لا أشك لحظة أن جهاز أمن الدولة المنحل سيظل أحد أهم الأسباب الرئيسة لهدم النظام السابق, لقد كان من المفترض أن يحمى الدولة ويؤمّن هذا الوطن الكبير، ولكنه حوله إلى سجن, فالجميع أسير لدى هذا الجهاز الضخم الذى يقع فى مدينة نصر، وله أفرع كثيرة فى كل المحافظات, ومن المعروف أن تعداد جهاز أمن الدولة قليل لأنهم عملة نادرة وربما تمنى الكثير من الضباط أن يتم ترشيحه إلى هذا الجهاز المرموق لما له من نفوذ كبير وراتب وفير !! فالإنسان فى مقتبل عمره تلمع فى ذهنه الوظائف البراقة ويشغله الراتب الذى يؤسس به حياته, ولقد كانت لكل ضابط من أمن الدولة ولو كان صغيرًا عربة خاصة به بخلاف ضابط الشرطة العادى الذى لا ينفرد بهذه الميزة إلا بعد أن يصل إلى منصب ومكانة ربما كانت فى رتبة المقدم والعقيد. نعود إلى الوطن الكبير الذى حولوه إلى سجن مأموره هو مدير جهاز أمن الدولة, فهو الحاكم بأمره, وكل شىء تشعر فيه بأنفاس أمن الدولة، وهى تلاحق الجميع, فكل الوظائف تحتاج إلى موافقة الجهات الأمنية وإجراءات السفر كذلك, وقائمة الترقب أيضاً فى انتظار كل من لا يدين الولاء للنظام, كما أنه إذا كتب الصحفى مقالاً استدعوه وحذروه, وإذا رأوا منه ثباتاً استدرجوه وضربوه, فإن عاد سجنوه!! ولقد تعود جهاز أمن الدولة على أن يأمر فيطاع, فترى منهم الضابط الصغير يعمل فى مؤسسة حكومية وهو يوقن فى قرارة نفسه أنه الرئيس الفعلى للمؤسسة وصاحب الكلمة المسموعة فيها فتراه يقلب فى أوراق الزائرين ويفتش فى دفاتر المسئولين، ويؤكد لهم ويشرح باستفاضة أن توجه الدولة هو كذا وكذا, وأن الذى يُسعد النظام هو كذا وكذا, وربما لا يكون قد تلقى توجيهاً بذلك الذى يقوله, لكنه من اختراعه البائس الذى أضر بالبلاد والعباد. ولقد كان هذا الجهاز يؤدى بعض الخدمات للمقربين ولكنها فى إطار مخالف للقانون فيسهل أن تكلم أحد الضباط ليُعيد إليك رخصة السيارة التى سحبها رجال المرور, ويُسهّل لك دخول المطار من باب كبار الزوار كما يُسهّل الحصول على ترخيص كشك تجارى فى منطقة مهمة، ونحو ذلك من الأمور التى كانت تعطى لأبناء الضباط والمخبرين والأصدقاء الموالين, ويكفى أن يكتب فى التقرير أن هذا شخص متعاون, ولقد ذكر لى نائب رئيس الجهاز المنحل ذات مرة أنه الذى يكتب تصنيف الأشخاص بما يراه فإن كتب فى التقرير أن فلاناً إرهابى صار إرهابياً، وإن لم يكن كذلك!! والعكس أيضاً فى يده كما كان يزعم ولقد ذكرتنى هذه الكلمات بالمذكرة التى قدمها جهاز أمن الدولة للقضاء حين طعنت مع الدكتور طارق فى استمرار حبسنا بعد انتهاء الحكم فوجدت مذكرة تنص على أننا نمثل خطراً داهماً على الأمن القومى لا يمكن تداركه !! وأننا نجهز ونخطط من الآن لنلحق بركب الإرهاب الدولى !! هكذا كان نص ما ورد فى مذكرة أمن الدولة إلى القضاء الذى لم يجد حلاً أمامه سوى أن يقضى بعدم الاختصاص بالنظر خروجاً من المأزق!! والمتابع لسلوك أمن الدولة فى الحقبة الماضية يشعر بالأسى لوصول الجهاز إلى هذا الدور الذى جعلنى أصفه فى أحد الإصدارات منذ نحو ربع قرن بأنه جهاز خبيث يجب استئصاله, والذى كنت أقصده أن هذا الجهاز لا داعى أصلاً لوجوده بين مؤسسات الدولة لأنه معول هدم فلا هو يحفظ أمن الوطن ولا أمن المواطن، وإنما يبث الفرقة ويجعل الشعب يكره حكومته, بل إن كثيراً من ضباط الشرطة كانوا يكرهون هذا الجهاز لسوء معاملته لهم إلى درجة تصل إلى حد الاضطهاد الذى كنا نعانى منه كمسجونين ومعتقلين!!. والمصيبة الكبرى كانت فى شخصية النظام التى لم تكن تحب الشعب، وكانت تتعامل معه كعدو فلم يشعر حكام هذا البلد يوماً بأمان وسط الجماهير بل كانوا يشعرون بالأمان فى البلاد الأجنبية فحسب, والأخطر أن حالة الفساد التى كان عليها الحكام جعلتهم يطلقون يد الأمن فى تقييد حركة البلاد فى شتى المجالات كى يطمئنوا على حياتهم من بطش شعوبهم إذا عرفوا ما يجرى عنهم، خاصة أن رائحة الفساد كانت تزكم الأنوف, فكان ولابد من تكميم الأفواه حتى لا تتسع دائرة النقد إلى قطاعات أوسع لا يأمن الحكام بعدها العاقبة.. وذات يوم حدثنى أحد ضباط أمن الدولة عن قضية خروجى من السجن فقال إنك لن تخرج طالما كان مبارك فى الحكم لأنك من الشخصيات التى لا تخضع للسيطرة الأمنية فقلت له لقد انتهى حكمى والقانون يعطينى الحق فى العودة إلى أهلى وبلدى فقال لى إن القانون مُعطل فى البلاد والمسألة فى يد أمن الدولة !! فقلت له فى حزم لله الأمر من قبل ومن بعد .. ولما قمت بشن حملة إعلامية ضد أمن الدولة كانت المناورة أنه لا مانع من خروجك والمسألة فى يد الرئيس, وهو يخشى منك ومن ابن عمك بشكل شخصى لأنكما تمثلان خطراً على جمال مبارك ومستقبل حكمه فلو أيدتم تولى جمال مبارك يمكن أن يكون