"مصر مش زي تونس".. جملة سمعناها كثيرًا قبل قيام الثورة في مصر من أرباب النظام السابق، الذين ساقوا كل المبررات لتأييد فكرة الاختلاف الكامل بين ظروف البلدين، وصعوبة انتقال عدوى الثورة إلينا، واليوم.. وبعد أكثر من عشرة شهور على انتصار الثورتين، وجدت نفس العبارة تتكرر بالأمس مع بدء إعلان نتيجة انتخابات المجلس التأسيسي التونسي، ولكن هذه المرة سمعت الجملة يرددها مجموعة من أصدقائي الأعزاء من الليبراليين، الذين بدءوا في صياغة العديد من المبررات للتأكيد على أن نتيجة الانتخابات في مصر لن تكون كمثيلتها في تونس، ولن يتمكن الإخوان المسلمون هنا من تحقيق النصر، كما سبقهم في ذلك حزب النهضة التونسي. أول المؤشرات الانتخابية التي يجب رصدها، هي نسبة المشاركة في التصويت، التي بلغت قرابة 70%، وهي نسبة أعلى من المتوقع، وتعبر عن تشوق التونسيين لأول انتخابات حقيقية تشهدها البلاد في تاريخها، وهي نفس نسبة المشاركة المرتفعة التي شهدها الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مصر (40%)، علمًا بأن نظام القيد في الجداول الانتخابية بتونس يستلزم التسجيل المسبق، على عكس مصر التي يتم فيها حاليًا الإدراج التلقائي لكل من تجاوز عمره 18 عامًا. من المهم أن نفهم أيضًا الظروف التي تمت فيها الانتخابات، فقد ساهمت تلك الظروف في تحقيق حزب النهضة الإسلامي لمثل هذا الفوز الكبير؛ والذي فاق كل التوقعات، فقد جرت الانتخابات التونسية في ظل حالة عامة من الإحباط الشعبي، يصاحبه أمل كبير في تحسن أوضاع البلاد بعد الانتخابات، فالحال يتطابق تمامًا في مصر وتونس من ناحية وجود قطاع كبير من الشعب؛ كان يظن أن البلد ستتغير بشكل جذري بعد الثورة، وأن ذلك سيحدث خلال أيام معدودة، ولكنهم فوجئوا بمرور الأسابيع والشهور من دون أن يحدث ذلك التغيير السريع المنتظر، بل بالعكس.. فقد ظهرت عدة سلبيات لم تكن موجودة في عهد الأنظمة السابقة، فالمجتمع التونسي لم يعرف هذه الحالة من الانفلات الأمني الناتج عن غياب الشرطة، وضياع هيبتها، ويتناقل التونسيون الكثير من الحوادث والقصص، بعضها حقيقي، والبعض الآخر مبالغ فيه، ولكن المؤكد أن الإحصائيات لا تكذب عندما تتحدث عن زيادة عدد الموقوفين من العناصر الإجرامية، من 2644 مجرم في شهر أغسطس، إلى ما يزيد عن 5000 في شهر سبتمبر، بالإضافة إلى التدخل المستمر لقوات الجيش، بهدف فض الاشتباكات بين الأهالي في العديد من المدن التونسية، والتي عادة ما يستعمل فيها السلاح الناري والسيوف والسكاكين، وكان آخرها تلك المواجهات التي حدثت الشهر الماضي في مدينة "بنزرت"، بين قريتي "جرزونة" و"منزل عبد الرحمن" وسقط فيها العديد من الضحايا. الانفلات الأمني ليس هو السبب الوحيد لحالة الإحباط التي تسيطر على المجتمع التونسي، فهناك أيضًا التدهور الواضح في الجانب الاقتصادي، فعائدات السياحة تراجعت بنسبة تزيد عن 40%، والقاسم المشترك الذي يؤلم الجميع هو ارتفاع الأسعار، وضغط المعيشة، أينما تلتقي