ليلة ولا كل ليالي العمر معها.. أكثر من خمسين عامًا تحت كل سقف ينتقلون إليه من شارع إلي آخر.. فجر ليلة أدت صلاة العشاء ونامت يجدها ملقاة أمام طرقة الحمام الضيقة.. زعق بكل ما أوتي من قدرة في جسده الخالي من القوة.. يقترب من الثمانين عامًا.. ترنو اليه بحنو كل السنوات الماضية.. يحاول رفعها أو إيقافها دون استجابة منها.. تسمعه.. تحدثه.. يأتيها بعصير يرفع رأسها بصعوبة ويصبه في فمها صبًا.. لكن الجسد ملتصق بالأرض دون حراك.. يسألها فتجيب بصوت خفيض.. يومئ لها فتفهم ما يريد.. تغلق جفونها وتفتحها لكن لا حركة في الأطراف.. استعان بأحد الأصدقاء.. طلب سيارة اسعاف.. بالكاد حركوها ورفعوها من مكانها فوق ملاءة من الطابق الخامس.. مستشفي الطوارئ.. يسألهم طبيب الامتياز الذي استقبلها: معاكم ترمومتر؟.. ترمومتر!؟.. اندهش الرجلان ونظر كل منهما للآخر والطبيب يضع راحة كفه علي جبينها.. "لا وقت للتساؤل والاستغراب والدهشة".. انطلق الرجل وصديقه كل في اتجاه يبحثان عن ترمومتر في أرجاء المستشفي.. كل الأطباء مشغولون مع حالات.. لا أحد يسمع أحدًا.. جميع الواقفين منهمكون مع الحالات التي أتوا معها.. خرج الصديق واشتري واحدًا من صيدلية أمام المستشفي.. هاتوا ثلج لتخفيض درجة الحرارة.. تجاوزت الأربعين.. لا يوجد ثلج.. ركض الزوج في الشارع والحارات المتفرعة منه يبحث عن نصف لوح من الثلج.. اشتراه من عصارة قصب بضعف ثمنه لأن الفجر سيؤذن.. في جيبه معاشه الذي قبضه صباح نفس اليوم... لا يتجاوز الألفي جنيه.. مطمئن قليلاً إلي أن ما في جيبه يمكن أن يلبي طلبات شريكة عمره.. شراء دواء سريع مثلاً.. تخيب محاولات الطبيب لانقاذها.. يستعين الطبيب بآخر وآخر.. حالة المرأة صعبة.. وقف الزوج حائرًا تائهًا لا يدري ماذا يفعل.. يصرخ.. يلهث خلف الأطباء.. يستعطف هذا وذاك.. يزعق.. يهذي بكلام غير مفهوم.. قال أحدهم هامسًا في أذنه: خذها إلي مكان به امكانيات يا عم الحاج.. آخذها.. آخذها.. سوف تكتب إقرارًا.. يطلب سيارة اسعاف لتحملها إلي أحد المراكز الطبية الشهيرة القريبة.. بجيبه رجل الاسعاف انه لا ينقل من المستشفيات.. يطلب منه الانتظار حتي يبحث عن أقرب سيارة من المستشفي تسلم حالة علي أن يسلم السائق مقابل البنزين.. يشخشخ جيبه.. يخرج الرجل بها كالمجنون إلي المركز.. الجميع يتسابقون علي وضعها فوق التروللي.. يستقبلونها بكل المودة والترحاب.. يطلبون منه سداد مبلغ مقدم العلاج بالخزينة قبل الدخول إلي غرفة الفحص.. يدفع جزءًا مما في جيبه تحت الحساب.. يدخلونها العناية المركزة.. يلتفون حولها طبيب يدخل دقيقة وآخر يخرج.. الحالة سيئة.. يعلقون لها المحاليل.. يقيسون الضغط والحرارة.. لابد أن تبقي في غرفة العناية عدة أيام.. اطمأن قلبه قليلاً "إذن الحالة شبه مستقرة.. يعود إلي شقته بعد أن طمأنوه ليستريح قليلاً من عناء اليوم.. لم تمض ثلاث أو أربع ساعات بعد أذان الفجر ورن الهاتف.. انتفض واقفًا بعباءة النوم.. نزل من شقته وحيدًا مرعوبًا يتعثر في عباءته علي درج السلم يكاد يسقط من هلعه.. اطمأن علي أن باقي المعاش في جيبه حتي يواجه طلباتهم التي كلما تخيل قيمتها يصيبه دوار حاد.. استقبلته واحدة من الممرضات وأنبأته متصنعة الأسي والمواساة بالخبر الذي قصم ظهره فاستند إلي الحائط ونزل علي ركبتيه لا ينطق وقد تحجرت في مآقيه الدموع.. قدموا اليه أوراقًا.. راحوا يطيبون خاطره ويطبطبون علي ظهره عندما وجدوه وحيدًا.. أخرجوها من الثلاجة.. دفعوها فوق "التروللي" داخل المصعد..أوقفوها أمام باب المستشفي والشمس تضرب الأدمغة أمامها من شدة القيظ.. يقف مذهولاً لا يعرف ماذا يفعل بالجثة أمام الباب.. لا توجد سيارة لنقلها إلي الشقة.. شعر أحدهم بحيرته فقال له إنه يعرف صاحب سيارة مخصصة لنقل الموتي فمد يده بأجرة الاتصال.. دقائق وحضرت السيارة فحدد له السائق أجر نقلها.. وبينما يحملونها لوضعها في السيارة تذكر المسئول ان الرجل لم يذهب إلي خزينة المستشفي لسداد باقي المستحقات عن هذه الليلة.. فهرعوا خلفه واستوقفوه وسحبوا التروللي إلي داخل المستشفي بالجثة الممددة داخل ملاءة.. طالبوه بسداد القيمة فانزعج متسائلاً: مطلوب كام؟.. سبع تلاف جنيه.. كام؟! كام؟!. جحظت عيناه.. تفصد العرق من كل مكان في جسده.. لا يملك هذا المبلغ ولا نصفه ولا ربعه.. دارت به الدنيا.. ليس معه أحد من أقاربه أو جيرانه.. وحتي لو كان أحد منهم معه فلن تجد في حوزته مثل هذا المبلغ ولن يقوم بسداده أحد.. يعرفون أنه لن يستطيع.. الواقفون من أهالي المرضي أو المرافقون يرقبون الموقف.. راحوا يخبطون كفًا بكف.. لا أحد بيده شيء.. حاول بعضهم التدخل مع إدارة المستشفي.. لم يستجب أحد.. راح الواقفون يجمعون أموالاً من جيوبهم قدر ما يستطيعون مقابل أن يتركوا الرجل يأخذ جثة زوجته ويأخذون بطاقته ويعطونه فرصة لتدبير أمره.. قال أحدهم بحدة: لا نستطيع.. هذه هي الأوامر والتعليمات.. طلعوا الجثة من الثلاجة يا رجالة.. انشغل الناس بالبحث عن حل للموضوع والرجل جالس إلي جوار الجثة صامتًا لا ينطق ولا يتحرك.. استدار أحدهم يبحث عن الرجل ليسمعوا منه كلامًا.. أصابهم الذهول.. وجدوا "شبشبه" في الركن الذي كان يجلس فيه.. كان الرجل قد أصابته لوثة ولم يلاحظ ذلك أحد وسط الناس.. ترك المكان في لحظات انشغال الناس وانطلق يجري في الشوارع يبكي ويهذي ويضحك..