة في وجهها. \r\n أما بالنسبة لأميركا -وفيما لو لم يطرأ تغيير على سياساتها الحالية، وترك الحبل على الغارب لنائب الرئيس ديك تشيني كي يواصل سياسة الاعتماد التام على النفط الخام الشرق أوسطي- فالأرجح أن ينحسر ذلك العالم الديمقراطي الآمن، الذي أعقب نهاية الحرب الباردة وانهيار حائط برلين، أو أن يرتد مرة أخرى إلى مرحلة حرب باردة بقوى وأقطاب وأطراف جديدة هذه المرة. ومن أين لأي مد ديمقراطي بدأه بوش منذ عام 2001 أن يستمر، فيما لو قدر لدول وأنظمة معادية للديمقراطية مثلما هو حال إيران وفنزويلا وسوريا وبورما والسودان ونيجيريا، أن تحقق أرباحاً مالية طائلة من مسيرة عشر سنوات من مبيعات النفط، بسعره العالمي البالغ 60 دولاراً؟! وللسبب عينه، فإن السبيل الوحيد للجم طغيان هذه الأنظمة وإخراس عنجهيتها، هو تبني الولاياتالمتحدة لسياسات مغايرة في مجال الطاقة، تحررها من أسر الاعتماد على وقود النفط. \r\n ينشر بترتيب خاص مع خدمة نيويورك تايمز \r\n