كان لتصريحات نائب الرئيس السوري السابق "عبد الحليم خدام" بشأن اتهام نظام بلاده بالمسئولية عن مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شهر فبراير من عام 2005 أثرا شديدا في الشارع العربي الذي استقبل التصريحات بشيء من الدهشة وكثيرا من الابتسامة المحملة بالأسى .. فبالأمس كان خدام واحدا من أعمدة النظام السوري الذي يشارك في التخطيط والتنفيذ والدفاع والتبرير عن كل ما يسلكه النظام وهو ما كان حاجزا قويا ومقنعا عن أن يتخيل أحد أن ينقلب خدام - بعد استقالته من منصبه - بهذه الصورة التي ظهر عليها خلال تصريحاته فإدانة النظام السوري تعني إدانته هو شخصيا كما تعني دخوله عش الدبابير حيث سيتم فتح الكثير من الملفات المسكوت عنها والتي تخص ذمته المالية ووضع أسرته وتقييم أداءه السياسي . (1) والأهم في هذه التصريحات هو استقبال المجتمع الدولي لها فالرجل ليس شاهدا عاديا فقد احتل ولعقود منصب نائب رئيس الجمهورية فضلا عن موقعه المتقدم في قيادة حزب البعث الحاكم وهو الموقع الذي أهله ولفترة طويلة من أن يطلع على خطط وأسرار الدولة السورية مما يعطي مصداقية كبيرة لتصريحاته التي تنطلق عن علم ومعرفة بمجريات الأمور والأحداث .. كما مثلت هذه التصريحات صدمة كبيرة لدى القيادة السورية التي لم يكن في حسبانها أن تأتيها طعنة بهذه القوة من رجل تسترت على فساده وفساد أبناءه طوال مكوثه بالسلطة – حسبما أعلنت هي بعد ذلك !- .. فيما تباينت ردود الفعل لدى الشارع السوري الذي يعاني أغلبه كما يعاني الشعب العربي من قهر واستبداد الأنظمة العربية ومع ذلك فقد استشعر البعض منهم الكثير من الاستياء إزاء هذه التصريحات التي ربما تكون البوابة المنطقية لتزايد التدخلات الأجنبية في الشأن السوري فضلا عن إعطاء المبرر لممارسة المزيد من الضغوط ..وهو نفس ما استشعره بعض النشطاء العرب الذين يتوجسون من أن تكون سوريا الهدف الأمريكي بعد العراق لذا كان خيارهم الإسراع في تقديم الدعم السياسي والمعنوي للقيادة السورية باعتبارها قيادة مقاومة وصامدة في وقت خنعت فيه أغلب الأنظمة العربية للإمبريالية الأمريكية. (2) كما عملت هذه التصريحات على أن يستعيد البعض أحداث المشهد العراقي المؤسف من جديد ناسجين في تبعاتها ما يمكن أن يحدث لسوريا .. فها هو نظام يتم الخلاف حول تقييمه هل هو نظام مقاوم وصامد ويرفض التطبيع والتنازل لصالح الكيان الصهيوني أم أنه نظام مستبد يستأثر بالسلطة ويذيق شعبه ويلات القهر والديكتاتورية وهو نفس ما حدث مع صدام حسين ..وتبدأ عمليات الاستقطاب في كل الدول العربية وتعقد الندوات والمناظرات الكلامية ما بين مدافع عن الحرية والديمقراطية حتى ولو جاءت على ظهر دبابة أمريكية وما بين مدافع عن النظام السوري الذي رفض ما تمليه عليه القوى الإمبريالية .. ثم تحدث الكارثة ونستيقظ صباح يوم جديد لنجد عاصمة الخلافة الأموية وقد أصبحت شوارعها وقد امتلأت بقوات المارينز كما حدث مع عاصمة الخلافة العباسية من قبل . ولاستكمال السيناريو فكان لابد من أن تبحث أمريكا عن أحد المقربين للنظام السوري مثلما حدث مع العراق حيث استغلت زوج ابنة صدام حسين الذي كشف زورا عن امتلاك العراق لأسلحة نووية وبعدها تكون اعترافات مثل هؤلاء المسئولين وشهاداتهم وثيقة إدانة لا يمكن ردها ضد النظام المستهدف ..وفي الحالة السورية كان عبد الحليم خدام هو ذلك المسئول . (3) والسؤال الذي يلح على الجميع لماذا فعل خدام ذلك ؟ هل هي خيانة للوطن ؟ أم أنها صحوة ضمير انتابته وأراد أن يبرأ ذمته من دم الحريري ؟ أم أنه استشعر جدية أمريكا في إسقاط النظام السوري وسارع في السعي للحصول على الموقع المناسب لما بعد بشار الأسد ؟ كذلك لماذا اختار خدام هذا التوقيت بالذات ليدلي بتصريحاته هذه ؟ ولماذا لم تكن قبل ذلك وخلال التحقيقات الأولية التي أجريت حول مقتل الحريري ؟ بالتأكيد ليس ما فعله خدام محض مصادفة ولا هو صحوة ضمير انتابته فجأة وقرر معها أن يتخلص من جرائم النظام السوري الذي يمتلأ سجل ضحاياه من الأبرياء بالآلاف من السوريين ما بين قتلى لعل كان أسوأها مذبحة " حماة " في عهد الرئيس الأب حافظ الأسد والتي راح ضحيتها ما يقرب من 20 ألف سوري وما بين معتقلين يملئون سجون سوريا وصل اعتقال بعضهم إلى ما يقرب من ربع قرن فقدوا الأمل في أن يروا نور شمس الحياة مرة أخرى .. كذلك فصاحب التصريحات وصل إلى ما وصل إليه على جثث أبناء وطنه من السوريين الذين شارك خدام وساهم في استذلالهم وتسليط سيف القهر على رقابهم .. وصاحب التصريحات يدلي بتصريحاته من قصر بالعاصمة الفرنسية " باريس " لم يكن ليملك ثمنه إلا عبر نهبه لقوت الشعب السوري واستغلال منصبه .. فليس ما فعله خدام إذا محاولة تطهير نفس تستشعر أنها تستدبر الدنيا وتستقبل الآخرة . وليس الشعب السوري بالسذاجة التي تجعله يستقبل مبررات خدام بإدلائه لهذه التصريحات بأنه خير بين الوطن وبين النظام السوري فاختار الوطن وهو المبرر الذي ربما يصيب الكثيرين بهستريا من الضحك فليس ثمة وطن ولا وطنية لدى هؤلاء الذين كانوا حجر عثرة وقفت ولعقود أمام محاولات استنهاض الأمة وتحرير شعوبها . (4) ومع ذلك فقد استطاع خدام أن يراهن على استقطابه للمعارضة السورية في الخارج واكتساب تعاطف المعارضة السورية في الداخل حيث يصبح تضامن هؤلاء أو حتى مجرد دعمهم له بمثابة حصانة له ضد اتهامه بالخيانة والعمالة لأمريكا أو غيرها فضلا عن أن اتهامه من قبل النظام السوري بالفساد سيكون وثيقة إدانة جديدة تضاف لسجل النظام الذي سيتحرج ألف مرة من أن يكشف عن تفاصيل هذا الفساد .. فكيف سكت النظام على كل ذلك طوال المدة الماضية ؟ الأمر لا يعدو عن كونه رغبة قوية من عبد الحليم خدام في أن يستمر لاعبا أساسيا في مجريات الحدث السياسي في سوريا فهو ضد التهميش والاستبعاد ويأبى الرجل أن يكون في الظل .. وبما انه خرج من منصبه فلا مانع من أن يدخل دائرة المعارضة التي أراد أن يدخلها من أوسع أبوابها وأكثر قضاياها سخونة في الوقت الراهن وهو قضية مقتل الحريري والتي بها يصبح في صفوف المعارضة ويحظى بالرضا الغربي .. فما نطق به خدام لم يكن أثر ضغط أو صفقة تم عقدها بين واشنطن وخدام أو حتى بين باريس وخدام فليس ثمة ما تملكه أمريكا أو فرنسا ما يمكن به إغراءه خدام الذي أعطى المال والسلطة . والرجل يدرك جيدا أن ما سيثار حول اتهامه بالفساد واستغلال سلطاته لن يتعدى حديث مقاهي وصحف ستتجاوزها الأيام ويبقى هو ودوره الجديد في دائرة الضوء التي ستجعل منه فاعلا أساسيا . وهنا يتضح جليا خطأ النظام السوري الذي فشل في احتواء خدام والحفاظ على كونه واحدا من المخلصين للنظام ولسياساته .. ولعل ذلك سيدفع النظام إلى مراجعة حساباته من جديد والإسراع في احتواء ملفات أخرى ربما لو تركت ستفتح نار جديدة . (5) غير أنه ومع كل تلك الضجة فإن ما قام به خدام لا يضيف إلى تطور النزاع الأمريكي السوري إلا ما يشبه إضافة القليل من " البهرات " التي تزيد " الطبخة " شيء من السخونة فالموقف الأمريكي لم يكن ليغيره أو يحوله مثل هذه التصريحات .. واعتقاد غير ذلك هو ما يهدف إليه العقل الأمريكي الذي يرغب في أن يبتعد بنا إلى هوامش القضية لا الأصل فيها ويشغلنا بالخوض في تحليل موقف خدام في الوقت الذي يمارس فيه أشد الضغوط على النظام السوري من أجل تحقيق أهدافه . (6) والأرجح لدى العديد من المحللين السياسيين أن توجيه ضربة عسكرية أمريكية لسوريا أمر مستبعد في الوقت الحالي خاصة وأن أمريكا ما زالت تنزف في العراق التي مر على احتلالها ما يزيد عن عامين دون أن تتمكن من إخماد نار المقاومة التي تتأجج يوما بعد يوم في حين تتصاعد كذلك وتيرة صراعها مع إيران بشأن بعد قرار طهران باستئناف نشاطها النووي . ومن حسن الأقدار أن تكون سوريا وإيران من الدول المجاورة والملاصقة للعراق وهو ما يمكنهما من استخدام حدودهما مع العراق كأداة للضغط على أمريكا وذلك عبر زيادة الدعم الموجه للمقاومة العراقية التي تدخل في معركة مباشرة مع القوات الأمريكية وهو ما يؤثر بالسلب