فى الأمر جديد!! ولكننا لم نفعل ذلك بل هاجمنا التوريث واعترضنا عليه لأنه ليس من المعقول أن يتولى شخص مثل جمال مبارك مسئولية بلد، وهو لا يصلح أن يكون مسئولاً عن نفسه وكنا نوقن أن من يفعل ذلك هو خائن لله ولرسوله ولشعب مصر. ومن نعمة الله علىّ أننى لم أقابل أحداً من أمن الدولة قبل أن يتم القبض علىّ فى 13 أكتوبر 1981 حيث كانت ظروف عملى لا تمكنهم من بسط نفوذهم تجاهى لأننى كنت أعمل فى جهاز الاستطلاع التابع لإدارة المخابرات الحربية، والاستطلاع طيلة أربعة عشر عاماً هى مدة خدمتى فى القوات المسلحة التى عشت منها على الجبهة اعتباراً من عام 1968 حتى بعد تحرير سيناء, ثم انتقلت إلى إدارة المخابرات نفسها فى فرع التدريب منذ عام 1979 وحتى تم القبض علىّ فى شقة خلف قاعة سيد درويش بالهرم, وتم ترحيلى إلى وزارة الداخلية مباشرة ومعى بعض ضباط أمن الدولة فلما نظرت فى وجوههم متفرساً ومدققاً قال أحدهم لزميله إنه يحفظ وجوهنا !! فأسرعوا إلى التوارى عن عيناى ولكنهم كانوا فى انتظارى فى سجن القلعة.. ولن أتكلم عن الاستقبال الحافل الذى استقبلونى به لأن الاستقبال الشعبى الذى لقيته عند الإفراج عنى من أهلى وأصدقائى والمحبين لى أنسانى آلام السياط والعصى والخراطيم التى انهالت علىّ حتى فقدت الوعى للحظات وتحشرج منى الصوت وأنا أصرخ ولم أسمع سوى صوت يأمرهم بتركى وكان هذا هو المحقق الرئيسى الذى سيتولى استجوابى .. فقد كانت عادة أمن الدولة أن تحتفل بأى شخص يدخل إلى مقرها على نحو صاخب لا يمكن أن ينساه لأن ما تفعله يحفر جرحاً عميقاً فى نفس الضحية المعلقة على باب المكتب من اليدين أو الرجلين ليس ضد الفاعل فحسب بل ضد النظام كله, بل هناك من كره البلاد وسافر بعد ذلك إلى الخارج متوعداً أن ينتقم من المسئولين عن الحكم فى مصر لأنهم ما كان يمكن أن يفعلوا كل هذا التعذيب دون موافقة رأس السلطة والنظام، ومما يروى عن الرئيس مبارك أن إحدى قريباته كان لها ابن معتقل بلا جريرة, فطلبت مقابلة الرئيس ليفرج عن نجلها فقال لها كم عندك من الأبناء فقالت أربعة فقال لها يكفى ثلاثة!! ورفض أن يفرج عنه أو عن آلاف المعتقلين ولم ينظر إلى أن الإجراء الاحترازى الذى أخذته أمن الدولة لا حقيقة له ولا مبرر لوجوده, فلقد كان الجميع أبرياء وكانت فكرة أمن الدولة مبنية على احتجاز آلاف المعتقلين للتأكيد على أنهم يقومون على حماية شخص الرئيس وعائلته وحكومته، وبالتالى كان الرئيس يغدق عليهم بالميزانيات المفتوحة، ويفسح لهم المجال أمام بسط النفوذ فى شتى القطاعات فكانت لهم الكلمة النافذة والقرار النهائى .. نعود إلى القلعة مع أول مواجهاتى مع أمن الدولة فقد كانت هناك مناورات صوتية عبارة عن كاسيت يصدر صوتاً لشخص تحت التعذيب يتأوه، ولكنى استطعت أن أميز الفارق بينهما، ولعل ذلك كان فى البداية كأسلوب يستخدم حتى لا يضطر إلى التصعيد بالإيذاء المباشر ثم ما لبث أن أصبح المكان كله يصرخ من فرط التعذيب الحقيقى للعديد من التنظيمات التى ألقوا القبض عليها .. وأمام تصميم الشخص الذى تحت الاستجواب على عدم البوح بالأسرار يعاجلونه بخبر مهم، وهو مصرع شريك له فى العمل أثناء معركة بالأسلحة النارية, والهدف من هذه المناورة هو طمأنة الضحية إلى إمكانية البوح ببعض الأسرار التى تخص هذا الشخص الذى مات على اعتبار أنه لن يلحق الضرر بالأحياء, كى يخفف عن نفسه أبواب التعذيب المفتوحة ولو للحظات !! وهكذا يمكن الحصول على بعض المعلومات ثم بعد ذلك يفاجأ الجميع بأن هذا الميت يتحرك فى إحدى الزنازين المجاورة، ويصرخ تحت التعذيب، وهو يرد على الاتهامات التى ساقها إخوانه، وهو فى حالة ذهول وهنا يمكن أن يقول بعض الحقائق تصحيحاً للوقائع التى نسبت إليه. ومن مناورات أمن الدولة وجود شخصيتين للتحقيق مع الضحية فهناك شخصية قاسية هى التى تضرب وتعذب وتسأل بشدة وتتوعد وتهدد بالقبض على الأقارب وربما إحضار بعضهم لينصحوا قريبهم بالاعتراف حفاظاً على حياته وحياتهم من الدمار, ثم بعد قليل تجد المواطن مطلوباً ليجلس على كرسى ويسمع صوتاً هادئاً ينم عن شخصية ودودة تحب الخير للناس كما تطلب المشروب الساخن أو البارد طبقاً لرغبات الضحية تحت الاستجواب !!.. المهم أنها تدير معه حواراً لتحوله إلى شاهد ملك فى القضية إذا اعترف تفصيلياً أو إذا أضاف جديداً لم يعرفه الجهاز .. وربما يقع المواطن فى الفخ فيضيف الجديد فيصبح وقد وضعوا فى يده الحديد!! ويكتشف أنه أصبح سجينًا أسيرًا وليس شاهد ملك، والأعجب أنه يكتشف أن الذى كان يقوم بالاستجواب الهادئ أو القاسى هو شخص واحد أجاد التمثيل بتضخيم صوته!! ومن الطريف أننى سمعت وأنا فى زنزانتى فى القلعة شخصاً يصيح بصوت غليظ أجش يصم الآذان فنظرت من ثقب الباب، وأنا أتخيل أن هذا الرجل عملاق ضخم الجثة فإذا به رجل نحيل الجسد!! فتعجبت أن هذا الصوت يصدر منه ولكن دهشتى زادت حينما رأيت المواطن الذى كان مقيداً ومذعوراً من الصوت ويكاد يرتجف ضخم الجثة عريض المنكبين فارع الطول، ولكنه معصوب العينين فلم ير صاحب الضجيج إذ لو أنه رآه لضحك من المشهد!! .. فتذكرت وقتها أن هناك من الحشرات والزواحف الضعيفة من له صوت مزعج كالضفادع وبعض أنواع صراصير الحقول.. ومن الطريف ما حكاه لى أحد إخوانى أن أحد المحققين أراد أن يتباسط مع أحد الإخوة فى إطار ما سبق أن أوضحته بأدوار الشد واللين فسأله من أين أنت؟ وبعض الأسئلة الاجتماعية الودودة بصوت هادئ بعد أن طلب له كوباً من الشاى, فشعر هذا الأخ ببعض الأمان فسأل المحقق عن بلده الذى منه فساء ذلك المحقق فعاد إلى طبيعته وأجاب بصوت أجش غليظ {أنا من جهنم الحمرا} فانتفض الأخ وقال بسرعة متلعثماً { أجدع ناس يا باشا !!! } ومن مناورات أمن الدولة أنهم كانوا يُدخلون إلى زنازين القلعة مع المعتقلين بعض المرشدين من رجالهم الذين أطلقوا لحاهم ليجلسوا بعض الوقت بين الإخوة فيسمعون ما يدور ثم يطلبون هذا المرشد، وكأنه سيتم استجوابه فيخرج ويخبرهم بما سمعه فيتم بعد ذلك استجواب الزنزانة بالكامل فيما دار بينهم من حوارات. ومن مناورات نشر المعلومات الكاذبة للتضليل وتحويل الأنظار إلى اتجاهات أخرى عندما قرروا الإفراج عن عزام كانت المعلومات المتسربة معروفة أنه يجرى الترتيب للإفراج عنه بنصف المدة وكان الجاسوس الإسرائيلى محبوساً فى عنبر التجربة، وهو عنبر مجاور للعنبر السياسى فى سجن ليمان طرة فلما حان وقت الإفراج عنه واستعد السجن من الصباح الباكر لتنفيذ القرار كانت هناك حالة قلق لدى أمن الدولة على أساس أن يتم الإفراج بنصف المدة عن الجاسوس ونبقى نحن فى السجون رغم أننا أمضينا المدة بالكامل وفوجئت بضابط أمن الدولة يقابلنى عند خروجى لزيارة أسرتى، ويؤكد لى أن الإفراج عن عزام غير حقيقى، وأنه مطلوب للسفارة لأمر آخر, وبعدها بعدة ساعات تم الإعلان عن أنه غادر البلاد ولقد كنتُ متأكداً أن المعلومة التى يقولها لى ضابط أمن الدولة كاذبة ولكنى كنتُ متعجباً من أن الحقيقة ستظهر بعد ساعات وسيسقط هو من نظر كل من قال له ذلك, ولما قابلته بعد ذلك بعدة أيام قلت له كيف تقدم على هذا التصرف الذى يسىء إليك قال لى إنها تعليمات جهاز أمن الدولة أن أبلغك بذلك, فعلمت أنه إجراء احترازى قصد من وراءه تأمين وصول عزام إلى بلاده حتى لا نتحرك فى إمكانية اعتراض مسيرته على أى نحو كان. لقد كانت مناورة ساذجة أرادوا بها إظهار كفاءتهم التأمينية لقياداتهم السياسية. ومن مناورات أمن الدولة استدعاء بعض الشخصيات إلى مبنى الجهاز والإبقاء عليه فى حجرة جانبية مدة زمنية ثم الحديث معه فى عجالة والسماح له بالانصراف من باب خلفى يراه آخرون من زملائه بشكل يبدو عفوياً فتقع الريبة والشك فى القلوب فهذا يراهم مقبلون من الباب الخلفى والآخرون يرونه منصرفاً منه !! ومن أفكار أمن الولة الخبيثة تسريب المعلومات التى تهدف إلى الذعر وكسر وحدة الصف فلقد حدث فى التسعينيات أن الجهاز أراد أن يحقق ضغطاً على القيادات التاريخية بالسجون فسمح لبعض الإخوة المرضى والضعفاء بالعلاج بمستشفى ليمان طرة حتى إذا رآهم القادة فزعوا لحالهم وإذا سألوهم عن حال إخوانهم قصوا عليهم من المآسى ما يجعل القيادة التاريخية تسارع إلى تقديم الحلول والتدخل لإنقاذ إخوانهم من مهالك السجون. ولقد اتبع الجهاز فكرة جديدة حين تم الإفراج عن مجموعة ال15 سنة، وهم الذين أنهوا حكمهم من مجموعة 1981 فكان ذلك فى أكتوبر عام 1996، وقاموا بتفريقهم على السجون قبل أن يعودوا إلى ليمان طرة، وذلك حتى يشاهدوا أحوال الإخوة السيئة فى السجون الأخرى وينقلوها إلى إخوانهم من القيادات التاريخية. ومن مناورات أمن الدولة أنها قامت بتسريب معلومات من خلال بعض الإخوة الذين يتحدثون مع ضباط أمن الولة أن هناك زنازين انفرادية فى سجن العقرب يتم تجهيزها للقيادات التاريخية، وفى نفس الوقت يتم نقل عدد من الإخوة من سجن العقرب إلى الليمان بما يساوى نفس العدد وذلك بهدف إشاعة القلق لدى القيادة التاريخية للتعجيل بطرح رؤى لحل مشكلة العنف الدائر والتحرك السريع لحل مشكلة المعتقلين أيضاً، ولكننا كنا نفطن لذلك وكانت تحركاتنا من منطلق حسابات شرعية وواقعية لا تتدخل فيها عناصر التخويف على أشخاصنا فنحن لم يكن لدينا أى فرق بين سجن وآخر فلقد اعتدنا العيش فى جميع الظروف والأجواء. ومن عجائب مناورات أمن الدولة مناورة بعنوان الصرف الصحى, إذ أنه حدث بعد المبادرة عام 1997 أن ظهرت وجهات نظر متباينة بين القيادات التاريخية حول بعض الترتيبات