مازال تشي جيفارا، الثوري الكوبي ، الذى ينتمي إلى المذهب الماركسي، يذكر اسمه فور حدوث أي ثورة من الثورات، أصبح رمزا للثورة وأيقونة النضال ، خاض مع فيدل كاسترو ثورتهم على النظام الكوبى فى رحلة نضالية حكاتها الكتب والأساطيرحتى تحقق لهم النصر، وغدا المناضلان رجلان دولة وبرز اسمهما عاليا لما قدماه من بطولات في الثورة الكوبية، الا ان جيفارا ضاق ذرعا من تدخلات الاتحاد السوفيتى فى شئون ثورتهم فترك كوبا متوجها لدول امريكا اللاتينية مستكملا مسيرته نحو تحرير البلاد ،حسب قناعته، من براثن الانظمة الاستعمارية، واثر زميل كفاحه فيدل كاسترو ان يحتفظ بمنصب الزعيم ورجل الدولة ولم يتركه الا بعد خارت قواه البدنية والعقلية تاركا المنصب لشقيقة. الفرق بين الاثنين جليا، انطلق جيفارا لتحقيق افكاره التى آمن بها ودفع حياته ثمنا لمبادئه، فاحترمته شعوب الارض قاطبة، وأصبح ايقونتها منذ أكثر من نصف قرن، ولا تفارق صورته ومسيرته مخيله كل ثوار العالم، فى حين امسك زميل الكفاح بتلابيب المنصب فأصبح نسيا منسيا تاه اسمه فى زحمة الأحداث وزحف الأيام. فكان ذلك الفضاء الكبير بين المتمسك بمبادئه وبين القابض على الكرسى . وتعاظم مصطلح الدولجية فى مصر بعد الإطاحة بالدكتور محمد مرسى فى 30 ونية 2013 من خلال ارتباك فى المشهد وأداء للنخبة تخلت فيها عن كل ما زعمته سلفا من أفكار ومبادىء وانحازت للقفز على نتائج الصندوق بالمظاهرات والنزول إلى الشارع، ثم هى نفس النخبة وتلك الأشخاص التى حرمت بقانون التظاهر بعد ذلك وأيدت سجن من اعترض على القانون او تحدته .. صحيح ان انطلاق مصطلح الدولجية كان هدفه التحقير والإستهزاء فى بادئ الأمر، لكنه عكس تصوراً واقعيا بالفعل على فئة أثرت المنفعة على المصلحة العامة . من مظاهر الدولجية وأدواتهم التى تحولت بانتهازيتهم إلى عقيدة يستخدمونها لتمرير اجراءات وممارسات ضد طبيعة تكوين الدولة وأساس نشأتها، بل اضحت مقصلا يستخدم فى استئصال فصيل آخر بزعم عدم وطنيته، وابعاده من حركة المجتمع والمشاركة الايجابية فيه . وقد ارتبطت الليبرالية – أو هكذا يزعمون- بالدفاع عن حرية الرأى وسيادة القانون وحقوق الإنسان والتداول السلمى للسلطة من خلال انتخابات دورية تنافسية ، أى هى منظومة مناوئة تماما للقمع وديكتاتورية السلطة، غير أن حال الليبراليين فى مصر انحاز للممارسات السالبة للحريات، وتعاون معها نظير «الحماية والعوائد» مضحين بالديمقراطية، من خلال رؤية د. عمرو حمزاوى لهم، بل "يقدمون «خدمات قيمة» لتمكين السلطوية تارة بتبرير العصف بسيادة القانون وأخرى بقبول توظيف القمع والتهديد الدائم به للقضاء الفعلى على حق المواطن فى الاختيار الحر وبالصمت على المظالم والانتهاكات المتراكمة وبقبول المشاركة فى مجال عام تجرده السلطوية من العقل عبر فرض الرأى الواحد على وسائل الإعلام وتنزع عنه المضمون التنافسى عبر إماتة السياسة كنشاط حر تعددى والاحتفاظ الظاهرى ببعض طقوسها كالانتخابات معلومة النتائج سلفا" . ولأن الدولجية غالبتهم من التيار العلمانى ومدعيين المدنية والفكر