رحَّبت الولاياتالمتحدةالأمريكية قبل أيام بإعلان حركة طالبان الأفغانية موافقتها المبدئية على فتح مكتب لها في العاصمة القطرية الدوحة، كخطوة أولية لبدء الحوار مع واشنطن، باعتبارها طرفًا أساسيًّا في الأزمة الأفغانية الحالية، وذلك نتيجة لسلسلة من الحوارات واللقاءات السرية التي استمرت لشهور طويلة من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة وإنهاء الاحتلال الأمريكي الذي دام أكثر من عشر سنوات. وعلى الرغم من إصرار أمريكا، سواء في عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش أو الحالي باراك أوباما، طوال السنوات الماضية، على الخيار العسكري للقضاء على نظام طالبان، إلا أن تراجع واشنطن في الأيام الأخيرة وعرضها الحوار مع الحركة، بل وقبولها بشروط الحركة بفتح مكتب لها في قطر، وتخلي واشنطن عن شروطها السابقة التي وضعتها للتفاوض، إضافة إلى الإفراج عن ثلاثة من قادة طالبان، يشير إلى أن أمريكا عدلت عن الخيار العسكري ولو بشكل جزئي، والتركيز على خيار التفاوض، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات حول سبب اختيار أمريكا طريق التفاوض في هذا التوقيت بالذات، ومدى إمكانية نجاح هذا الحوار للتوصل إلى حل سلمي وإنهاء الاحتلال. لماذا التفاوض الآن؟!! يرى المراقبون أن هناك عدة عوامل دفعت الولاياتالمتحدة إلى التفاوض مع حركة طالبان، التي كانت تعتبرها حتى وقت قريب (حركة إرهابية)، محظورٌ التعامل أو التفاوض معها، ومن هذه العوامل : أولًا : فشل قوات الاحتلال الأمريكي في حسم الحرب الأفغانية، على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على بَدْء الحرب ضد نظام طالبان، التي لا تزال تتمتع بنفوذ واسع، خاصة في الأقاليم الجنوبية التي تحظى فيها بتأييد شعبي كبير. ثانيًا : حجم الخسائر التي تكبدتها الولاياتالمتحدةالأمريكية في حربها ضد أفغانستان، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الحرب الأفغانية حصدت حتى الآن 1864 جنديًّا أمريكيًّا، وجرحت أكثر من 15 ألفًا آخرين، وكبدت الميزانية الأمريكية قرابة 450 مليار دولار. ثالثًا : الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الولاياتالمتحدة، فخوض حربين كبيرتين (العراق أفغانستان) أرهق كاهل الميزانية الدفاعية الأمريكية، وفي ظل الركود الاقتصادي الراهن، بات تخفيض الميزانية أمرًا ضروريًا للإدارة الأمريكية، وهو ما بدا واضحًا في الخطة الإستراتيجية الجديدة التي أعلنت عنها واشنطن في الأسبوع الأول من يناير الجاري، والتي تتضمن تخفيضًا وصل إلى 450 مليار دولار للميزانية الدفاعية، وتخفيضًا متوقعًا في العام القادم، يصل إلى 500 مليار دولار. رابعًا : فشل حكومة الرئيس الأفغاني، الموالي للغرب، حامد كرزاي، في تحقيق أي تقدم يذكر، سواء فيما يتعلق بالملف الأمني أو القضاء على الفساد، في حين حققت حركة طالبان إنجازات واضحة على الأرض خلال العام ونصف العام الماضيين. خامسًا : أدى مقتل أسامة بن لادن إلى انخفاض شعبية الحرب الأفغانية داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث يرى الكثيرون أن الهدف من الحرب قد انتهى، وذلك بعد القضاء على ابن لادن، وأنه لم تعد هناك ضرورة للبقاء. سادسًا : حالة التململ التي أصابت شركاء واشنطن الأوروبيين بسبب إطالة أمد حرب لا طائل من ورائها، ولا أمل في كسبها أو حسمها. سابعًا : توتر العلاقات بين أمريكا وباكستان، ووصولها لدرجة كبيرة من التدهور، منذ مطلع العام 2011، وهو ما يصعب من مهمة قوات الاحتلال في أفغانستان، فأمريكا لا تستطيع أن تنجح في تحقيق أهدافها العسكرية في أفغانستان بدون دعم باكستاني، ولعل هذا ما دفع واشنطن إلى تبني لغة الحوار بعد توتر العلاقات مع إسلام آباد. ثامنًا : تفاقم الأزمة بين إيران وأمريكا والغرب، بسبب تعارض مصالح الطرفين في المنطقة، ورغبة أمريكا والغرب في إنهاء الطموح النووي الإيراني، ومن ثم أخذت أمريكا في التفاوض مع طالبان، وهو الخصم التاريخي والعقائدي لإيران، من أجل حصار إيران من كل جانب، وقطع الطريق على التقدم الروسي لنجدة إيران حال وقوع صدام بسبب العقوبات المرتقبة على تصدير النفط الإيراني، وفي المقابل فإن طالبان لم تنس أبدًا الجرائم الإيرانية في أفغانستان، ودعم إيران للشيعة الهزارة، الذين قادوا تحالف الشمال الذي اشترك مع العدوان الأمريكي في غزو أفغانستان وإسقاط طالبان عام 