في مجتمع خشن كمجتمعنا الغارق في المظاهر الدينية دون أن ينعكس جوهر الدين نفسه علي سلوكياته فإن صاحب الإعاقة يعذب مرتين مرة بإعاقته وهذه يمكن احتمالها والأخري بنظرة المجتمع إليه وطريقة تعامله معه وتلك لا يمكن احتمالها خاصة في مجتمع غلبت عليه الفجاجة والعدوانية وأصبح تعذيب الآخر بدنياً ونفسياً بالنسبة إليه سلوكاً يومياً معتاداً يشعره بالانتصار في ظل هزائمه المتتالية التي يتغافل متعمداً عن المتسبب فيها. ولأن للفن دوراً في تهذيب سلوكياتنا وجعلنا أكثر شفافية وإنسانية فقد التفت المخرج محمد علام بوعي شديد إلي مشكلة ضخمة يعاني منها خمسة ملايين من الصم والبكم في مصرنا المحروسة نعم عدد الصم والبكم في مصر خمسة ملايين وهو رقم مهول ومرعب يعاني أصحابه مشاكل عديدة مثل نظرة المجتمع الدونية لهم وعدم قدرتهم علي التواصل مع الآخرين وعدم حصولهم علي الفرص المناسبة لقدراتهم ومواهبهم مع أن بينهم كثيرين يتمتعون بقدرات ومواهب لا حدود لها. أعترف أنني تعاملت مع عرض "العطر" الذي قدمه محمد علام علي مسرح الطليعة بخفة شديدة واعتقدت قبل مشاهدته أنه مجرد عرض فيه من الدعاية والمباشرة أكثر مما فيه من الفن فما الذي يمكن لعلام كاتب ومخرج العرض أن يقدمه مع فريق يضم نصفه تقريباً ممثلين من الصم والبكم غير مشاهد خفيفة تفتقد الإحكام والانضباط؟ لم أخرج من العرض كما دخلت فقد كنت مأخوذاً ومندهشاً مما شاهدته بكيت وضحكت وخرجت شفافاً ومغسولاً وقلت: منك لله يا محمد يا علام. تعامل محمد علام مع العرض وممثليه بذكاء شديد بدءاً من النص نفسه حيث اعتمد علي تقنية "المسرح داخل المسرح" التي أتاحت له بنية مرنة ومكنته من تقديم عدة مشاهد تبدو غير مترابطة لكنها تصب في النهاية في مسار واحد لتأكيد فكرته وتوصيل رسالته البليغة إلي مشاهدي العرض من صم وبكم أو من أشخاص عاديين. الفكرة بسيطة للغاية فريق تمثيل من الأشخاص العاديين يلتقي بفريق تمثيل من الصم والبكم ويتفق الفريقان علي تقديم عرض مسرحي مشترك. وتتوالي المشاهد المضحكة المبكية التي تعرض لمشاكل الصم والبكم ونظرة المجتمع لهم وتعرض كذلك لإمكاناتهم ومواهبهم وبالتوازي مع ذلك وعبر شاشة السينما في الخلفية نشاهد فيلماً يعرض قصة حب بين شاب عادي وفتاة من الصم والبكم ليصب الفيلم أيضاً في نفس مسار العرض سعياً إلي توصيل الرسالة وتأكيدها وهي أن هؤلاء لا يقلون عن الأشخاص العاديين في شيء وأن لهم مطالب وحقوقاً لابد من الاستجابة إليها. لا أدري كم الوقت والجهد الذي استغرقه محمد علام في تدريب فريق العرض وإحداث هذا الامتزاج المدهش بين هؤلاء وأولئك والخروج ببراعة شديدة من مأزق عدم القدرة علي التواصل مع الجمهور فقد تواصل الجميع في الصالة وأغلبهم من الصم والبكم مع العرض ولم تكن هناك أي مساحة غامضة أو عصية علي الفهم كما أن الكلام