الليبرالى، فكان لابد من تفنيد اطروحاتهم وردها فى نحرهم، ففى دراسة اعدها الباحثان الأمريكيان جون اسبوسيتو ومحمد مقتدر خان، "حول الدين والسياسة في الشرق الأوسط". نشرت ضمن كتاب "الشرق الأوسط- محاولة للفهم"، أشارا إلى مصطلح "الاصولية العلمانية" اذ تحدثت الدراسة عن أن تحيز نفر من الباحثين إلى العلمانية بتحول النظرية إلى عقيدة. وفى رأيهما انها أصبحت أيديولوجية مسلماً بها. وبمرور الزمن اكتسبت الفكرة قداسة وصارت معتقدا يقوم على الإيمان. وبات بعض علماء الاجتماع يستشعرون كراهية فطرية وغريزية للدين. وهؤلاء لم يعودوا متحيزين ضد الدين فحسب، وإنما أصبحوا يناصبونه العداء فى كل كتابتهم وسلوكياتهم. وأصبحت العلمانية حائط صد لإقصاء الدين عن المجال العام من خلال المطالبة بفصل الدين عن الدولة، واعتبارها فكرة مقدسة مخاصمة مع التيار الإسلامى . وكانت التجربة التركية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية وتفكيك اواصرها الانموذج الاشد ضراوة فى تحويل العلمانية من فكر فضائى إلى عقيدة فرضت ايقاعها على الدولة اكثر من نصف قرن، دفعت تركيا جراء هذا الفكر ثمنا غاليا بفعل الانقلابات المتتالية على التجارب الديمقراطية . ويرى الباحث الماركسى العراقي هادي العلوي فى كتابه "المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة" : بأن "الإسلام، الذي يزيد خطره على غيره. بل هو الخطر الوحيد الأوحد، بعد أن أعاد هذا البعض ترتيب قائمة الأعداء لتشتغل بالإسلام، حيث يصبح أعداء الأمس أحباباً... فلم تعد الرأسمالية الاحتكارية ، ولا الاستعمار ولا سليلته إسرائيل من بين الأعداء. بل هم في نهاية الأمر حلفاء في هذه الحرب المصيرية على الإسلام" . ومن هنا كان التوصيف المناسب لتلك الفئة بالدولاتية أو الدولجية نظرا لانتهازيتهم والانضواء تحت راية الرابح أيا كانت أيديولوجيته، ولا يتورعون عن التحالف مع المؤسسة العسكرية ومع الأجهزة الأمنية لإلغاء الإجراءات الديمقراطية بزعم القضاء على «الإسلاميين» واكتسب هذا التوصيف الكثير من المصداقية للأدوار التى لعبتها الأحزاب ونخب فكرية منذ اندلاع ثورة يناير،وتمخض المشهد السياسى الآن من خلال هذا العبث بإماتة العمل الحزبى والسياسى بعد فرض الوصاية السلطوية على المواطن وسلب حرية الاختيار باعتباره قطيع يوجه ولا يختار . فلم يخرج مصطلح الدولجية أو الدولاتيين للعلن بغرض التهكم من فصيل على آخر بقدر ما كان تعبيرا دقيقا على نخبة ظلت تردد سنوات عديدة الكثير من الافكار الليبرالية والتمسح بالعلمانية وزعمها الوقوف مع الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الخلابة، غير أنها انقلبت سريعا على تلك المزاعم بعد أن فقدت مواقعها، وخسرت نفوذها وكشفت زيفها، وادرك الشعب المصرى انهم قطيع لا يرى إلا مصلحته ولا ينحاز الا للمنفعة حتى لو كانت على حساب معتقداتهم أو ضد مصلحة الأمة، ويزداد الأمر غيظا أنهم قدموا مبررا لبلوغ هدفهم أن معركتهم الحقيقية هى مع الشقيق وليست مع العدو، وأن الإسلاميين هم الخصم الحقيقي وليست إسرائيل .