على الرغم من أن خارطة تاريخ الأمم والحضارات بشكل عام أصبحت شبه متكاملة الملامح ، بفضل جهود العلماء والمؤرخين المتواصلة بحثا وتنقيبا واستكشافا ، وبفضل بعض التقنيات الحديثة المستخدمة في تحديد أعمار النقوش واللوحات والحفريات التي يعثر عليها من حين لآخر ،على الرغم ذلك ، فإن هناك بعض الفترات التاريخية - وبخاصة علم المصريات Egyptology تتسم بشيء من الضبابية وقدر من الغموض ، فتصبح هناك حلقات مفقودة في التسلسل التاريخي ،وفجوات تحتاج إلى ملئها , وهنا يتدخل المؤرخ مفسرا وشارحا وفقا لاجتهاده الشخصي ومنطلقاته الفكرية والأيدلوجية ،فتنشأ شبكة معقدة من الآراء المتناقضة والمتعارضة ، فتتوه الحقيقة ويتفرق دمها بين قبائل المؤرخين الذين يمكن تقسيمهم الآن إلى اتجاهين كبيرين في قراءة التاريخ ، هما : الاتجاه الديني الذي ترتكز مصادره التاريخية على روايات الكتب المقدسة في الأديان المختلفة كالتوراة والإنجيل والقرآن ، والاتجاه الثاني (العلمي) أو بالأحرى العلماني الذي لا يعترف بمثل هذه الروايات ما لم تكن مقرونة بأدلة علمية ، بل ويعدها نوعا من الأساطير والخرافات ، ولا يلتفت إلا إلى مصادره هو ، من نقوش ولوحات وحفريات وآثار ، وما تم تدوينه على أوراق البردي أو من خلال مؤرخين كانوا قريبين من الأحداث . ونتيجة لتمسك كل طرف بمنهجه وإصرا،ره على رفض المصادر الأخرى أو ،اعتبارها مصادر ثانوية ، حدثت تلك الفجوات في بعض الفترات التاريخية ،والتي يأتي في مقدمتها مسألة وجود بني إسرائيل في مصر . فالمصادر الدينية المتنوعة تتفق على ذلك ، لكن العجيب أن المصادر الأخرى (العلمية) أو العلمانية ترفض هذا الأمر رفضا قاطعا ، ويعتبره البعض أسطورة توراتية يهودية تضاف إلى مجموعة الأساطير اليهودية التي أثرت سلبا على كثير من الشعوب والديانات والتي شوهت كثيرا من الأحداث التاريخية ! هناك ما يشبه الإجماع بين المؤرخين على عدم ذكر كلمة إسرائيل في المصادر التاريخية باستثناء ما يعرف بلوحة "مرنبتاح" أو Merneptah Stele التي اكتشفت عام 1868 على يد عالم الآثار الإنجليزي Flinders Petrie الذي استعان بدوره بعالم اللغويات الألماني Wilhelm Spiegelberg لترجمة النص المكتوب على اللوحة و، قد أصيبا العالمان بالدهشة لورود هذه الكلمة I.s.ir.ia.r للمرة الأولى في النقوش المصرية ، فاقترح Petrie أن تكون إشارة إلى شعب بني إسرائيل ، كما توقع أن يكون اكتشافه هو الأعظم في منجزه الأثري ، وذلك لإدراكه لطبيعة المعركة المنهجية بين الاتجاهين التاريخيين المتناقضين الديني والعلماني ، وقد كان.. حيث أثير جدل كبير ولا يزال حتى الآن بخصوص هذه الكلمة ، وانقسم المؤرخون ثانية حول تأويلها بين من يعتبرها انتصارا لرواية الكتب المقدسة التي تؤكد وجود بني إسرائيل في مصر القديمة وبين من يرفضون هذا التأويل مشككين في مدلول الكلمة بل، و يحاولون قراءتها بطريقة مغايرة لتكون Jezreel ، و المقصود بها وفقا لتأويلهم أحد السهول في فلسطين ، وقد ذهب البعض إلى اتهام الطرف الآخر بالتلاعب في طريقة قراءة النقش ذاته . وكان من نتيجة عدم وجود ذكر لبني إسرائيل في الآثار المصرية القديمة إعلان كثير من العلماء والمؤرخين العلمانيين رفض وجود نبي الله موسى ، ورفض قصة الخروج Exodus برمتها ، معتبرين تلك الروايات الدينية مجرد أساطير اختلقها العقل اليهودي المتآمر نتيجة بحثه عن أي دور تاريخي ، لشعوره بالضآلة أمام عبقرية وشموخ الحضارة المصرية القديمة . ولأن هذا الأمر يتعارض مع المسلمات الدينية لدى المسلمين واليهود والمسيحيين ، فإننا نحاول أن نبحث عن حلول توافقية تتفق مع الدين والعلم معا ب،دلا من الإصرار على ثنائية إما العلم و إما الدين . لابد إذن من إعادة تقييم ما يسمى بالمنهج العلمي المتبع في علم المصريات Egyptology بحثا عن تلك الفجوات التي أحدثت هذا الاستقطاب الحاد بين المدرستين الدينية والعلمية . الهكسوس من وجهة النظر العلمية والتاريخية : يؤكد كثير من الباحثين أن من يعرفون بالهكسوس لم يدخلوا مصر من خلال مواجهات حربية ك،ما يشاع بل من خلال هجرات جماعية نزحت إلى مصر ، ويرجح أكثرهم أن تلك الهجرات ربما كانت بسبب المجاعات في ذلك الوقت . تقول الباحثة البريطانية شارلوت بوث Charlotte Booth : For some unspecified reason , at the end of the Middle Kingdom a large influx of People from the area of Palestine and Syria came to the region. لسبب غير محدد ، و في نهاية الأسرة الوسطى ، حدث تدفق كبير لبعض الناس الذين كانوا في منطقة فلسطين و سوريا وجاؤا إلى تلك المنطقة .
