شعبة الدواجن تتوقع ارتفاع الأسعار بسبب تخارج صغار المنتجين    إدانة عربية واسلامية لمصادقة الكنيست الإسرائيلي على ضم الضفة والأغوار في فلسطين    وزير الخارجية يتوجه إلى السنغال في المحطة الخامسة والأخيرة من جولته في غرب إفريقيا    تقرير: بايرن يقدم عرضه الجديد ل ليفربول من أجل لويس دياز    خبر في الجول - الزمالك ينتظر قرار فيريرا لضم مدافع حسنية أغادير    إبراهيم عادل: أبو تريكة قدوتي.. وهدفي في باراجواي اللحظة الأسعد بمسيرتي    وولفرهامبتون يضم أرياس من فلومينينسي    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    مصر تستهجن الدعاية المغرضة لتشويه دورها الداعم لقضية فلسطين    إعلام فلسطيني: 89 شهيدًا و453 مصابا بنيران جيش الاحتلال خلال 24 ساعة    "الشعب الجمهوري" يشيد بجهود مصر في دعم غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    رسميا.. الأهلي يعير كباكا إلى زد لمدة موسم واحد    قرار رادع .. لسكة الحديد تنهى خدمة مشرف قطار بسبب تأخير الركاب نصف ساعة بمحطة تلا    غسلوا 75 مليون جنيه من تجارة المخدرات.. الداخلية تضبط 3 متهمين    ضبط سائق يقوم بحركات استعراضية خطرة خلال حفل زفاف بالإسكندرية    تحرير 93 مخالفة تموينية بالمنيا    البنك المركزى الأوروبى يبقى معدلات الفائدة دون تغيير    الصحة تشارك في المؤتمر الدولي السابع عشر لمناظير المخ والعمود الفقري    ماكرون وزوجته يرفعان دعوى تشهير ضد المؤثرة الأمريكية كانديس أوينز    الداخلية تضبط طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء بين سائقي توك توك في العمرانية    بسبب السرعة الزائدة.. مصرع عامل ديلفري إثر انقلاب دراجته النارية بالتجمع الخامس    اليوم.. عروض لفرق الشرقية والموسيقى العربية بالعلمين ضمن صيف بلدنا    إيهاب توفيق والموسيقى العربية في افتتاح صيف الأوبرا 2025 باستاد الإسكندرية    إقبال جماهيري على فعاليات "المواطنة" بالمنيا.. "الثقافة" تُضيء القرى برسائل الوعي والانتماء    طور سيناء تطلق سوق اليوم الواحد بتخفيضات تصل 25% لتخفيف العبء عن المواطنين    المشاط تدعو الشركات السويسرية للاستفادة من آلية ضمانات الاستثمار الأوروبية لزيادة استثماراتها في مصر    الشباب والرياضة تتلقى الاستقالة المسببة من نائب رئيس وأمين صندوق اتحاد تنس الطاولة    «جمال الدين» يستعرض إمكانات «اقتصادية قناة السويس» أمام مجتمع الأعمال بمقاطعة تشجيانغ    لطلاب الثانوية العامة والأزهرية.. شروط قبول بالأكاديمية العسكرية المصرية (إنفوجراف)    المجلس الأعلى للإعلام يوافق على 21 ترخيصًا جديدًا لمواقع إلكترونية    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    بدء التشغيل الكلي لمجمع المواقف الجديد في بني سويف    قبل 150 يومًا من انطلاق "كان 2025".. الفراعنة ملوك الأرقام القياسية    بقيمة 227 مليون جنيه.. «صحة المنوفية» تكشف حصاد العلاج على نفقة الدولة خلال 6 أشهر    سيدة على مشارف ال80 عاما تغادر محطة الأمية في قطار التضامن «لا أمية مع تكافل»    نتيجة الثانوية الأزهرية بمحافظة كفر الشيخ.. رابط مباشر    انفجار لغم يشعل صراعا بين كمبوديا وتايلاند.. اشتباكات حدودية وغارات