"البحث عن أم كلثوم" فيلم شاهدته منذ أيام ضمن برنامج الدورة الثانية "لأيام القاهرة السينمائية" الذي تنظمه المخرجة والمنتجة ماريان خوري صاحبة مشروع "سينما زاوية" المتخصصة في عروض الأفلام المهمة التي لا تحظي بالتوزيع "التجاري" في مصر. وهي أيضا المؤسسة لمهرجان "بانوراما السينما الأوروبية" الذي اكتسب قوة ومساحة مشهودة ثقافية وفنية وسط المهتمين بالفيلم كأداة للتعبير عن أفكار ورؤي وقضايا ذاتية لا تقليدية. و"البحث عن أم كلثوم" تجربة لمخرجين أمريكيين من أصل إيراني هما: شيرين نشأت وشوجا إزاري. والعنوان يجعل هذا العمل جديراً بالمشاهدة. وإن كان يبدو مضللاً في حقيقة الأمر وبعد أن تكون قد شاهدته وتبين أن "البحث" المزعوم لن يصل بك إلي شيء يخص سيدة الغناء العربي اللهم إلا أجزاء من أغانيها. ليست بصوتها وإنما بصوت آخر مقبول علي أية حال. "أم كلثوم" التي في خاطرك ليست موجودة بالمرة والتي تؤدي دورها في هذا العمل "المسخ" ممثلة مصرية مجتهدة - حسب ما رأيناها في عدد من الأفلام المصرية أهمها "فتاة المصنع" - ولكنها أبعد ما تكون عن أم كلثوم شكلاً وموضوعاً وحضوراً "ياسمين رئيس" وهو الأمر الذي يدمر عنصر الإيهام. كأحد العناصر المهمة جداً في صناعة الترفيه المرئي. ولو وضعنا باقي العناصر البصرية في هذه التجربة "مواقع التصوير. مشاهد الجمهور. الشخصيات "المصرية" التي ظهرت ضمن فريق الإخراج داخل الفيلم. واضفنا العناصر المسموعة في لغة الحوار. لو حسبنا هذه الأمور وتأثيرها في عملية "التلقي" أعني استقبال الفيلم في عرضه المصري ووسط جمهور القاهرة المعتاد وليس فقط جمهور "سينما زاوية" المثقف إذن لتخيلنا حجم الفشل الكبير الذي سيواجهه لو أن العرض كله تجارياً عادياً. تجربة ذاتية ولكن هذا لا ينفي أن التجربة تستحق التقييم وبالذات لو وضعنا في الاعتبار أن صانعة الفيلم تجد في تجربة أم كلثوم بعض التشابه مع تجربتها الذاتية ومن وجهة نظرها كمخرجة وباحثة ومهمومة بوضع المرأة في العالم الإسلامي دون اعتبار أن هذا العالم ليس كتلة ولا ثقافة واحدة ولا ظروف اجتماعية أو تاريخية واحدة أيضا ولكنه التفكير النظري المضلل الذي يفرز تجربة بعيدة كل البعد عن الدقة المهنية والعلمية التي تميز البحث. وقبل أن أسرح طويلاً. أذكر في هذا السياق فيلماً أمريكياً آخر عن "أم كلثوم" لمخرجة أمريكية أعتقد أنها يهودية لا مسلمة أو من بلد مسلم مثل "شيرين نشأت" إنها "مشيل جولدمان" التي قدمت عملاً تسجيلياً دقيقاً وجميلاً ومؤثراً يكشف عن الجهد والإخلاص لسيرة امرأة مثلت إلهاماً عظيماً لبلدها وللأمة العربية. وكيف اختارت لدور الراوي ممثلاً مصرياً عالمياً هو "عمر الشريف".. وجمعت مادتها العلمية من مصادر عدة وتعلمت العربية حتي تفهم جانباً من الثقافة الثرية التي شكلت وجدان أم كلثوم وعقلها ثم أتت بمن يفسر لها الأغاني العربية البليغة التي شدت بها. ووصلت بالمتفرج في أي مكان يعرض فيه الفيلم إلي الاقتناع بموضوعية بأم كلثوم كقوة سياسية مؤثرة يتقرب منها الزعماء والرؤساء. وكيف أصبحت واحدة من أقوي الأسلحة الناعمة. وقد عرض هذا الفيلم في مهرجانات عديدة وفي الولاياتالمتحدة بعنوانه الواضح الدال "أم كلثوم.. صوت يشبه مصر" وبمضمونه الذي يعيد اكتشاف هذه المرأة التي