و يصف المؤرخ المصري القديم مانتيون Manetho.. الهكسوس بأنهم : لفحة من الإله، قوم من جنس غامض ، دخلوا أرضنا بلا ضربة واحدة . ثم تحدث عن تدرجهم في التوغل والسيطرة حتى أصبحوا حكام البلاد ، وحتى أصبحت بعض الأسر ومنها الأسرة الخامسة عشرة من الهكسوس ! ويؤكد بعض المؤرخين أن الهكسوس حكموا مصر بكاملها ، وليس الدلتا فقط ، بل امتد حكمهم من عاصمتهم أفاريس حتى صعيد مصر . تقول الموسوعة البريطانية : الهكسوس مجموعة مختلطة من أجناس سامية آسيوية هاجرت إلى مصر مع بداية القرن الثامن عشر قبل الميلاد ، واستوطنوا الدلتا . وهذا التاريخ يتفق إلى حد كبير مع الاتجاه الديني الذي يرى بأن بداية قدوم بني إسرائيل إلى مصر يتراوح بين 1800 و 1600 قبل الميلاد . كما يتفق أيضا مع المسلمات الدينية في أن النبي يوسف عليه السلام وصل إلى أعلى المناصب . لذلك يمكن القول بأن المصريين لم يطلقوا على هؤلاء اسم بني إسرائيل بل ، سموهم الرعاة أو الحكام الأجانب ، وهو أمر طبيعي تجاه أناس وصلوا إلى الحكم دون رغبة أهل البلد الأصليين ، وخصوصا أن شعائرهم وعبادتهم كانت تتناقض مع عبادة المصريين القدماء ما أدى إلى استفزاز المصريين والثورة ضدهم حتى تم طردهم على يد أحمس . لكن يبدو أن هذا الطرد لم يكن لكل هذه المجموعات التي استوطنت مصر القديمة ، بل تم طرد الطبقة الحاكمة ومن عاونهم ضد المصريين فقط . وهذا يفسر ما تقوله المصادر الدينية من أن فرعون اضطهد بني إسرائيل وسامهم أشد أنواع العذاب باعتبارهم بقايا (الهكسوس) الذين خالفوا المصريين في عبادتهم ، بل وسيطروا على بلادهم في فترة من الفترات ، كما يفسر أيضا جملات الفراعنة الحربية على منطقة الشام وفلسطين انتقاما من أجدادهم بني إسرائيل أو الهكسوس. بقيت نقطة تتعلق بآية قرآنية ، وهي قوله تعالى في سورة المائدة : و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا .. حيث إن أغلب و أشهر التفاسير تعتبر أن كلمة ملوكا تعني من كان له بيت و زوجة وخادم ، لكننا نستطيع أن نقول باطمئنان : إن الآية إشارة أيضا إلى حكم بني إسرائيل لمصر ، وقد ورد في قائمة أسماء بعض الأسر التي حكمت مصر في عهد الهكسوس أسماء عبرية واضحة منها يعقوب . إن عجز الفريق الذي يزعم اتكاءه على المصادر العلمية عن تقديم خريطة معلوماتية واضحة عن هؤلاء الهكسوس ، و اكتفاءه بعبارات مرسلة مطاطية من قبيل : شعوب سامية ، يعد نقطة ضعف في منهجهم العلمي وي،جعلنا نطمئن إلى مصادرنا الدينية التي لا يمكن أن تتعارض مع المنهج العلمي بشرط أن يكون منهجا صحيحا ومتكاملا .