في نهار واحد غاب عن حياتنا الابداعية رمزان مهمان: الروائي متعدد المواهب ادوار الخراط والشاعر صبري أبوعلم. المبدعان من الاسكندرية ومعظم ابداعهما تعبير عن الحياة في الثغر وهو ما يفسر الحزن البالغ الذي استقبل به المثقون - ومثقفو الاسكندرية بخاصة - نبأ رحيلهما. في تقدير يوسف الشاروني ان السمة الأهم لكتابات الخراط هي التجريب المستمر والثورة الدائمة علي الثوابت بالاضافة إلي الوعي النقدي الذي يوازي ابداعه ولا ينفصل عنه واحتفائه الشديد باللغة وولعه بكيفية تطويعها وهو يستمد معظم رواياته وهويتها من حي شعبي هو حي غيط العنب بالاسكندريةالذي عاش فيه طفولته وتتميز سكندرية الخراط باستحضار الجو القبطي بعاداته وطقوسه الدينية مبلورا الخصائص الذاتية اجتماعيا وثقافيا للشخصية القبطية. واذكر انني احتفيت بباكورة أعماله "حيطان عالية" كنا قد اعتدنا ان نقرأ لكتاب نشروا أعمالهم في الصحف قبل ان يضمها كتاب لكن مجموعة حيطان عالية كانت لكاتب لم ينشر من قبل ولأنه حرص ان يكتب تاريخ كتابة كل قصة فقد اكتشفنا انه يكتب منذ 15 سنةوكان مبعث التشابه بين قصصه ان الفنان ينظر إلي أبطاله من الداخل بأكثر مما ينظر إليهم من الخارج ونفسية هؤلاء الأبطال مغلقة داخل حيطان عالية تقف حائلا بينهم وبين الاندماج مع الآخرين ثمة حيطان تقف بين الزوج وزوجته والأب وابنه والزميل وزميله هكذا ادخلنا ادوار الخراط في حيطانه العالية لنقوم برحلة في نفسية الانسان حتي نصل إلي طبقاته البيولوجية البدائية بما فيها من جنس وغريزة ووحشية خلال تعبيراته الشعرية المتدفقة من رؤي ذلك العالم الداخلي وما يمور به من عاطفة وانفعال وشهوة. يذهب د.عبدالناصر حسن إلي ان الابداع العربي خسر أكبر روائي في مصر في الفترة الأخيرة ثمة تياران الأول يمثله نجيب محفوظ وقد تبعه روائيون وكتاب والتيار الثاني يمثله ادوار الخراط للبناء الفني القصصي والروائ عند كل من محفوظ والخراط ميزة وأسلوب وسمات خاصة نستطيع ان نتعرف إلي السرد الخاص بادوار الخراط بقراءة صفحتين هذا هو أسلوبه في السرد. لقد خسرنا بوفاة الخراط إنسانا جميلا لكن اعماله ستظل ضافية وحاضرة في الوطن العربي والعالم الغربي. كنت في لندن ولاحظت اهتماما من النقاد الانجليز بكتاباته مثل رواية "رامة والتنين" كان وجها للتجريب والتجديد واستطاع ان يستحدث اشكالا في الكتابة الروائية تتجلي في مستويات للسرد متعددة فضلا عن الشعرية الخالصة والحكي الشيق كما في رامة والتنين انها كتابات تجمع بين الكتابة الروائية والكتابة الشعرية ولا شك انه سيظل حاضرا في الذاكرة. تجربة كبيرة والخراط - في تقدير د.حسين حمودة - يمثل تجربة ابداعية ونقدية كبيرة في الأدب المصري ورغم ان عمله الأول المتمثل في مجموعة حيطان عالية لم يتم الاحتفاء به عندما صدر في الخمسينيات فإن اعماله المتعددة وربما الغريزة التي بدأت في السبعينيات ثم امتدت خلال العقود التالية هذه الاعمال قدمت تجربة خاصة في الرواية والقصة القصيرة وفيما يتجاوز الشكل الروائي والشكل القصصي هي اعمال مهمةعلي مستوي العالم الذي تناولته خصوصا فيما يرتبط بقيم التسامح بين المسلمين والمسيحيين وفيما يرتبط بأهل الصعيد والاسكندرية وهي أيضا أعمال مهمة علي مستوي الجماليات التي لم تقف عند الصياغات التقليدية وعلي مستوي السرد الذي يحتوي بداخله عوالم شعرية وقصصية ووثائقية وغيرها. احتفي ادوار الخراط في كل كتاباته بالميراث اللغوي الفصيح والموروث وربط هذا الميراث بالحياة التي عشناها ونعيشها في هذا العصر. ويري الناقد شوقي عبدالحميد ان البعض قد يختلف مع الخراط وقد لا يفهمه البعض وربما لا يستطيع المواصلة إلا ان أحدا لا يستطيع افنكار دوره وريادته في العديد من الأنواع الأدبية التي خاض فيها جميعا