جوية    وزير الري يتابع جاهزية المنظومة المائية خلال موسم أقصى الاحتياجات    بنسخ خارجية لمختلف المواد.. ضبط مكتبة بدون ترخيص في الظاهر    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    جامعة قناة السويس تُعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني وتُقرّ دعمًا للطلاب    «خدمة المجتمع» بجامعة القاهرة يناقش التكامل بين الدور الأكاديمى والمجتمعى والبيئي    شهدت التحول من الوثنية إلى المسيحية.. الكشف عن بقايا المدينة السكنية الرئيسية بالخارجة    3 أفلام ل محمد حفظي ضمن الاختيارات الرسمية للدورة ال 82 لمهرجان فينيسيا (تفاصيل)    نقابة المهن السينمائية تشيد بمسلسل "فات الميعاد"    معسكر كشفي ناجح لطلاب "الإسماعيلية الأهلية" بجامعة قناة السويس    عمرو الورداني: النجاح ليس ورقة نتيجة بل رحلة ممتدة نحو الفلاح الحقيقي    لو لقيت حاجة اقعدها وقت قد ايه لحين التصرف لنفسي فيها؟.. أمين الفتوى يجيب    علي جمعة يوضح معنى قوله تعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    "مدبولي" يؤكد أهمية بناء الوعي في تشييد حائط صد ضد نمو الشائعات    "الجبهة الوطنية" يعقد أول لقاء جماهيري بالإسماعيلية لدعم مرشحته داليا سعد في انتخابات الشيوخ    713 ألف خدمة طبية قدمتها مبادرة «100 يوم صحة» خلال أسبوعها الأول في القليوبية    تفاصيل عملية دهس قرب بيت ليد.. تسعة مصابين واستنفار إسرائيلي واسع    الإسكندرية تحتفل بتاريخها.. في "يوم وداع الملك"    «كتالوج»... الأبوة والأمومة    مدنية الأحكام وتفاعلها مجتمعيًّا وسياسيًّا    أعراض برد الصيف وأسبابه ومخاطره وطرق الوقاية منه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأسيس جيل النصر .. نور الدين زنكي نموذجا
نشر في الشعب يوم 06 - 03 - 2012

تعودنا أن تقف الأمة عند مفاصل التاريخ العظيمة، ولحظات الانتصار أو الانكسار الحاسمة، لتملأ ماضغيها فخرًا عند الأولى، وتملأ الدنيا صريخًا وعويلاً عند الثانية.
لم نتعود بما يكفي أن نبحث عن الأسباب، عن المياه العذبة التي غذت الثمرة الناضجة، أو عن السوس الذي نخر جذع الشجرة الوارفة فسقطت.
لقد عانت القضية الفلسطينية من المشكلة ذاتها.. منذ خمسة قرون والأمة في عامتها لا تعرف إلا صلاح الدين وفتحه لبيت المقدس، وكلما ذكرت فلسطين ذُكر صلاح الدين، بل كلما دعا داعي فلسطين للجهاد والبذل تمتم العجزة: رحم الله صلاح الدين.. لو خرج فينا اليوم صلاح، لقادنا إلى النصر!!
وهذا وهمٌ، فقد كان صلاح الدين الثمرة.. فهل هناك ثمرة بدون شجرة؟ وهل هناك شجرة بدون جذور؟ وهل تنبت الجذور إلا من بذرة؟
فمن الذي ألقى بذرة الشجرة؟ ومن الذين تعهدها بالسقي والرعاية حتى أثمرت صلاح الدين؟
إن صلاح الدين لم يأت فجأة، لم ينزل معجزة من السماء، ولا كان ملكًا مرسلاً، فرد جناحيه على الأمة فانقادت إلى النصر، وحررت بيت المقدس.
من قبل صلاح.. كان هناك ألف صلاح.. بل ألف رجل أعظم قدرًا وأجل أثرًا من صلاح. وحسبي أن أقف اليوم مع واحد من هؤلاء الذين مهدوا لصلاح الدين الأيوبي.
مع رجل كان هو الذي هيأ -بإذن الله- كل شيء لصلاح الدين. مع البطل العملاق الذي أسس جيل النصر الذي قاده صلاح الدين إلى فلسطين.
