خلد المغرب الذكرى الخامسة عشرة لتربع العاهل المغربي الملك محمد السادس على عرش المملكة وهي مناسبة لتقييم مختلف الإنجازات التي كانت محطة إشادة في الداخل والخارج؛ وعلى رأس هذه الإنجازات الاستقرار السياسي الذي يحظى به المغرب مقارنة مع دول الجوار، والسبق الديمقراطي بفضل الميثاق التعاقدي الإيجابي الذي يطبع التجربة المغربية منذ تسعينيات القرن الماضي، بمعنى أن الإصلاحات العميقة ليست وليدة الظرفية أو نتيجة لما يعرف بآثار «الربيع العربي» على بعض دول المنطقة... إذ إن تربع العاهل المغربي على عرش المملكة سرع من وتيرة الإصلاحات السياسية وجذر الثقة بين مختلف الفاعلين السياسيين، وفتح المجال السياسي لهم في احترام للثوابت والشرعية التاريخية والروحية والدينية للمملكة؛ ولا غرو أن هذا الاستقرار السياسي والوضعية الجغرافية للمملكة مكنا من جلب وزرع الثقة عند المستثمرين الأجانب... كما أن العاهل المغربي في هذه الفترة فتح ورشاً اقتصادية واجتماعية للتنمية القطاعية من طرف السلطات العمومية أعطت نتائج عدة، نذكر من بينها: - مخطط المغرب الأخضر الذي يهدف من جهة إلى تصنيف البيئة الزراعية والإيكولوجية للمجال وتحديد قدرته الزراعية، وأيضاً معرفة الموارد الطبيعية التي يحتوي عليها مع المحافظة عليها وتدبيرها بصفة مستدامة، ومن جهة أخرى يهدف إلى تأهيل مختلف أصناف الإنتاج الغذائي، وإلى الرفع من قدرته التنافسية. - المخطط الأزرق الذي يطمح إلى رفع القدرة الإيوائية السياحية إلى ثلاثة أضعاف لما هي عليه الآن، وإلى تطوير قطاع السياحة، وجعله مصدراً للدخل وضمان سياحة مستدامة ومسؤولة. - مخطط أليوتيس «Halieutis» البحري الذي يهدف إلى ضمان استغلال مستدام للثروات السمكية، وتعزيز القدرات التنافسية، وتحسين الجودة والأداء المتميز لقطاع الصيد البحري. - مخطط الطاقة الذي يصبو إلى بناء خمس محطات لتحويل الطاقة الشمسية بهدف تقليص الاعتماد على النفط المستورد، والوصول في عام 2020 إلى إنتاج 42 في المئة من حاجيات المغرب للكهرباء. ويتضمن هذا المخطط عدة تدابير ترمي إلى تشجيع مصادر الطاقة المتجددة، وحماية البيئة باستعمال التكنولوجيات النظيفة، وتحسين النجاعة الطاقية في مسلسل الإنتاج وفي تشييد المباني والخدمات، والحد من تأثير النقل على استهلاك الطاقة وتشجيع الاستثمار. - وفي الميدان الصناعي، يتضمن برنامج إقلاع Emergence «المهن العالمية للمغرب»: الأنشطة الخدماتية عن بعد Offshoring وصناعة السيارات، وصناعة الطيران، والصناعة الإلكترونية، والصناعة الغذائية، وصناعة تحويل المنتجات البحرية، والصناعة التقليدية العصرية وصناعة النسيج. ويحاول المغرب بفضل هذه البرامج جلب المزيد من المستثمرين الأجانب. ولا شك أن كل هذه المخططات وغيرها أعطت ثمارها المرجوة ومكنت المغرب من التغلب على تقلبات الوضعية الاقتصادية الإقليمية والدولية والسير بعيداً بالإنسان المغربي إلى بر التقدم... ولكن هل كل هذه الإنجازات تكفي؟ إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مساءلة الذات، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بسياساته إلى النقد الذاتي بإعمال الحكمة والمقاربة والمساءلة والشورى، وما لم يتعمق في فهم العوامل المطورة للملحمة الإنسانية... فما مستقبل الشعوب والأوطان إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ فجر التاريخ إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الحضارة الإنسانية تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها المتصلة... وتلعب الشعوب والبلدان دورها، وكل واحد يكون حلقته فإما أن يرفع قومه إلى مدارج التقدم وإما أن يساهم في انحطاطهم... وهذا هو كُنه بعض ما جاء في خطاب العاهل المغربي لعيد العرش منذ أيام، إذ قال العاهل المغربي: «إذا كان المغرب قد عرف تطوراً ملموساً فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين». وأضاف أنه يلاحظ خلال جولاته «التفقدية بعض مظاهر الفقر والهشاشة وحدّة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة». وقال إنه بعد اطلاعه على أرقام وإحصائيات خاصة بدراستين أنجزهما البنك الدولي في عامي 2005 و2010 لقياس الثروة الشاملة لحوالي 120 دولة من بينها المغرب: «أتساءل باستغراب مع المغاربة أين هي هذه الثروة وهل استفاد منها جميع المغاربة أم أنها عمّت بعض الفئات فقط (...) وللوقوف على حقيقة الوضع نوجه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بتعاون مع بنك المغرب ومع المؤسسات الوطنية المعنية وبتنسيق مع المؤسسات الدولية المختصة للقيام بدراسة لقياس القيمة الإجمالية للمغرب ما بين 1999 ونهاية 2013 (...) وإننا نتطلع لأن تقدم هذه الدراسة تشخيصاً موضوعياً للأوضاع وتوصيات عملية للنهوض بها». وهذا في نظري تجسيد للنقد الذاتي وتشخيص صائب لتحقيق النهضة؛ فالأزمات السياسية في العديد من أوطاننا تعود في تعقدها إلى أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظواهر السياسية، والتي تفرض أن تبقى الدولة على صلة بالوسط الاجتماعي لتلبية متطلباته الحيوية. ولقد قال الكاتب الاجتماعي بورك: «إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفظ ببقائها»... أو كما يقول نيتشه «إن من السنن الأزلية أن يعيد التاريخ نفسه كما تعيد الشمس كرتها من نقطة الانقلاب»، فللتاريخ دورة وتسلسل، فهو تارة يسجل للأمة مآثر جمّة، وتارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليرميها في نومها العميق. وإذا انطلقنا من هذه الملاحظة، وجب علينا أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا وما يعتورنا من عوامل التأخر وألا نلقي اللوم على الآخرين، وأن ننظر إلى المستقبل بصفاء بصيرة واقتناع علمي نهضوي لتحقيق التطور والازدهار: فها نحن أولاء على سفر ولكن إلى أين نسير؟ وبأي زاد سنقطع الطريق؟ وإن هذا السؤال لتحتمه علينا الظروف؛ وفي كل سفر يجب أن نعلم أي جهة نقصد؟ وبأي زاد نتزود؟ (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً). رابط المقال: عن الملحمة المغربية