على القرارات الأمريكية إذا ما فكرت في اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية لأي من البلدين .. ونظرا لأن البيت الأبيض ذاته يدرك ذلك فإنه سيتردد ألف مرة من اتخاذ مثل هذه القرارات وهو ما يدفعه إلى وضع بدائل أخرى للتأثير على النظام السوري وهي البدائل التي ستشمل بطبيعة الحال فرض عقوبات اقتصادية على سوريا فضلا عن تكثيف الضغوطات الدبلوماسية وبلورة الإملاءات والشروط التي يجب أن تستجيب لها سوريا وتعمل على تنفيذها . فأمريكا ليست جادة في توجيه ضربة عسكرية وليست جادة كذلك في تغيير النظام السوري وترك الحرية للشعب السوري في اختياره قيادته بشكل ديمقراطي .. وما تهدف إليه أمريكا تعرفه جيدا ويعرفه النظام السوري . (7) والملفات التي تحكم العلاقات السورية الأمريكية متعددة وليست مقتصرة على ملف اغتيال الحريري وإن كان هو الباب الذي استخدمته أمريكا لتصعيد الموقف مستغلة الغضب الشعبي اللبناني .. فدم الحريري واغتياله لا يمثل لدى البيت الأبيض الأمريكي إلا كونه قميص عثمان أما الحريري ذاته فلا يمثل أي قيمة لدى الإدارة الأمريكية وإلا فلماذا لم تتحرك أمريكا تجاه قضية الرئيس الفلسطيني اغتيال ياسر عرفات ؟ فأمريكا منشغلة تماما بأمن الكيان الصهيوني الذي أصبح النظام السوري بدعمه للمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان " حزب الله " واستضافته للقادة والمتحدثين الإعلاميين لحركات المقاومة الفلسطينية ومعلوماتها حول عبور عناصر مسلحة من المقاومة العربية والإسلامية إلى العراق عبر حدودها هو أخر الأنظمة التي تشكل خطرا كبيرا على هذا الأمن خاصة بعد رحيل صدام حسين الذي لم يفتأ يردد اعتزامه بضرب " تل أبيب " .. لذلك فهي تسعى بكافة السبل إلى إزالة هذه الأخطار في الوقت الذي تدرك فيه صعوبة التدخل العسكري في حين لم تنهي بعد من الملف الأفغاني أو العراقي أو استيضاح الوضع في إيران . (8) ومع قدرة النظام السوري الذي يتميز بذكائه السياسي على احتواء الكثير من الملفات سابقا إلا أن أمريكا تمكنت هذه المرة من أن تضعه في " حيص بيص " بعد أن استطاعت أن تدعم موقفها بتأييد العديد من الدول الأوروبية ذات النفوذ القوي فالأمر هنا يتجاوز القضايا التقليدية التي يمكن الاتفاق عليها أو الاختلاف حولها كمشروعية المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية مثلا .. لكنه مرتبط بالحق الدولي في معاقبة المسئولين عن اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الذي تشير الكثير من الأدلة على تورط النظام السوري في اغتياله . وما من مفر أمام النظام السوري إن تعامل مع الأمر بمنهج براجماتي إلا أن يلاعب الطرف الأخر بالأوراق التقليدية التي يخفيها وراء قميص الحريري فنجده يتخلى عن دعمه ولو ظاهريا أو مؤقتا لحزب الله اللبناني ونجده يطالب قيادات الفصائل الفلسطينية المقاومة بالسفر إلى دول أخرى أو الكف عن ممارسة أنشطتهم السياسية على الأراضي السورية ونجده وقد اجتهد قدر جهده في إحكام السيطرة على الحدود مع العراق فضلا عن تقديم الدعم اللوجستي على هذه الحدود للقوات الأمريكية . ولا يعين النظام السوري في أزمته تدخل المملكة العربية السعودية أو النظام المصري للتوسط بينه وبين الإدارة الأمريكية فالطرفان ربما يمثلان ساعي البريد الذي ينقل المطالب الأمريكية للنظام السوري مع التلويح بالنية السوداء للبيت الأبيض والتي تمثل تهديدا مباشرا لنظام الأسد .. كذلك فالدولتان " مصر والسعودية " منشغلتان تماما في ملفاتهما الخاصة والتي تدفع الدولتين إلى أن تسعيا جاهدتان إلى استرضاء أمريكا من أجل إرجاء فتح هذه الملفات أو التخفيف من حدة تعاملها معها . الأزمة محك حقيقي لاختبار النظام السوري – بمفرده- ومقياس لمدى قدرته على الدخول في مواجهة مباشرة مع العدو الحقيقي للأمة بدلا من اعتياده على الحرب من خلف آخرين .كما أنها ربما تكون فرصة مواتية لأن يحدث مصالحة مع الشعب السوري الذي سيكون في الصفوف الأولى من المواجهة .