2001. تاسعًا : اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث يمكن تفسير تحركات البيت الأبيض وإدارة الرئيس أوباما لإيجاد حل سلمي للأزمة في أفغانستان بأنها جزء من خطة انتخابية لإعادة ترشيح أوباما لولاية ثانية، وإثبات نجاح الحزب الديمقراطي في قيادة السياسية الخارجية الأمريكية بشكل ناجح، بعيدًا عن أية خسائر. عاشرًا : إدراك أمريكا أن سياسة صنع الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية كي تراعي مصالحها وتحفظ هيمنتها وتفوقها على المنطقة أصبحت سياسات بالية، وفي حاجة إلى مراجعة شاملة، فضلًا عن كونه لن يؤدي إلا إلى مزيد من العناد والإصرار الشعبي على رفض السياسات الأمريكية، ولعل هذا هو الدرس المستفاد من ربيع الثورات العربية، التي أكدت أن دعم الأنظمة الديكتاتورية لا يأتي إلا بالسخط الشعبي على كل ما هو أمريكي. وفي النهاية : يدرك الأمريكيون جيدًّا أن الحرب مهما طالت لابد من بلوغ مرحلة التسوية السياسية لإنهائها، ولعل هذا ما دفع واشنطن إلى إبداء نوع من الجدية والمرونة في الوقت نفسه، إزاء المفاوضات مع "طالبان"، عندما أعلنت كلينتون، خلال شهر فبراير الماضي على هامش اجتماع لدول آسيا بنيويورك، أن الشروط المسبقة التي وضعتها واشنطن مثل ضرورة نبذ "طالبان" للعنف أولًا، وقطع صلاتها مع "القاعدة"، وقبول الدستور الأفغاني، أصبحت اليوم جزءًا من الأهداف المتفاوض عليها وليست شروطًا مسبقة. موافقة طالبان وفي المقابل، يشير المراقبون إلى أن موافقة حركة طالبان على بَدْء الحوار مع أمريكا جاء نتيجة لوجود بعض المتغيرات على الساحة الدولية والإقليمية بشكل عام، والأفغانية بشكل خاص. فعلى الصعيد الداخلي: تدرك طالبان جيدًا أن انسحاب قوات الاحتلال من أفغانستان، وذلك بحلول عام 2014، سوف يترك فراغًا كبيرًا يمكن أن تستغله الجارة إيران في دعم حكومة كرزاي الضعيفة، والسيطرة على مجريات الأمور، وبالتالي فإن طالبان تبحث عن دور لها بعد الانسحاب الأمريكي، إضافة إلى أن مقتل زعيم "القاعدة"، أسامة بن لادن، في السنة الماضية، ربما كان له دور في إقناع "طالبان" بفك ارتباطها ب"القاعدة"، التي لم تعد هنالك أي جدوى في استمرار التحالف معها. وعلى الصعيد الخارجي، يرى المراقبون أن المكاسب التي حققها الإسلاميون في بعض بلدان العالم العربي بعد ربيع الثورات العربية، والذي أطاح ببعض الأنظمة الدكتاتورية فيها، قد تدفع الحركة إلى التفكير في العمل السياسي، كسبيل للوصول إلى الحكم. معوقات.. ولكن و على الرغم من موافقة طرفي النزاع على الجلوس إلى مائدة الحوار، إلا أنه توجد بعض المعوقات التي ربما تقف حجر عثرة في طريق التوصل إلى حل للأزمة، ومن هذه المعوقات : 1- الانتقادات الداخلية من الخصوم السياسيين، حيث سارع الجمهوريون إلى اتهام إدارة أوباما بمهادنة "طالبان"، والتفاوض مع الإرهاب، وهي الانتقادات التي ردت عليها كلينتون بالقول: "عندما نجري مفاوضات مع طرف من الأطراف ونجلس معه إلى نفس الطاولة فإننا عادة إنما نقوم بذلك مع الأعداء وليس الأصدقاء، أو الحلفاء، ولا ضير في ذلك حتى لو خاضوا ضدنا حروبًا على أرض المعركة". 2- استمرار السياسات الأمريكية المستفزة، والتي كان آخرها شريط الفيديو الذي يظهر أفرادًا من مشاة البحرية الأمريكية وهم يتبولون على جثث عناصر "طالبان"! فعلى الرغم من مسارعة كل من وزير الدفاع الأمريكي، ليون بانيتا، ووزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، إلى إدانة هذا التصرف بأشد العبارات الممكنة، إلا أن المراقبين يؤكدون أن مثل هذه الاستفزازات الأمريكية قد تعود بالأوضاع إلى نقطة الصفر مرة أخرى. طوق نجاة وفي النهاية يؤكد المراقبون على أنه أيًّا ما كانت الأسباب والدوافع وراء اختيار واشنطن وطالبان طريق التفاوض، فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية جادة في رغبتها في إيجاد طوق نجاة لإنهاء عملياتها العسكرية في أفغانستان بشكل يحفظ لها ماء الوجه، وبالتالي فإن واشنطن لن تضيع هذه الفرصة. ولعل هذا ما يفسر لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون مع رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، للتعبير عن دعم أمريكا لفتح مكتب تابع لحركة "طالبان" في العاصمة القطرية، الدوحة، حيث سيعمل المكتب كمقر تستعد فيه حركة طالبان للدخول في مفاوضات للمصالحة مع الحكومة الأفغانية. المصدر: الإسلام اليوم