المنطوق والكلام المشار إليه تم بسلاسة شديدة ودون هفوات تذكر ودون أي تشويش علي المشاهد سواء كان شخصاً عادياً أو كان من الصم والبكم. لم ينزلق المخرج والكاتب محمد علام إلي سكة الدعائية ليحصل علي تعاطف الجمهور مع هذه الفئة التي تشكل قوة وعدداً لا يستهان به في مجتمعنا. لكنه انحاز للفن فقط وقدم صورة مسرحية نابضة بالحركة والحيوية وحتي في بعض المشاهد التي جنح فيها إلي المباشرة مثل مشهد تلاوة الوصايا العشر للصم والبكم كان ذلك مبرراً ومطلوباً وبدونه تنقص العرض أشياء كثيرة. قبل دخولي إلي قاعة المسرح شاهدت تجمعات كثيرة للصم والبكم يتحدثون بلغة الإشارة ظننت أن ذلك جزء من العرض لكن عند الدخول اكتشفت أن هؤلاء هم جمهور العرض الذين كان بينهم عائلات كاملة كلهم من الصم والبكم جاءوا ليشاهدوا عرضاً يمثلهم ويحتفي بهم ويقول لهم نحن معكم ونؤمن بكم وبقدراتكم ونلبي لكم حقكم من المسرح الذي أهملكم كثيراً هو وكافة الفنون المصرية. العرض قام ببطولته: هاني. غريب. سيف. صفوت. حمادة. جمال. أحمد. نورا. نور. لقاء. مادونا. آية. عمرو. وقام ببطولة الفيلم الروائي القصير أحمد عثمان وكارولين عزمي ومونتاج إسلام سيف وتصوير عبدالرحمن أحمد السيد وكتب أغنية العرض محمد شكري وألحان وائل عقيد وتوزيع شريف الوسيمي وغناء نورا نور وسينوغرافيا مصطفي حامد ومترجم إشارة قمر عادل وعمر هشام وإعداد موسيقي إسلام أشرف ومخرج منفذ يوركا ومساعد مخرج شرين المنسي ومحمد الحناوي. ويبقي السؤال: كيف لعرض كبير ومهم ومدهش كعرض "العطر" لا يشاهده جميع طلاب جامعات ومدارس مصر الذي أعرفه أن الفنان إسماعيل مختار رئيس البيت الفني للمسرح يسعي لتقديمه في بعض المحافظات بعد أن قدمه في الإسكندرية وقد كان من الممكن لو لدينا وزراء يعرفون واجباتهم حقاً ويدركون أهمية مثل هذا العرض وتأثيره القوي علي كل من يشاهده أن يذهب العرض إلي كل مدارس وجامعات مصر بسهولة ويسر لكننا للأسف الشديد ابتلينا بوزراء فاشلين وغير مقدرين لقيمة الفن وتأثيره. وإلا كنا سمعنا عن اتفاق بين وزيري الثقافة والتربية والتعليم لتجوال هذا العرض في جميع أقاليم مصر خاصة أن بين الوزارتين بروتوكولات للتعاون لكن يبدو أنها لمجرد الشو الإعلامي. عرض "العطر" الذي حرص مخرجه محمد علام علي توجيه الشكر لمن تحمسوا لإنتاجه وهم فتوح أحمد الرئيس السابق للبيت الفني للمسرح وأحمد السيد مدير مسرح الطليعة وخالد جلال رئيس قطاع شئون الإنتاج الفني يستحق أن تشاهده مصر كلها وليس طلابها فقط. حيث يمثل حدثاً فنياً راقياً ورفيع المستوي وسابقة مهمة في المسرح المصري عرض يستطيع فعلاً أن يغيرنا ويجعلنا أكثر شفافية وإنسانية في تعاملنا مع الصم والبكم فقد فعل كل شيء وقال كل شيء.. وبقي فقط أن يتحلي مسئولونا بفضيلة الفعل والمبادرة بدلاً من فضيحة الفشل والصمت!