خرجت من الريف إلي العاصمة ثم إلي الدول العربية فالعالم كله. ومن خلاله صورت المخرجة "جولدمان" العلاقة المذهلة بين المطربة والجمهور الذي عشقها ومازال ويضع صورها في القلب وليس فقط علي الجدران. ومؤلفة الفيلم الذي تم إنتاجه عام 1996 هي فرجينيا دانييلسون حاصلة علي الدكتوراه في "أم كلثوم". مأزق مخرجة أما المخرجة الإيرانية صاحبة مشروع "البحث عن أم كلثوم" فلا تعرف العربية ولا معني الأغاني التي كتبها شعراء خالدون الأمر الذي يشكل مأزقاً آخر بالنسبة إلي مخرجة تبحث عن أرضية مشتركة بينها وبين "أم كلثوم". فكيف يتم ذلك وهي تجهل أهم العناصر في البنية العقلية والعاطفية لهذه المرأة الاسطورة. إن المقارنة ظالمة لكنها هي من اختار سيرة "أم كلثوم" لعمل إسقاط علي حياة "المرأة" في مجتمع محافظ ومتطرف لا يؤمن بحقها. والواضح أنها لم تتحقق في بحثها عن الملامح الثقافية التي أحاطت "بأم كلثوم". ومن خلال الملامح استنارة الجمهور نفسه الذي اعتاد أن يحتل المسرح الذي تؤدي فيه حفلاتها الغنائية وبلاغة اللغة الشعرية التي حفظها هذا الجمهور وذلك قبل ظهور "الدواعش". المخرجة التي ظهرت في الفيلم والتي يفترض أنها تعيش في الولاياتالمتحدة لا تشبه أي امرأة مصرية ولا إيرانية. أنها بهيئتها ولغتها الإنجليزية سيدة حداثية. غربية الهوي والانتماء وقضيتها التي تحاول التعبير عنها مجرد "موضة" طفحت مؤخراً في ثقافة الاستشراق حيث "المرأة في مجتمع شرقي ذكوري مسلم" أحد ميادين البحث. ولكن ليس ما أشرت إليه يمثل المشكلة الوحيدة التي توفر للمتفرج المصري شعوراً بالغربة مع فيلم عن "أم كلثوم" لأننا لم نر شيئاً من حياتها الحقيقية ولا يمكن أن يعتبر هذا عملاً تسجيلياً ولا روائياً ذلك لأن مشكلة هذه التجربة الطموحة والمحبطة أن السيناريو مفكك تماماً. والخيوط لا تتلاقي لأنها مبعثرة. والجانب الذاتي في الحبكة غامض. وأشير إلي ما يخص الحياة المضطربة والشخصية للمخرجة التي تقوم بعمل فيلم عن "أم كلثوم". مادة غير متجانسة المتفرج يفهم حتماً أن هناك مشكلة حول ابنها الذي تركته ومن ثم الزواج أو الحياة الأسرية. ولكن لا شيء من هذا تتم معالجته بوضوح. لذا تبدو المادة الموضوعية غير متجانسة بالإضافة إلي أن الممثلة التي لعبت دور "المخرجة" داخل الفيلم افتقدت المصداقية والقدرة علي الإقناع. وكما قال أحد الممثلين بأنها لا تفقه شيئاً عن "أم كلثوم" إضافة إلي أنها لم تقدم شيئاً عن حياتها. والمخرجة "شيرين" التي تقف وراء هذه التجربة وزميلها الإيراني لا يمثلان السينما الإيرانية التي نعرفها ومنها أسماء كبيرة ولامعة علي خريطة السينما العالمية "عباس كياروستامي. محسن مخبلباف". لقد شبهت المخرجة الأمريكية اليهودية مشيل جولدمان أم كلثوم ب "إلينانور روزفلت" علي مستوي الإعجاب الكاسح الجماهيري ونجاح إلفيس بريسلي بالنسبة للجمهور الغربي وقدمت من خلال فيلمها "أم كلثوم صوت يشبه مصر" الدليل الموثق وبصوت آخر لممثل عالمي مصري. وطاقم من المشاركين المصريين الأقوياء منهم: آمال فهمي ونجيب محفوظ. أهمية العمل رغم ما يثيره من تحفظات أنه يحمل صوت - أم كلثوم - إلي دول العالم الذي عرضت الفيلم ويثير شهية الجمهور "الغريب" الذي قد لا يكون مقدراً لحجم تأثيرها إلي البحث عنها من جديد.