الخاصة بالحل، ولكن ذلك لم يعجب أمن الدولة وكان مشروع الصرف الصحى يتم فى مدينة طرة فطلبوا إدخال خط صرف صحى إلى داخل العنبر الذى أسكن فيه مع الدكتور طارق الزمر، وطالبوا بإخلاء العنبر وتوزيع سكان العنبر على باقى العنابر الأخرى، مما يحدث نوعاً من الإرباك فبعد أن كان كل واحد منا يعيش فى زنزانة أصبح كل فردين أو ثلاثة فى زنزانة واحدة مما يجعل الحياة أكثر صعوبة ويقضى على الخصوصية التى يمكن أن تُستغل فى التفكير أو الكتابة وهو نوع من الضغوط يشعر بها المسجون فى الحبس الجماعى الذى يتصادم فيه نظام المعيشة بين من يحب السهر أو من ينام مبكراً أو من يصلى أول الليل أو آخره أو من يحب النوم فى الظلام الدامس ومن يحب النوم فى الضوء إلى آخر الأشياء الحياتية التى يمكن أن تكون سبباً فى خلافات معيشية بين النزلاء .. ومن مناورات أمن الدولة للضغط على السجناء حبسهم مع السجناء الجنائيين وهذا من أقسى أنواع الحبس فهم يُدخنون السجائر ويتحدثون بألفاظ لا تليق وقد يشتم بعضهم بعضاً وقد يتشاجرون ويجد الأخ نفسه وسط هذا الكم الهائل من المشكلات المعقدة التى يعجز عن حلها إلا من أعانه الله ويسر له الفرج. ومن أنواع الضغط الشديد والعقوبة المؤلمة حبس المسجون فى زنزانة انفرادى فى عنبر التأديب وسكب كمية كبيرة من مياه المجارى داخل الزنزانة بشكل لا يسمح له بالنوم على الأرض بل يكون المسجون واقفاً على قدميه لا يتحرك لطعام أو شراب أو صلاة فلا مكان لشىء من هذا ويبقى على هذه الحالة يوما كاملا ثم يعودون إليه فى الصباح وهو يكاد يسقط من الإعياء والتعب والحزن. ومن مناورات أمن الدولة الإلقاء بأسباب التضييق على بعض الإخوة فإذا كانوا يكرهون شخصاً انتظروا له خطأ بسيطًا كمشادة مع مخبر أو صف ضابط ثم يأخذون قراراً بالتضييق على الزيارات مثلاً فإذا سأل النزلاء لماذا هذا التضييق قالوا إن السبب هو فلان فعل كذا وكذا .. والهدف من ذلك إثارة الفرقة والشقاق والخصام بين النزلاء ولكننا كنا نفطن إلى كل هذه المناورات وننزل كل مشكلة فى حجمها الطبيعى دون تهويل . ومن بين الأعاجيب التى كان ينتهجها جهاز أمن الدولة ذلك الذى حدث معى فى الامتحانات الجامعية التى كان مقرها ليمان طرة حيث كان يتوافد كل عام فى موعد الامتحانات نحو خمسين أخاً من سجون مختلفة وكنا نعد لهم أماكن عندنا فى عنبرنا السياسى, وفى عام 2004 كانت العلاقات متوترة بسبب عدم الإفراج عنا وأرادت أمن الدولة أن توقع بينى وبين الإخوة الوافدين لأداء الامتحانات وكنت قد جهزت لهم الزنازين لمعيشتهم معنا ولكن ضابط أمن الدولة استدعانى وحدثنى حول قضية تتعلق بحالتى الصحية وهل أحتاج شيئاً فقلت له شكراً لا أحتاج إلى شىء وتعجبت من هذا الاستدعاء ولكن كان وقوفه معى على مرأى من الإخوة الوافدين وبشكل لم أشاهده من جهتى, ثم ذهب إليهم ضابط أمن الدولة وأخبرهم أننى غير موافق على دخولهم العنبر السياسى !! وبالفعل وجدوا فى أنفسهم منى ولكن حاق المكر السيئ بأهله وكان بعض إخوانى من الليمان قد قابلوا بعض الوافدين للامتحانات وأخبروهم أننى جهزت لهم الأماكن وأخليت حجرتى الخاصة لهم وانتقلت لأسكن مع الدكتور طارق فدهشوا لذلك التصرف الذى تصنعه أمن الدولة معى وازداد حبهم لى وطلبوا الدخول إلى العنبر السياسى وامتنعوا عن الدخول إلى المستشفى فتم ترحيلهم من السجن إلى سجن آخر انعقدت فيه اللجنة !! ومن المناورات أيضاً ما سميته بالسقف الحديدى إذ أن أمن الدولة وضعت رؤية مبنية على تفكير بعض المجاهدين فى الخارج حيث طالبوا بضرورة تخليصنا من الأسر وهذه الرؤية كانت منحصرة فى التنبيه على إدارة السجون بتشديد الحراسات فى أماكن الإقامة حول السجن، وكذلك عند تنقلات بعض القيادات التاريخية، ولكن الجديد كان بعد سنوات من هذا الموضوع حيث قررت بناء سقف حديدى فوق سطح العنبر الذى نسكنه فى أعقاب معرفتهم لوجهة نظرى المخالفة لخط سير الجهاز بشأن ترتيبات تفعيل المبادرة التى كنت أريدها على خطوات يُقدم كل جانب خطوة فى مقابل خطوة من الطرف الآخر حتى يستقيم الحل وترضى القاعدة التنظيمية بالتحول الجديد والرؤية الجديدة وبالفعل جاءت عناصر من الإدارة الهندسية لمصلحة السجون وبدأت فى بناء الأعمدة التى سيقام عليها السقف وبدأت من العنبر الذى أسكنه ومعى الدكتور طارق ثم جاء مدير المصلحة وقرر إخلاء العنبر لأسباب خاصة بسرعة الإنجاز، وتم ترحيلى مع الدكتور طارق وعدد آخر من إخوانى وأبقوا علينا فى ظروف صعبة فى سجن أبى زعبل بهدف الضغط علينا لمدة عامين ونصف, والطريف أنه بعد انتهاء السقف لم نرجع إلى المكان ولم يتم بناء أسقف للعنابر الأخرى بل ولم تتم توصيلات المجارى الفرعية للزنازين وبقيت الأمور حتى عدنا بعد الضغوط الإعلامية