تبنَّت تركيا موقفًا متدرجًا في التصعيد تجاه أسلوب معالجة النظام السوري للاحتجاجات التي شهدتها سوريا؛ حيث عبَّرَت مع بداية الأزمة عن تأييدها للإصلاحات التي وعد بها الأسد، وظلَّت الاتصالات الرسمية قائمة بين البلدين حتى زيارة وزير الخارجية التركي «أوغلو» لسوريا أغسطس الماضي. في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس «أردوغان» في أكثر من مناسبة دعمه لمطالب المحتجين، واستضافت فيه البلاد مؤتمرات واجتماعات المعارضين السوريين. ولكن مع ذَهاب النظام السوري بعيدًا بحملته لقمع الاحتجاجات، وتزايد أعمال العنف، وعبور آلاف اللاجئين السوريين إلى تركيا؛ زادت حدة الخطاب الرسمي التركي بوضوح. وبدا أن معادلة الجمع بين الإبقاء على العلاقات مع النظام السوري ودعم المعارضة غير قابلة للاستمرار، خاصة في ضوء ضغط الرأي العام الداخلي التركي والسوري والعربي والدولي. ومن ثم قطعت تركيا كل صلاتها - رسميًّا على الأقل - بحليفتها السابقة. بعد خطوة تعليق الجامعة العربية لعضوية سوريا فيها، بدأت تركيا تتجه نحو تشديد الضغط الدبلوماسي والاقتصادي على النظام. حيث أوقفت المشروعات المشتركة للتَّنقيب عن النفط، كما لوَّحَتْ بقطع إمدادات الكهرباء، وأعلنت أنها تفكر في فرض عقوبات اقتصادية. كما أن سماحها للجنود المنشقين عن الجيش السوري بالإقامة في مخيمات اللاجئين، كان بمثابة سعي منها لإظهار قدرتها على القيام بشئ غير خطابات النتديد. ومع ذلك يمكننا القول أن تركيا تواجه معضلة كبيرة في موقفها من الأزمة السورية. فالأحداث في سوريا أظهرت محدودية النفوذ التركي و ضعف قدرته على التأثير في النظام السوري من أجل تغيير منهجه الأمني للاحتجاجات التي تشهدها البلاد، و إيقاف آلة القمع الذي لا يتوانى النظام عن استخدامها. في الوقت الذي لا تتوقف فيه الاحتجاجات - وإن تقلصت- بل تنحو منحى «العسكرة». تعلم تركيا أن النظام السوري غير قابل للبقاء بحالته الراهنه، إلا أن التحدي الذي تواجهه تركيا هو احتمال أن تستمر هذه الحالة لفترة طويلة، أي استمرار حملة قمع المحتجين، واستمرار التظاهرات المناهضة للنظام، مما يجعل من احتمالات أن تؤول الأمور إلى الفوضى أو الحرب الأهلية كبيرة. وبالتالي فعلى المدى البعيد تسعى تركيا إلى دعم بديلٍ للنظام السوري القائم يستند إلى الأغلبية السنية، يصبح أكثر استقرارًا، وأقدر على تأمين العلاقات بينهما. ولعل الاتصالات المستمرة التي تطورها بسرعة مع جماعات المعارضة السورية لرئيسة ودعمها، تشير إلى هذا الاتجاه، إلا أنها حتى الآن لا تملك لا النفوذ ولا القوة اللازمين لإحداث مثل هذا التغيير. كما أن المعارضة بالأساس لا تتمتع بما يؤهلها لتقديم نفسها كبديلٍ للنظام. وإلى أن يحدث هذا يواجه الساسة الأتراك مخاطر كبيرة لتداعيات أي مسار تتخذه الأزمة السورية؛ ففي حال تجنبهم الدفع باتجاه الإطاحة «الأسد»، ومن ثم بقاء الوضع على ما هو عليه وتصاعد العنف، فإن المصالح الاقتصادية التركية ستتضرر بشدة، فضلا عن أن رهان نظام الأسد على الدعم الإيراني مع تزايد العزلة الدولية، يهدد تركيا بخسارة سوريا لفترة طويلة. كما أن لجوء تركيا إلى مثل هذا الخيار يمثل مصدر أساسي من مصادر القوة الناعمة الذي مثل رافعة لسياساتها في المنطقة، ألا وهو موقف الرأي العام العربي الإيجابي تجاه تركيا. بلا شك أن سقوط نظام الأسد سيشكل هزة كبيرة للمشرق بأكمله، بما قد يجلبه من مشاكل أمنية وسياسية كبيرة للمنطقة. وبالنسبة لتركيا فالأمر يتعلق بقضية في غاية الحساسية للأمن القومي للبلاد، ألا وهي القضية الكردية، فقد يدفع التدهور الأمني الذي قد يعقب سقوط نظام الأسد إلى بروز نزعة انفصالية لدى الأكراد السوريين تغذي نظيرتها في تركيا. ناهيك من خطر تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين عبر الحدود. تمتلك تركيا القدرة الفنية للتدخل العسكري في الأراضي السورية، قد يكون في شكل إقامة منطقة حزام أمني على الحدود؛ تمنع عبور اللاجئين إلى حدودها وتوفير ملاذٍ للمنشقين من الجيش. ولكن على الرغم من ذلك، لا توجد مؤشرات على إقدام تركيا على مثل هذا الخيار، الذي من الممكن أن يدخلها في حرب مفتوحة مع النظام السوري، قد يلجأ فيها الأخير، مع تعرض وجوده لمثل هذا الخطر الشديد، إلى دعم الانفصاليين من الأكراد الأتراك، وخاصة حزب العمال الكردستاني الذي كثَّفَ نشاطاته في الفترة الأخيرة. وفي حين أن مثل هذا التدخل قد يوفر للمعارضة في الداخل، وخاصة الجنود المنشقين عن الجيش دعمًا مهمًا في معركتهم مع قوى النظام الأمنية والعسكرية، إلا أن المرجح ألا ترحب به كثير من الأطراف الإقلمية والدولية، فقد ترى إيران في هذا تعديًا على منطقة نفوذ لطالما مثلت لها موطئ قدم لها في المشرق العربي، كما أن معارضة روسيا لن تكون غائبة، في الوقت الذي قد يجد فيه حلف الأطلسي نفسه متورطًا في حرب أخرى بحكم عضوية تركيا في الحلف. إزاء غياب أيَّة بوادر تغير على المعالجة الأمنية الفجَّة للنظام السوري لإنهاء الاحتجاجات المستمرة منذ ثمانية أشهر، وارتفاع كبير في أعداد القتلى، تتصاعد الضغوط الإقليمية والدولية على النظام، فضلا عن ضغط الاحتجاجات المستمر. لكن حتى الآن لا يبدو أن النظام السوري في طريقه إلى الانهيار بسرعة، على الأقل في المدى القريب، ولكن ليس معنى هذا أن له مستقبل. بين هذين الحدين تبحث تركيا عن خياراتها.