جاء رد "اسرائيل"العاجل على توقيع اتفاق مكة، باستفزاز الفلسطينيين في المسجد الأقصى، وهو أمر ليس بجديد، لكن له أكثر من معنى في هذا الوقت تحديداً. ومن تلك المعاني لفت نظر الشارع العربي والعالمي على تأكيد " اسرائيل" بأنها صاحبة السيادة الحقيقية على الأرض الفلسطينية بأكملها، وأن موضوع القدس غير قابل للتفاوض، وأنها قادرة على عرقلة أي اتفاق فلسطيني- فلسطيني، خاصة بعد أن اتضح لأولمرت أن هناك عجزاً واضحاً عن إنهاء المقاومة في غزة، والتي يظن الكثيرون أنها مقتصرة على حماس، مع عدم إنكار أن حماس هي قوة المواجهة المتكافئة مع القوة الأخرى المعنية بالاقتتال الداخلي. كان لا بد من إرسال رسالة واضحة ومباشرة، أن "اسرائيل" غير معنية بأي اتفاقية أو وفاق، خاصة فيما يخص مدينة القدس وحق العودة والانسحاب من أراضي احتلتها عام 1967، وتنتهج سياسة المناورة والوقت، وليست جادة بتحركاتها الدبلوماسية لخيار يهدأ من حدة الصراع .
إذن من المفترض، أن يدرك العالم العربي، أن المبادرة العربية، لم ولن تجد أي صدى إيجابي لا من الرباعية ولا من صاحبة النجمة السداسية، وهي كسابقاتها مبادرات أو اتفاقيات لم تحرك قيد أنملة، وعلينا أن ننتظر مبادرة صهيونية، ليعرف العالم أن "اسرائيل" ليست معنية لا بحق الفلسطينيين ولا بأي قانون دولي، وإلا لما قام الكيان أساساً.
توقيع اتفاق مكةالمكرمة، ما زال غير قابل للتحليل ومعرفة مدى فعاليته على الأرض، وكان الاحتفال مجرد طقوس دبلوماسية، ويبقى الحسم والحكم للشعب على الأرض الفلسطينية. كان الاتفاق أشبه بحفل، إرضاءً وإكراماً لعاهل المملكة العربية السعودية وللمكان المقدس،على أمل فك الحصار، وهو الحاجة الملحة التي دفع بالطرفين إلى الاجتماع للمرة الثالثة. أما تحريم الدم الفلسطيني، فلم يكن بحاجة لصياغة بيان لتحريمه، وإنما بمواجهة الأسباب الحقيقية وراء ما حدث، لا بابتزاز جديد وبشرط الاتفاق على الاتفاق!، دون القضاء على المسببات المعرقلة للوفاق الوطني.فالتعبئة الجماهيرية التي شاركت فيها المواقع الفلسطينية على الشبكة المعلوماتية خاصة،والاعلام المرئي العربي بشكل عام، ساهمت على تصعيد الاحتقان والاحتكام للسلاح على أرض غزة، وذلك بتحديد الجهة التي تسعى فعلياً إلى القضاء على المقاومة، كغاية، وبوسائل كشف النقاب عنها أكثر من مرة، واختفت مظاهر الاقتتال،دون أن تنتهي أسبابه.
الوقت ما زال مبكراً، للحكم على الاتفاق الوطني المبرم في مكة، ولم تعلن تفاصيل دقيقة عن كيفية التعامل مع الجهات المؤججة، ووضع قواعد وأسس تضبط المنفلتين من السرب الوطني،وإعادة تشكيل الهيئات والمؤسسات الفلسطينية على أساس المصلحة الفلسطينية وثوابت الشعب أولاً وأخيراً.
المسألة ليست حكومة وسلطة وكراسي ومناصب، فهي بأكملها منقوصة السيادة والقرار، بل بوجود أخطاء قاتلة لم يتم الفصل فيها، وستؤدي إلى مزيد من التهاوي الفلسطيني، فما زالت أسس القبول بأوسلو والاتفاقيات اللاحقة لها، وتعطيل منظمة التحرير بشكل متعمد، هي المسائلة الأكثر خطراً وتعقيداً في الشأن الفلسطيني الداخلي. وما دام يتبناها تيار قاد المفاوضات من غير أمل مرجو بتحقيق ولو خطوة إيجابية، تحد من التوسع الاستيطاني ووقف انتهاكات صارخة بتهويد مدينة القدس وإضعاف بنية المسجد الأقصى، سنعود دائماً إلى نفس النقطة من الخلاف، وسيستمر وجود رأسين متناقضين في السلطة الفلسطينية المحلية، والحل الجذري غائب في ظل عدم آهلية ونزاهة واستقلالية أي كادر في السلطة،كالقضاء والأجهزة الأمنية والإعلام الفلسطيني، وكله سيتبع الرئاسة، ولن يجدوا سبيلاً إلى غير ذلك، استناداً إلى المركزية الرئاسية وتوجهها بشكل عام.
في لقاء مكة، لا حماس انصاعت للمطالب الدولية، والخوف أن تنزلق إلى ذلك المنعطف تدريجياً، الذي سيقضي عليها كحركة مقاومة،ولا الرئيس وحاشيته غيروا برنامجهم القائم على الاعتراف ب"اسرائيل". وقد يكون اجتماع مكة تسجيل نقاط مرحلي تحرزه حماس السياسية، وما دعت له منذ نجاحها في الانتخابات من ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية، وحازت على غطاء ودعم عربي، على أنه المعول عليه قبل أي دعم دولة أجنبية، وهو قابل لتغيير المواقف، حسب رغبة ما يسمى الشرعية الدولية. وفي المقابل لم يطرأ أي تغيير على قرارات الرئاسة في المفاوضات، خاصة أن هناك اجتماعا ثلاثيا قريباً، ولم يتم عزل أو محاسبة أي ٍ من مرتكبي الحماقات السابقة من قتل وخطف في غزة والضفة، وبقيت الأسباب والمسببات عائمة غير محددة ولا مسيطر عليها.
الخلاف الجوهري من مواجهة فساد ونهج أوسلو والمحاولات المستمرة بالقضاء على المقاومة، تفرض بقوة تصعيد الخلافات بين الفينة والأخرى، وكل العلاجات المؤقتة دون المساس بالخلل الأساسي ولب العلة، هو تخدير موضعي، تتبع ظروفاً إقليمية ودولية ليس إلا. وبغياب برنامج سياسي موحد، توجه البوصلة السياسية الفلسطينية إلى القبلة الصحيحة، سيبقى الاتكاء قائماً على حل مرحلي لأزمات متتالية، وستواجه القيادة برأسين، أموراً داخلية تعيدنا دائماً إلى مربع الصفر...