شهر شعبان هو شهر كريم مبارك أظلنا عن قريب ، فأهاج مشاعر الهداية والإيمان، وهتف بنا إلى الطاعة والعبادة والإحسان ، فهو تقدمة لشهر رمضان المبارك، وتمرين للأمة الإسلامية على الصيام والقيام وصالح الأعمال؛ حتى يذوقوا لذة القرب من الله تعالى، ويستطعموا حلاوة الإيمان، فإذا أقبل عليهم شهر رمضان أقبلوا عليه بهمة عالية، ونفس مشتاقة، وانكبوا على الطاعة، وانعكفوا على العبادة. شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يهبها الله لأمة محمد؛ فإن لله في أيام دهره لنفحات يتفضل بها على عباده بالطاعات والقربات، ويتكرم بها عليهم بما يعدُّه لهم من أثر تلك العبادات، ومن تلك الأشهر شهر شعبان، وهو هديةٌ من هدايا رب العالمين إلى عباده الصالحين، فمن قبلها غنم، ومن ردها ندم. شهر شعبان تُرفع فيه الأعمال إلى الله تعالى؛ فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَال: قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ، لمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَال: "ذَلكَ شَهْرٌ يَغْفُل النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِم". ففي هذا الشهر يتكرم الله على عباده بمنحتين عظيمتين؛ الأولى عرض الأعمال عليه ، وبالتالي قبوله ما شاء منها، والثانية مغفرة الذنوب للعباد من عنده تكرمًا وتفضلاً ، وقد أشار النبي الكريم إلى أن شهر شعبان هو الشهر الذي يغفل الناس عن العبادة فيه؛ نظرًا لوقوعه بين شهرين عظيمين؛ هما: رجب الحرام، ورمضان المعظم. يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان -الشهر الحرام وشهر الصيام- اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان؛ لأن رجب شهر حرام، وليس كذلك ، وفي الحديث السابق إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه. شهر شعبان شهر يغفل الناس عنه وترفع فيه الأعمال ، فقد روى الترمذي والنسائي عن أسامة بن زيد، قَال: قُلتُ: يا رسول الله، لمْ أرَكَ تصوم شهْرًا من الشهور ما تصوم مِنْ شعْبان. قال: "ذلك شهْرٌ يغْفُل الناس عنْه بيْن رجب ورمضان، وهو شهْرٌ تُرْفَع فيه الأعْمال إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أنْ يرْفعَ عملي وأنا صائمٌ". وكذلك فإن العمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس؛ لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهل، وإذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين؛ فعن معقل بن يسار: "العبادة في الهرج كالهجرة إليَّ" أي: العبادة في زمن الفتنة؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم، فيكون المتمسك يقوم بعمل شاق. وفيه دليل على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة. ومثل هذا استحباب ذكر الله تعالى في السوق؛ لأنه ذكْر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة، وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها: أن يكون أخفى للعمل، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام؛ فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل إنه ليس فيه رياء. ولما كان الناس يشتغلون بغير شعبان عن شعبان، فإن النبي كان يعمره بالطاعة وبالصيام؛ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله r يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان" ، وقد رجح طائفة من العلماء -منهم ابن المبارك وغيره- أن النبي r لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره، ويشهد له حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما علمته -تعني النبي - صام شهرًا كله إلا رمضان". وفي رواية لمسلم أيضًا عنها قالت: "ما رأيته صام شهرًا كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان"، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: "ما صام رسول الله شهرًا كاملاً غير رمضان"، وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرًا كاملاً غير رمضان، قال ابن حجر -رحمه الله-: "كان صيامه في شعبان تطوعًا أكثر من صيامه فيما سواه، وكان يصوم معظم شعبان".