يحرص المجلس العسكري الذي يدير شؤون مصر حاليا على الالتزام، قد الاستطاعة، بما اعلنه في فبراير الماضي من تسليم السلطة في نهاية فترة انتقالية قصيرة. ورغم ان التصريحات الاولية عن اجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في سبتمبر تم تجاوزها الا ان المجلس لا يريد ان يمر سبتمبر دون حتى ولو الاعلان عن موعد الانتخابات البرلمانية قبل نهاية العام. اما وقد انتهت الفترة الانتقالية الاصلية بعد اكثر من نصف عام على الانتفاضة الشعبية التي اطاحت بالرئيس السابق وعائلته وبعض حاسيته من الحكم، فمن المهم قراءة النتائج العملية التي ترسبت في اطار الاصلاح والتغيير في مصر: • المجلس العسكري قام بدوره المرسوم حسب الدستور وهو حماية شرعية النظام. بغض النظر عن ان مبارك كلفه "ادارة شؤون البلاد" او انه ضغط على مبارك ليترك السلطة، فقد كان ذلك ايضا شرطا اساسيا لحماية استمرار النظام الذي تركه السادات لمبارك ولا يزال يحكم مصر الى الان وحتى اشعار اخر. ولعل اعادة نظر غير انفعالية في ايام الانتفاضة (من 25 يناير الى 11 فبراير) تجعلنا ندرك الان بوضوح ان المجلس العسكري استنفد كل فرص الحفاظ على النظام حتى بوجود مبارك (اعلانه عدم توريثه الحكم لابنه ثم تعيين عمر سليمان نائبا وتكليف احمد شفيق تشكيل الوزارة وتقليص صلاحيات صفوت الشريف ... الخ) قبل ان يجبره على ترك السلطة بهدف الحفاظ على النظام. • صحيح ان القوات المسلحة لم تدخل في صدام مع المتظاهرين (خاصة بعدما التفت الناس العادية حول نواة الانتفاضة من الشباب)، لكن ذلك لم يكن حماية لقوى التغيير اكثر منه حرصا على سلامة "النظام". ولا شك ان تقدير المجلس العسكري كان منصبا على ما يمكن ان يحدث للمؤسسة العسكرية لو طلب من قواتها التصدي للجماهير وفي حالة احتمال اي ضرر لسلامة المؤسسة العسكرية لا يمكن لقيادتها الا ان تعمل على حمايتها من ذلك، فالمؤسسة العسكرية هي العمود الفقري للنظام. اما الضرر فكان احتماله ان تهتز ثقة القوات في مهمتها التي هي الدفاع عن الوطن ضد الاعداء، وبما ان الجماهير هي في النهاية ابناء واخوة واهل ضباط الجيش وجنوده فلا يمكن ان يكونوا اعداء الوطن. • كان الامر مختلفا مع اجهزة الامن، التي فقدت صلتها بالناس وارتبطت اكثر بالنظام ومحيطه من قوى فجة تمثلت في اثرياء جدد بالنصب والسرقة والفساد وشريحة صغيرة من مواليهم ممن يقراون ويكتبون ويتصدرون مشهد الاعلام وما يسمى السياسة. لذلك انهار الامن وبدأ في اجراءات انتقامية فورية باطلاق البلطجية والمسجلين خطر اجرام على المواطنين لترويعهم، ليس حرصا على نظام مبارك وانما كرد فعل اهوج على فقدانهم لميزاتهم. وهذا تصرف مفهوم في ظل نظام انفصل تماما عن جماهيره واصبح الامن فيه هو السلطة الوحيدة على الناس، وبالطبع لا يمكن ان تعود الشرطة كما كانت مهما ارتكبت من اعمال انتقامية لم تتوقف عنها حتى هذه اللحظة، وفي مقدمتها عدم القيام بدورها بحجة ان الناس لا تقبلها ولا تنصاع لها. • ليس صحيحا، كما يقول بعض المتحمسين من شباب الانتفاضة، ان المجلس العسكري اختصر الانتفاضة في ازاحة جمال مبارك وامه من طريق السلطة، فلا شك ان المجلس العسكري ما كان ليسمح بتوريث السلطة في مصر، حتى وان كان لغير الاسباب التي يسوقها المعترضون على التوريث في السنوات الاخيرة. فصلب النظام منذ اكثر من نصف قرن هو ان تدعمه المؤسسة العسكرية، واي توريث كان لجمال او غيره كان خروجا على تلك القاعدة ويعني عمليا "تغيير النظام"، وهذا ما لم يكن ليحدث ولا شك انه كانت هناك ترتيبات للحيلولة دونه. وانما عجل انتفاض الناس ضد مبارك وحاشيته الفجة ليعجل بالامر فاربك كثير من الترتيبات. • ليس صحيحا ايضا، كما يقول البعض ومنهم انتهازيون مشكلتهم انهم لم