الكبيرة التى أجرتها الأسرة، وخشيت أمن الدولة من انعكاس هذا التغريب على صدقية المبادرة ... ومن مكائد أمن الدولة أن يعطى سماحات ومميزات فى السجون بشكل مباشر ثم يُعطى الإشارة بعد عدة أيام إلى مباحث السجون بسحب هذه المزايا فى أول فرصة خطأ تقع من المسجون فإن لم يجد هناك أخطاءً أعلنوا أن أحد المفتشين بالوزارة سيمر ولابد من الالتزام بالتعليمات. ومن مناورات أمن الدولة ماجرى مع بعض المحامين حيث رفعوا لبعض زملائنا قضايا تعويضات فلما حكمت لهم المحكمة بأحكام نهائية تأخرت وزارة الداخلية كالعادة فى رد الحقوق إلى أصحابها فتقدم عدد منهم بإنذارات إلى الوزارة لتسليم قيمة التعويضات للمتضررين فوراً فأغضب ذلك جهاز أمن الدولة وما هى إلا عدة أيام قليلة حتى فوجئ المحامون بمصلحة الضرائب تقتحم المكاتب وتضع عليهم مبالغ باهظة يلزم تسديدها وظن المحامون أن هناك هجمة شرسة على مكاتب المحامين بمصر نتيجة مشاغبات النقابة المعروفة ضد النظام ولكنهم حين استطلعوا الأمر وجدوا أن المحامين الذين ذهبت إليهم مصلحة الضرائب هم فقط من تقدموا بالإنذارات الخاصة بصرف التعويضات!! فقاموا بسحب الإنذارات فانتهى الأمر وكأن شيئاً لم يكن!! ومن طرائف المناورات الساذجة التى قام بها أحد ضباط أمن الدولة حين اصطحب قوة تفتيش وأمرهم بتقليب العنبر السياسى رأساً على عقب ووقف هو بعيداً عند الباب الخارجى بحيث لا يراه، أحد وفى اليوم التالى توجه بعض إخواننا إليه بالسؤال عن أسباب ما حدث بالأمس فقال إنه كان فى إجازة ولو كان موجوداً لمنع هذا التفتيش !! ولم يكن يعرف أننا رأيناه بالمرآة العاكسة وهو يقف ويشير للقوات بالدخول بل إن بعض العاملين بالسجن سمعوه وهو يطلب التركيز على أرقام بعض الزنازين فى العنبر وبالطبع كان من بينها زنزانتى وزنزانة الدكتور طارق الزمر لقد كان يظن هذا الضابط أنه عبقرى أمنى ولكنه كان فى حقيقته أقرب إلى البلاهة !! ومن الأفكار الفنية فى الاستجوابات إحضار الشخص للاستجواب فى الأوقات التى ينام فيها لأن الذى يكون قد اعتاد على الراحة عند هذا التوقيت يقل تركيزه فيستطيع المحقق الإيقاع بمن هو تحت التحقيق. ولقد استعملت أمن الدولة فى السجون فكرة وضع جهاز صغير يلتقط الحديث داخل الزنازين يقوم المخبر أو المرشد بزرعه, وحدث معى شخصياً أننى كنت على موعد لمقابلة مسئول النشاط الدينى أثناء التصعيد القتالى فى التسعينيات، وكان ذلك فى عام 1994 ولما دخلت إلى الغرفة أرادوا أن يجلسونى فى وضع معين وعلى كرسى معين فعلمت أن فى الأمر تسجيلاً ولكنى انتقلت فى حركة مفاجئة إلى كرسى آخر فوجدته خاوياً دون بطانة وبه تسجيل فارتبكوا ولكننى انتقلت إلى مكانى مرة أخرى بشكل عادى ولم أظهر أننى اكتشفت الأمر وتكلمت فى الحقيقة بما رأيته لمصلحة مصر والخروج من الأزمة التى نحن فيها ولم تكن التسجيلات تخيفنى لأننى كنت أتعامل بشكل واضح لا أخشى أن ينقل عنى شىء فلم أكن أسمح بغيبة أحد من إخوانى أو التحدث عن الجماعات بكلام لا يليق وكانت وزارة الداخلية تعلم ذلك فكانوا يتحاشون كل هذا والحمد لله.. ولقد لاحظت عدة مرات أننى حينما أنتقل للمبيت مع الدكتور طارق فى زنزانة واحدة يسارع أحد المرشدين إلى الخروج إلى خارج العنبر ويرفع أحد الجنود ليضع جهاز التسجيل فوق الشباك العلوى للزنزانة التى سنبيت فيها وهذا الشباك مرتفع ونحن بالطبع كبار السن لا نستطيع التسلق لنرى ما فوق الشباك .. وكنا نتخذ إجراءات الحيطة فى ذلك فنفتح التلفاز على بعض البرامج الإخبارية ونجلس نحن لنتبادل وجهات النظر سوياً عن طريق الكتابة ومن حين لآخر نتكلم بعض الكلمات العادية الخاصة بالطعام والشراب والتعليق على بعض البرامج وما نريد توصيله من معلومات لتضليل جهاز أمن الدولة وإخفاء نوايانا المستقبلية عنه. ومن مناورات أمن الدولة الخبيثة ما جرى بعد مبادرات وقف العنف حيث صرح وزير الداخلية بتصريحات هجومية على الجماعات الإسلامية وخص الجماعة الإسلامية أيضاً فخرجت فى اليوم التالى وقابلت ضابط أمن الدولة وحدثته أن فى كلام الوزير تجاوزات تعرقل سير المبادرة, وتسىء إلى وزارة الداخلية حيث ينبغى على الوزارة أن تستجيب للمواقف الحسنة بخطوات طيبة من جانبها وفى صباح اليوم التالى فوجئنا بتنفيذ حكم الإعدام فى أربعة إخوة من شباب الجماعة الإسلامية، وقال ضابط أمن الدولة المسئول عن ليمان طرة إن السبب فى تنفيذ الحكم هو عبود الزمر لأنه تكلم بكلام شديد فى حق وزير الداخلية !! وكان هذا من المكر السيئ الذى أرادوا به أن يلقوا بالتبعة على برىء, ولأن إجراءات تنفيذ الحكم تأخذ أسبوعاً فى تبادل الأوراق بين النيابة العامة والوزارة فأوضحت لإخوانى هذه النقطة وكذلك بينت لهم أن اللواء العادلى الذى