التونسي هذه الأيام، إلا وترافقه الشكوى الدائمة (الجيوب فارغة.. والطلبات مشطّة) كما يشتكي المواطن من غياب المواد الغذائية الأساسية، بالإضافة إلى الشوارع التي أصبحت تمتلئ بالفضلات والروائح الكريهة، وتردّي الخدمات البلدية في مختلف المدن التونسية، فضلاً عن حالة العشوائية الواضحة في سير المرور، وتحديدًا في تاكسي العاصمة. تصور التونسيون بعد الثورة أن بلادهم ستصبح جنة في خلال أيام، ولما وجدوا مثل هذه الأوضاع مع الحكومة المؤقتة الحالية، فقد اتجهت أنظارهم صوب حركة النهضة الإسلامية، التي فرضت نفسها على الواقع التونسي، من خلال برنامج سياسي واقتصادي، يمس مشكلات المواطن اليومية، ويقدم الحلول من منظور وطني، برنامج الحزب الذي يحمل شعار (تونس كما نراها) شارك في إعداده أكثر من 182 خبيرًا من داخل الحركة وخارجها، وتطلّب 150 يوم عمل، حتى تمخض عن برنامج ثري يتضمن 365 نقطة -بعدد أيام السنة- تعطي رؤية وتصور لكافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تقترح الحركة نظام برلماني بدل النظام الرئاسي الذي حكمت به البلاد منذ الاستقلال، كما قدمت برنامجًا تنمويًا متكاملاً للفترة من 2012 إلى 2016 يركز على الانتعاش الاقتصادي، وتقليص نسبة البطالة إلى 8.5%، وخلق فرص عمل لأكثر من نصف مليون شاب. الملفت في برنامج النهضة تميزه بالانفتاح على الجميع بامتياز، فهو برنامج كل فرد في تونس، ولذلك لم يكن مستغربًا أن يقوم الحزب بترشيح سيدة غير محجبة على رأس قوائمه في العاصمة تونس، وهي الدكتورة "سعاد عبد الرحيم" التي كانت محل تسليط الضوء خلال الحملة الانتخابية، لأنها أعلنت بوضوح أسباب انضمامها للنهضة، النابعة من قناعتها ببرنامج الحزب الذي يمنح المرأة الفرصة للمشاركة في العمل السياسي، مع حفاظه على الهوية العربية الإسلامية، "سعاد" التي كافحت في مجال العمل السياسي كنقابية في السنوات المبكرة من حياتها، دائمًا ما تؤكد أن الحزب مفتوح لجميع النساء التونسيات: ( أنا أؤمن بصدق حزب النهضة، وإلا لما وضعوا امرأة مثلي على رأس قائمتهم الانتخابية). دروس عديدة قدمها حزب النهضة في تونس لكل الحركات الإسلامية التي ترغب أن تغير الصورة النمطية المترسخة في أذهان البعض عن الإسلاميين، فبالرغم من الحرب الإعلامية الشرسة التي تعرض لها "النهضة"، وتقديمه على أنه حزب تمييزي وإقصائي، يرغب في تحويل تونس إلى دولة دينية رجعية، على غرار إيران وأفغانستان، إلا أن الحزب تمكن من تغيير تلك الصورة الذهنية، وقدم نفسه للمجتمع باعتباره بديلاً وطنيًا، وحزبًا لكل التونسيين بدون استثناء، وقد تمكن من إحداث التوازن المطلوب، وتحقيق المعادلة الصعبة، بين ترسيخ مقومات الهوية العربية الإسلامية، مع الانفتاح على العالم والحداثة فيه، وهو الدرس المهم لكل الحركات الإسلامية في عالمنا العربي: إذا رغبتم أن تنالوا ثقة شعوبكم.. فلتعيشوا مشكلاتهم اليومية، وعبروا بصدق عن جميع أطياف المجتمع، من دون استثناء. [email protected]