يجدوا فرصة ما كانوا يطمحون اليها ولم تتكن لتتوفر لهم في وجود مبارك واحمد عز وصفوت الشريف والهانم الان في مصر، ان السلطة الانتقالية تعيد انتاج النظام. فالنظام في الواقع "جدد نفسه" في مواجهة تطور طارئ لذا جاء التجديد حتى بعيدا عن الاصلاح. ولهذا نرى بسرعة ممارسات قديمة مستمرة من اعتقالات ومحاكمات استثنائية وغيرها، خاصة لنواة الشباب الاساسية التي يمكن ان تفاجئ الجميع باي تطور جديد لا يمكن استدراكه لحماية النظام. • رغم عدم الخبرة السياسية للمجلس العسكري الا ان تطورات الفترة الانتقالية تشير الى ان الخواء السياسي والمؤسسي جعل من السهل ادارة التلك الفترة للوصول الى اقرب ما يكون من وضع العربة على ذات الطريق ثانية. فباستثناء النواة الصلبة للانتفاضة، لم تتغير طريقة تعامل ما تبقى من نخبة مبارك مع القيادة الجديدة عما سبق وان تشجعت قليلا بحدث الانتفاضة في السعي لتحقيق مكاسبها وظلت السمة الاساسية هي السعي للعمل تحت امرة قيادة دون المبادرة بالفعل. وتلك هي السوءة الاساسية للنظام منذ ايام 1952 ان هناك قيادة تحدد مصير البلاد والعباد، واقصى اشراك للناس هو استشارة بعض القيادات ممن يعرفون في مجالهم او يوثق بهم شخصيا وامنيا. • وهكذا، تم الحفاظ على الاعلام الامني (الخاص قبل الحكومي) وعدم التوسع في محاسبة الفاسدين سياسيا واداريا وماليا. اما احالة مبارك وابنه وبعض رجاله المقربين الى المحاكم، وان كان تم بضغط شعبي لكنه ايضا حماية للنظام خاصة وانهم يحاكمون بقوانين النظام وفي ظل سلطات النظام. وتغيرت طريقة التعامل مع القوة السياسية المنظمة (الاخوان) التي كانت تعمل مع النظام السابق بطريقة امنية الى شكل جديد دون المساس بجوهر النظام. اما بقية الرموز التي كانت تعارض زمن مبارك اما في اطار صراعات اجنحته او بغية مكسب ما فيتم التعامل معها بطريقة اقرب الى ما كان عليه الوضع فهذا في النهاية ما تستحقه وما يليق بها. وبقيت اشكالية اعادة قوى الامن ومباحث امن الدولة الى مكانها او اقرب ما يكون اليه وهذا ما استلزم تفعيل قوانين الطوارئ مؤخرا. اما الكتلة الصلبة من شباب التغيير فيجري تشويهها منذ اليوم الاول للفترة الانتقالية وبدأت مؤخرا عمليات اعتقال ومحاكمات استثنائية لكسرها وتفتيتتها. • الرهان الاساسي في كل ذلك على ان ما يجري لا يتجاوز دائرة لا تزيد نسبتها في المئة من الشعب المصري عن عدد اصابع اليد الواحدة. ومعنى ذلك ان عشرات الملايين من المصريين لا يريدون سوى الاستقرار في ظل قيادة معتدلة يطالبونها بتحسين بعض الاوضاع المعيشية. وذلك هو الركن الثاني للنظام بعد دعم المؤسسة العسكرية. واذا كان هذا ايضا هو رهان من يريدون التغيير ان يزيد وعي الجماهير العادية لتطالب بكرامة وحرية وعدالة اجتماعية فان الكفة حتى الان هي لصالح النظام. وان كانت الانتفاضة احدثت تغييرا في المصريين، فلربما من الافضل العمل على استثمار ذلك وتعزيزه وزيادة انتشاره بين الجماهير بغير الاساليب التقليدية والقديمة التي تعمل ذاتيا لصالح استمرار الوضع الراهن لا تغييره. في ضوء ما سبق، لا يتوقع ان تسفر الانتخابات المقبلة عن نتائج حاسمة على طريق التغيير، حتى وان كانت مبشرة ببعض الاصلاح فلن يزيد عن عملية تعزيز لسلامة النظام، بدءا من دستور سيختار مجلس الشعب من يضعه وربما رئيس قادم لن يمكنه الحكم بدون دعم المؤسسة العسكرية وباداة الامن. المشكلة الوحيدة ان استمرار النظام يزيد من فاعلية عوامل ضعفه، حتى مع بعض الاصلاح، وبهذا ربما تصبح القوة (الامن والجيش ورجال الدين كما كان يحكم فرعون مصر دائما وعلى يمينه رئيس العسكر وعلى يساره كبير الكهنة) بلا معنى بعد حين. وتلك هي الكارثة التي املنا جميعا ان تكون الانتفاضة الشعبية جنبت مصر الوصول اليها.