من هو هذا الرجل؟ وكيف أسس جيل النصر؟ وكيف هيأ الأمور ليقود صلاح الدين الأمة إلى النصر؟ وما هي الخطوات التي اتبعها؟ كيف خطط؟ ماذا عمل؟ على أي سياسة سار؟
هذا ما نريد معرفته اليوم..
إنّه نور الدين زنكي.. القائدُ الفذُّ الذي مهَّد لصلاح الدين الطريق.
والمتأمل في سيرة نور الدين يجدُ أنّه شَرَع السبيل لفتح القدس عبر أربع تأسيسات مهمة:
التأسيس الأول: تأسيس القيادة النموذج
لقد عمل نور الدين أول ما عمل على أن يصنع للأمة قيادة راشدة تقية تمثلت في شخصه الشريف رحمه الله، فجمع الدين والتقوى والعلم والشجاعة والبصر بالقتال وفنونه.
اسمعوا ما يقوله ابن الأثير: "طالعت السير، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا للعدل، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، لقد طلبت منه زوجته، فأعطاها ثلاثة دكاكين فاستقلتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وكان يتهجد كثيرًا"[1].
قال الذهبي: "وكان نور الدين مليح الخط كثير المطالعة يصلي في جماعة ويصوم ويتلو ويسبح، ويتحرى في القوت ويتجنب الكِبر، ويتشبه بالعلماء الأخيار.. وكلُّ من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره، حكى مَن صحبه سفرًا وحضرًا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في هجره"[2].
وقال الموفق عبد اللطيف: "كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارة ويعمل أغلافًا تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف"[3].
وكان ذكيًّا ألمعيًّا فطنًا لا تشتبه عليه الأحوال، ولا يتبهرج عليه الرجال.
وكان ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل، فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر، كما كان كثير الصيام.
وجاءه التشريف من الخليفة العباسي بأن يدعى له على المنابر على هذا الوجه: "اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط نور الدين وعدته، ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها.. سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين، منصف المظلوم من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين"، فألغى ذلك كله، واكتفى بدعاء واحد هو: اللهم أصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي!!.
التأسيس الثاني: تأسيس الوحدة النموذج
لقد حرص نور الدين على تحقيق أكبر قدر من الوحدة الإسلامية دون أن يريق دماء المسلمين، فقد كان شديد الحفاظ عليها، وكان يقول: لا حاجة لقتل المسلمين بعضهم بعضًا، وأنا أوفرهم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين.
وكانت الإمارات -لما عرف عنه من دين وحزم- تفرح بالانضمام إليه، وتسر بالدخول تحت حكمه.
ضمَّ نور الدين حمص ودمشق وتوالت سيطرته على مدن وقلاع الشام حتى خضع معظمها له دون إراقة دماء، ثم تابع جهوده حتى تمكن من السيطرة على مصر التي كانت بيد الفاطميين، وطوق بذلك فلسطين التي كان يستولي عليها الصليبيون، وحقق بذلك وحدة طوقية رائعة كان لها أكبر الأثر في تحرير فلسطين. ثم تمكن بعد ذلك من ضم الموصل والمناطق التي تتبعها إلى حكمه، ثم ضم اليمن إلى حكمه، وبذلك امتدت الجبهة الإسلامية المتحدة من العراق إلى الشام فمصر واليمن؛ مما أنذر بقرب القضاء على الصليبيين.
ومن حرص نور الدين على وحدة الأمة أنه لم يستقل بدولته عن خليفة المسلمين، بل كان يعلن نفسه أميرًا تابعًا للخليفة العباسي في بغداد، ولما فتح مصر أسقط الخلافة الفاطمية، ودعا في المنابر للخليفة العباسي المستضيء.
التأسيس الثالث: تأسيس المجتمع المسلم
حيث حرص على تطبيق أحكام الشريعة، ورفع المظالم، وإنصاف الناس، وكان يقول: حرام على كل من صحبني ألا يرفع قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ.