تولى حديثاً وزارة الداخلية يريد أن يجامل ضباط أمن الدولة بتنفيذ هذا الحكم ضد المجموعة المنفذة لعملية اللواء رؤوف خيرت، مسئول النشاط الدينى فى الجهاز. وفى نفس الوقت، لا يريد الاصطدام بالجماعة الإسلامية التى أعلنت عن مبادرتها لوقف العنف فكان المخرج الذى تفتقت عنه أذهان المخططين فى إلقاء المسئولية على كاتب هذه السطور ولكن الإخوة جميعاً فهموا القصة وأدركوا مدى العداوة التى تحملها وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة تجاهى والحمد لله نصرنى الله فى هذا الموقف وفى المشهد النهائى {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} ومن مناورات وخطط أمن الدولة أنهم كانوا يدقون الأسافين بين الجماعات الإسلامية, فكانوا يطلبون الهجوم على الإخوان فى مقابل الإفراج عن المعتقلين, ولكن الإخوة السلفيين كانوا على وعى كبير فلم يقبلوا أن يتحولوا إلى أداة فى يد النظام فيطعنون على إخوانهم, بل اختاروا البقاء فى السجون ولا يفعلوا هذه الفعلة الشنعاء, فيسر الله لهم وتم الإفراج عنهم دون أن يقدموا أى تنازل فى الدين. ولقد عشنا مرحلة فى الثمانينيات كانت أمن الدولة تسرب لنا كلمات تفيد أن من يؤيد الحزب الوطنى سوف يخرج من السجون بعد فترة بسيطة, ولكننا لم نوافق على ذلك لكون الحزب الوطنى كان سيئاً إلى درجة أصبح فيها عاراً على كل من ينتمى إليه فضلاً عن أن قضية الشريعة كانت غائبة عن منهجه, وكذلك شعرنا بحجم كبير من الفساد يستشرى فى جنبات الحزب فى مجال التشريعات التى أضرت بالحريات والاقتصاد وحقوق الفقراء, كما شاهدنا الإفساد الكامل فى الحياة السياسية بالتزوير والكذب والخداع وأيضاً وجدنا انهياراً داخل المنظومة الاجتماعية حيث فتح الحزب الباب أمام الأخلاقيات الوافدة من الغرب بما تحمل فى جنباتها من فساد, فكل ذلك وغيره كان مانعاً من مجرد التفكير فى قبول مثل هذا العرض البائس. ومن تخطيطات جهاز أمن الدولة أنه بعد اتهام الدكتور عمر عبد الرحمن فى موضوع برج التجارة العالمى فى التسعينيات بدأت أمن الدولة تصرح بأنه إذا ما هاجمنا الدكتور عمر على الملأ فإن ذلك سوف يفتح أبواب الخير أمام مجموعة 1981 وحين بلغتنى هذه الفكرة رفضتها بشدة على أساس أن الدكتور عمر رجل مظلوم وأننا لا يمكن أن نكون سبباً فى تقوية الموقف الأمريكى، خاصةً أن الولاياتالمتحدة تحمل الكثير من العداء لنا كأمة إسلامية من خلال موقفها المنحاز دائماً لإسرائيل على حساب قضايانا المصيرية, وبالتالى فضلنا البقاء فى السجون فى موقف رمزى يؤكد اختلافنا الجذرى مع نظام مبارك الفاسد, ومع من يقف من وراءه مسانداً له. ومن مناورات أمن الدولة وخططها أيضاً إجراء اعتقالات موسعة فى صفوف التيار السلفى فكانت تحتجز الآلاف منهم فى عدة سجون ولقد شاهدت منهم عدة مئات فى سجن دمنهور وكانوا إخوة كراماً يهتمون بعلم الحديث, ولم يكن لهم نشاط مضاد للنظام, بل كله كان فى مجال مقارئ القرآن والمدارس التعليمية السلفية وبعض الأنشطة الاجتماعية والدعوية, ولكن الجهات الأمنية كانت تشعر بالخوف من مستقبل ذلك التيار السلفى حيث صرح أحد ضباط أمن الدولة وهو يؤكد لنا أنه عليم ببواطن الأمور بأن خطة الجهاز تقوم على الضغط على التيار السلفى بتوسيع قاعدة الاعتقالات حتى يتم تراجع قادته فكرياً, ولما قلنا له إن التيار السلفى معتدل ولم يمارس أى أدوار عنف ضد النظام أكد أن الخوف يكمن فى أن التيار السلفى سيصبح وعاءً للمجاهدين خاصة أن فكر هذا التيار لديه الاستعداد لهذا التحول, ولكن الله تبارك وتعالى وقى التيار السلفى طول المكث فى السجون حيث لم يتعرض للضغوط الشديدة التى تعرضت لها الجماعة الإسلامية نظراً لتطور الواقع المحلى والدولى فى مجالات حقوق الإنسان مما جعل جهاز أمن الدولة يحجم عن مواصلة الضغط على التيار السلفى واكتفى منهم بعدم حمل السلاح على الحاكم . ولقد أتيحت لنا الفرصة للتحدث مع هذا التيار بما يفيد الرؤية المستقبلية وذلك بقبول فكرة العمل السياسى وعدم الاصطدام بالإخوان المسلمين عند الانتخابات البرلمانية ولاقت هذه الأفكار قبولاً لدى قطاعات من التيار السلفى ولقد وفق الله تعالى إلى إعلان التيار عن إنشاء حزب سياسى تحت اسم حزب النور وهو ما يعطى المؤشر الحقيقى حول وجود تحول كبير فى الرؤية السياسية, وهو أمر محمود لهم برز بشكل فعال بعد ثورة 25 يناير , وأكدوا جدية الممارسة وجدواها فى تحقيق الأهداف التى يصبوا إليها التيار الإسلامى . ومن مناورات أمن الدولة فى مجال الإعلام أنها كانت تحاول إيقاف كل كاتب معارض بطرق متنوعة فى الضغوط وأذكر أن أسرتى كانت تراسل العديد من وسائل الإعلام للإبقاء على قضيتنا حية بعد أن أنهينا الحكم فى 2001 فكانت أمن