فقد عالج القصة القصيرة والرواية والشعر وكان أحد رواد التجديد في القصة القصيرة منذ صدرت مجموعة حيطان عالية التي قدمت ادوار الخراط بكل عناصره الأسلوبية والفكرية والتشكيلية حتي صدرت احدث رواياته الغجرية ويوسف المخزنجي. ادوار الخراط هو الباحث عن الحرية والعدل والقيم المعطلة والمثل العليا وفي سبيلها وحولها دارت محاولاته العديدة والممتدة عبر القصة والراوية والشعر والفنون التشكيلية والدراسات النقدية التي نحت لنفسه فيها منهجا ووضع بصمة يعرف بها في قراءات الأجيال التالية ويأتي الخلاف والاختلاف حول ادوار الخراط من تعدد القراءات وتداخل المستويات والأنواع الأدبية داخل النص الواحد اضافة إلي الاعتماد علي الصورة القائمة علي المكان الخالية من الزمان المتتابع المتواتر فهو لا يعتمد علي التتابع الزمني الذي قد يفضله الكثير من القراء العاديين وغير المدربين علي قراءة الصورة وربما كانت بدايات الخراط الأولي في مرسم الفنان التشكيلي احمد مرسي الذي وضع فيه اللمسات النهائية لحيطان عالية إلي جانب علاقته الوثيقة بالعديد من الفنانين التشكيليين وحبه للفن التشكيلي أقام ادوار الخراط معرضا للفنون التشكيلية القائم علي فن الكولاج. واذكر ما قاله لصدديقه عدلي رزق الله في بداية الثمانينيات انك ترسم ما احلم بكتابته عبر - بصدق ووضوح - عن كتابات الخراط بل ومدخلا مهما للدخول إلي عالمه وفهم أعماله وعن ادوار الخرط والشاعر السكندري الكبير صبري أبوعلم يشير الناقد شوقي بدر يوسف إلي أن الموت كان علي موعد متزامن مع اثنين من مبدعي الاسكندرية وكأنهما كانا علي موعد مع السماء في لقاء واحد الأول كان ابداعه عن الاسكندرية في مجال السرد القصصي والروائ فقد ابدع الخراط عن الاسكندرية المكان والموطن: ترابها زعفران. سكندريتي.رامة والتنين. حجارة بوبيلو وغيرها من الأعمال السردية المشعة والمشبعة بروح المكان والزمان السكندري. أما صبري أبوعلم فقد عاش الاسكندرية وتفاعل مع منتدياتها الادبية مقدما لندواتها ومصاحبا لمبدعيها ومشاركا في العديد من الندوات واللقاءات في مجالات الثقافة. أبوعلم وزيرا للثقافة ويعبر الروائي مصطفي نصر عن حزنه لفقد الاسكندرية اديبين كبيرين في يوم واحد ويقول هناك وشائج تجمع بيني وبين استاذي ادوار الخراط فأنا من المراغة وهو من اخميم التابعتين لمحافظة سوهاج وسكنت حي راغب باشا الذي سكنه ادوارد من قبل ان يسكن في شارع ابن زهر القريب جدا من بيتي يعني الأماكن التي ذكرها في كتاباته اعرفها جيدا وعشت فيها وزرته في بيته بشارع أحمد حشمت بالزمالك والتقيته في ايليت.. حكي لنا عما حدث له في قبرص لما اغتيل الشهيد يوسف السباعي ثم توقف وقال: كفاية كده سأكتب في هذا الموضوع. أما عن صبري أبوعلم فمصابي فيه فادح وثقيل.. كنا نتحدث عبر التليفون يوميا وزادت مكالماتنا بعد أن قلت حركتنا وصرنا أسيري البيت. كان يأتي إلي بيتي كثيرا أولادي وبناتي يحبونه وأفراد عائلتي كذلك. اهتم أبوعلم برفاعة الطهطاوي وأصبح متخصصا فيه. جمع كل ما كتب عنه وقرأه باهتمام شديد وحفظ أشعاره وقدم عنه الكثير من الدراسات والندوات واصدر كتابا نشرته مكتبة الاسكندرية بعنوان "رفاعة الطهطاوي - رؤية من قريب" وهذا ما جعل عائلة الطهطاوي تهتم به وتصادقه ومنهم السفير رفاعة رافع الطهطاوي الذي كثيرا ما استضافه في بيته وكلما سافر صبري إلي طهطا أصر احفاد رفاعة علي دعوته إلي بيت العائلة. ومن طريف ما يروي ان السفير الطهطاوي اثناء توليه منصباً مهماً في الرئاسة عرض علي صبري منصب وزير الثقافة فاعتذر حالا لسببين قال: لقد تجاوزت السبعين والأهم انني لا استطيع ان اتعاون مع الاخوان. افكاري تتقاطع مع افكارهم وعاد إلي الاسكندرية يسائل نفسه: هل رشح للوزارة فعلا فرفضها؟!