ومن فقهه أنه لما كثرت غزواته، قال له بعض مستشاريه: لو أخذت بعضًا من الأموال المرصودة للفقراء والمساكين، وجعلتها في مصارف الجهاد. فقال رحمه الله: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات أقوام يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ؟! وهؤلاء لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه إلى غيرهم؟!".
كما حرص على البناء الإيماني التربوي والثقافي للجيل المسلم، فاستقدم العلماء العاملين، وأفسح لهم مجال العمل والدعوة، وسعى في بناء المدارس والمساجد، وحارب البدع والأضاليل، وأحيا سمت احترام العلماء وتوقيرهم، وكان يقول عن العلماء: إنهم جند الله، وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإن رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا. وفي زمانه صارت بلاد الشام مقرًّا للعلماء والفقهاء.
وكان يقول: "إنّ البلخي -وهو أحد العلماء- إذا قال لي: يا محمود، قامت كل شعرة في جسدي هيبة له، ويرقّ قلبي"!!
كما اعتنى بالإعمار والبناء الحضاري والاجتماعي؛ لأنه أدرك أن مجتمعًا مفكك الأوصال متخلف الحضارة لا يمكن أن يصنع نصرًا؛ ولذلك عمل على كفالة الأيتام وتزويج الأرامل وإغناء الفقراء، وبناء المستشفيات والملاجئ، ودور الأيتام، والأسواق، والحمامات، والطرق العامة، وتوطين البدو، وإقطاعهم الأراضي.
كما رتب الزكاة ونظم جبايتها وتوزيعها وفق الأسس الشرعية، وشجع التجارة بتأمين المواصلات، ورفع الضرائب التي تثقل حركة التجارة.
وبذلك كله أسس مجتمعًا إسلاميًّا راقيًا؛ دينًا، وحضارةً، وأخلاقًا.
التأسيس الرابع: تأسيس الروح الجهادية
"لقد سعى نور الدين في إحياء المعاني الجهادية في النفوس وتربية الأمة على معانيها، وتكريس عزة المسلمين ومنعتهم وقوتهم، وبذل الجهد في توفير العدة والعتاد، وحماية المدن، وبناء الأسوار والحفاظ على أرواح المسلمين، وكان يشجع ألعاب الخيل التي تعود على الكر والفر.
وكانت معاركه الفعلية، وحروبه التي خاضها ضد النصارى من أكبر ما أحيا روح الجهاد في الأمة.
فخلال فترة حكمة التي استمرت ثمانية وعشرين عامًا لم تتوقف معاركه مع الصليبيين مطلقًا -وقد تمكن من تحرير منطقة الرها وأنطاكية- كما أسهم في تحطيم الحملة الصليبية الثانية. وكان انتصاره الأعظم في تل حارم تاجًا يتلألأ على جبينه رحمه الله، فقد استطاع في تلك المعركة الكبرى أن يقتل عشرة آلاف صليبي، وأن يأسر عشرة آلاف، وكان من بين الأسرى أمير أنطاكية وأمير طرابلس وحاكم قلقيلية.
هكذا هيأ نور الدين كل شيء لقطف الثمرة وهي تحرير المسجد الأقصى.. وقد كان على وشك قطفها، فإنه في عام 569ه أعدَّ العُدَّة للهجوم النهائي على بيت المقدس لتحريره من الصليبيين، حتى إنه قد جهز منبرًا جديدًا رائعًا للمسجد الأقصى يوضع فيه بعد الانتصار على الصليبيين.. ولكن المنية عاجلته فتوفي عام 570ه.
وهكذا أصبح الطريق معبدًا أمام خليفته صلاح الدين؛ ليقطف الثمرة، وينال شرف تحرير الأقصى.. وتم له ذلك عام 584ه عقب معركة حطين.
لقد استمر إعداد نور الدين ثمانية وعشرين عامًا، واستطاع صلاح الدين أن يقطف الثمرة خلال أربعة عشر عامًا.
لقد كان الإعداد أطول بكثير من قطف الثمرة..
وهذه سنة الله في كونه..
فهل لنا عظةٌ وعبرة؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.