الدولة تضغط على أسرتنا عند زيارتنا حيث تنتظر الأسرة أمام أبواب السجن عدة ساعات لا يسمح لها بالدخول إلى الزيارة بدعوى أن الضابط المختص غير موجود وذلك بهدف مضايقة أهالينا حتى لا يعودوا إلى زيارتنا مرة أخرى ولكن ذلك كان يزيدهم تمسكاً بنا على اعتبار أننا مضطهدون ومظلومون من النظام وكان فرع النشاط الدينى يهتم بموضوعنا على نحو خاص فلقد كان يرسل إلى رؤساء التحرير الذين ينشرون محاولين الضغط عليهم فإذا ما فشلوا لجأوا إلى فكرة أخرى وهى أن مصلحتنا كمساجين تكمن فى التهدئة وعدم النشر عنا حتى يتهيأ المناخ أمام الإفراج ولقد كانت هذه فكرة خبيثة من أمن الدولة استجاب لها بعض الصحفيين شفقة منهم علينا وظناً منهم أن فى ذلك مصلحة لنا !!. وكان من بين مناورات أمن الدولة الاستجابة لبعض طلبات القيادات التاريخية التى تضر بعلاقاتهم بإخوانهم فإذا طالبوا بتحسين الأوضاع لجميع إخوانهم استجابوا للبعض دون البعض مما يوقع الكثير من الحساسيات ويزيد الفجوة بين القادة وأبناء الجماعة وكل هذه الأفعال كانت بهدف تشويه صورة القيادات التاريخية فى أذهان الكثير من الأعضاء ولذلك تصور البعض أن الجهاز الأمنى كان يؤدى بعض الخدمات لوجه الله, ولكن الحقيقة المرة أن فكرته مبنية على الاستراتيجية الخبيثة التى فى ظاهرها الرحمة وفى باطنها تدمير العلاقات المتينة بين قادة الجماعة وقاعدتها. ومن مناورات أمن الدولة أنه فى أعقاب أحداث برجى التجارة العالمى عام 2001 وكانت الحملة على الإرهاب على أشُدها، بادر فرع النشاط الدينى فى مصر إلى عرض فكرة مفادها استغلال الظرف القائم وسرعة تفعيل مبادرة وقف العنف التى أطلقتها الجماعة الإسلامية عام 1997 قبل أن تتطور الأحداث على نحو آخر لا يروق لحكام مصر ولقد وجدت هذه الفكرة قبولاً لدى وزير الداخلية لكونه يحب الإبداع البوليسى باعتبار أن هذه الفكرة تأتى فى عكس الاتجاه من حيث الظاهر, ولكنها فى الحقيقة تهدف إلى تفكيك وتذويب الجماعة فى المجتمع دون أن يكون لها أى دور سياسى أو دعوى بل على الجميع أن يبقى فى البيوت ولا يسمح له إلا بالوظائف التى تعتبر مصدراً للرزق فحسب ولكننا والحمد لله كنا نفطن إلى هذه الأفكار وأدارت الجماعة موقفها نحو الخروج من السجون فيما تحمل البعض مسئولية العرض الفكرى المتبقى فى المشهد وهو أن يكون هناك دور للجماعة الإسلامية فى العمل العام تحت مظلة الدستور والقانون, ولقد أسرعت أجهزة الأمن إلى وضع خطوات سريعة نحو الإفراج عن آلاف المعتقلين قبل أن يتبلور موقف مضاد يطالب بالحقوق السياسية على الساحة, وبالرغم من طول مدة الإفراج التى استمرت عدة أعوام بعد المبادرة إلا أننا استطعنا الخروج من عنق الزجاجة مع طرح رؤيتنا السياسية الشاملة واستمرار المقاومة حتى منّ الله علينا بثورة 25 يناير فتم الإفراج عن باقى قادة الجماعة ونجحنا فى تحقيق المشروع السياسى المنشود بتشكيل الحزب السياسى، وذلك من خلال حكم قضائى إدارى بعد أن رفضت لجنة الأحزاب إعطاء حزب البناء والتنمية ترخيصاً بمزاولة النشاط ثم قمنا بعد ذلك بترشيح عدد من أبناء الجماعة فى اللحظات الأخيرة لعضوية المجالس النيابية ونجح عدد لا بأس به مقارنة بمن تم ترشيحهم حيث بلغت النسبة نحو 50% من الأعداد التى تقدم بها الحزب إلى المنافسة الانتخابية, وهكذا فشلت جهود أمن الدولة فى احتواء الجماعة أو تفكيكها والحمد لله رب العالمين. ومن مناورات أمن الدولة التخطيط لتقليم أظافر جماعة الإخوان المسلمين فكنا نشاهد اعتقالات واسعة فى صفوف الإخوان فى الفترة التى تسبق الانتخابات النيابية وكنا نلتقى معهم فوجدناهم شباباً معتدلاً يحب دينه ووطنه ولم يرتكب أى جرم يستحق هذا الاعتقال الذى كان يستمر نحو شهر أو شهرين ثم يفرج عنهم, وكانوا يستغلون أوقاتهم فى القراءة والاستماع إلى النصائح وجمع الخبرات من الآخرين وكانوا يرتبون أوضاعهم ويتعارفون من أجل مواصلة العمل الإسلامى بعد الإفراج عنهم . ولقد شاهدنا عدداً من قادتهم يحاكمون ظلماً وصدرت ضددهم أحكام بالسجن بلا جريرة, وكان الهدف من ذلك إيقاع الرعب فى صفوف الإخوان فيتركون العمل السياسى وبالفعل خرج من بين الإخوان من يدعو إلى ترك العمل السياسى رحمة بأبناء الجماعة وشفقة عليهم حتى يرفع النظام عنهم سيف الاعتقالات, ولكننا قدمنا لهم النصيحة بضرورة الصمود فى وجه النظام وعدم الرضوخ لضغوط الدولة, وعدم ترك التنافس فى مجال العمل السياسى بعد الذى تحقق فيه من إنجازات ولقد وجدنا والحمد لله أن قيادات الإخوان الكبرى تتفق معنا فى هذا الرأى ولم تنسحب من المشهد وواصلت العمل والتضحية حتى أرانا الله ثورة 25 يناير حيث تم فتح باب الترشح للبرلمان وتحقق الكثير من النجاحات التى أكدت الرضا الشعبى الكبير بالتيار الإسلامى وما يتمتع به من ثقة غالية نسأل الله أن نكون عند حسن ظن الشعب بنا. كان هذا طرفاً من مناورات مباحث أمن الدولة فى السجون والمعتقلات من الذى عاصرناه سنوات طويلة ولا شك أن ما يجرى فى مصر كان مروعاً فلقد كانت قاعدة التعامل معنا كتيار إسلامى بل ومع القوى السياسية المعارضة على أنها حفنة من المجرمين لابد من أن يتوبوا إلى رشدهم ولم يكن يسمحون بالبعد السياسى فى التعامل فإذا ذكرنا أنه لابد من عرض الأمور على الحكومة أو المسئولين السياسيين غضب رجال الأمن وأكدوا أن الملف كله فى أيديهم وأن الدولة تتعامل مع جميع القوى السياسية من خلال جهاز أمن الدولة اللهم إلا قلة قليلة التى تصل إلى البرلمان فإن الحزب الوطنى يتعامل معهم بعد أن يعصر ليمونة على مائدة الحوار أقصد يتعامل معهم على مضض وهم يكرهون ذلك . وإذا فتح الحزب الوطنى حواراً مع الأحزاب لا يكون من باب التفاهم الحقيقى بل من باب المناورة الأمنية لتفتيت الحزب من الداخل أو إثارة الفرقة بين الأحزاب وهكذا مؤامرات أمنية لا علاقة لها بالتفاهمات السياسية التى تقوم بها الدول المحترمة. بل إن الحزب الوطنى كان يدير صراعاته من خلال رجال أمن الدولة الذين ساعدوا الحزب فى تزوير الانتخابات وتزييف الإرادة الشعبية والتخلص من الخصوم السياسيين بتلفيق التهم وأحياناً قطع الأرزاق أو الاعتداء عليهم من مجهول الهوية!! وأستطيع أن أزعم أن الشعب حين انطلق نحو مكاتب أمن الدولة واحتل معظمها لم يكن ذلك من فراغ بل كان حصيلة كراهية كرستها ممارسات جهاز لسنوات طويلة صب الشعب غضبه فوق هذا الجهاز الذى لم يرحم شعبه وأذل المواطنين وتدخل فى حياة الجميع الخاصة والعامة ولم يكن هذا الجهاز فى يوم من الأيام يريد مصلحة مصر بل كان ضد كل المصريين حيث تحالف مع الحكام على الباطل وساندهم فيما لا يجوز مساندتهم فيه, وبالتالى فسدت الحياة السياسية وتحول المجتمع إلى صراعات بين القوى الوطنية, وتجاهل أن من أهم مهام الأمن القومى هو تنمية المشاركة السياسية حتى يشعر الجميع أنهم مشاركون فى بناء أوطانهم ولكنه كان يحارب كل من يفكر فى العمل السياسى لأنه من وجهة نظره "منافسة على مقعد الحكم" وهو أمر غير مسموح به لأحد سوى الرئيس المخلوع وابنه من بعده. إننا كنا نعيش حلماً ونحن نسمع ونرى الحشود من المواطنين تقتحم مبانى أمن الدولة وتحرق بعض المكاتب وتصادر بعض المطبوعات التى تحمل أدلة الإدانة لنظام فاسد تهاوى فى أيام قليلة بعد أن قدّم الشعب نحو ألف شهيد وآلاف الجرحى فى مواجهات واسعة النطاق على مستوى الجمهورية .. إن جهاز أمن الدولة المنحل قد انتهى إلى غير رجعة ولن يسمح الشعب بعودته على هذا النحو السابق ولكننا سمعنا ما يسمى بجهاز الأمن الوطنى يقول أصحابه إنهم سيعملون من أجل الوطن وليس من أجل الحاكم، وأن هناك قانوناً لهذا القطاع لابد من صدوره حتى يراه الجميع ويعرفوا حدوده واختصاصاته لأن وجود جهاز للأمن الوطنى دون أن يكون له قواعد حاكمة ونظام معلوم للكافة سيفتح الباب أمام تجاوزات الجهاز كما كان فى السابق . ومن المعروف أن الجهاز المنحل كان لا يحب القواعد أو اللوائح لأنه كان يعمل فوق القانون بل فوق الدستور !! إن الأمن الوطنى الحقيقى يكون فى تنمية المشاركة السياسية وتشجيع العمل السياسى وعدم ملاحقة العاملين فى الحقل السياسى وترك التنصت على المواطنين والعمل على التأليف بين أطياف الأمة وغرس روح حب المواطن لوطنه والتصدى لكل ما يضر البلاد. أما إذا انشغل الأمن الوطنى الجديد بكتابة التقارير عن الجماعات السياسية ووضعها فى القالب المعادى للدولة وأغمض عينيه عن أعمال الجاسوسية والاتجار فى المخدرات والسلاح وتلوث البيئة ونهب الأموال وسرقة خيرات هذا البلد فإننى أرى أن دوره يكون قد انتهى نهائياً والتفكيك فى حقه هو الواجب على الحكومة قبل أن يتدخل الشعب مرة أخرى فى إقصائه. إن التغيير الحقيقى لجهاز أمن الدولة لا بد أن يتم بتنظيف المكان من كل الموظفين القدامى الذين أصبحوا لا يصلحون للعمل وفق النظام الجديد المعلن عنه لأن نفسية الضابط التى يتعامل بها مع المواطنين كانت أشبه بنفسية الملك مع الرعية أو السيد مع العبيد وهذا لن يتحقق فى المرحلة المقبلة، وبالتالى فإن محاولات الجهاز للعودة إلى ماضيه أمر يجب الاحتراز منه وعدم إعطاء الفرصة لهذا الجهاز أن {يتفرعن} مرة أخرى, ويلزم فضح أى حالة تجاوز على الفور لأنه إذا نجح فى الإمساك بمقاليد الأمور مرة أخرى سيكون أسوأ مما سبق نعوذ بالله من ذلك. ونسأل الله أن يولى من يصلح هذا البلد ويجنبنا الزلل والشطط ويعيننا على بناء مصر التى نحبها جميعاً ونضعها فى المقام اللائق بها على المستوى الإقليمى والدولى والله المستعان.