عندما اختار العقيد معمر القذافي الاختفاء والاحتماء في مسقط رأسه سرت، لم يكن يفعل ذلك في إطار المصالحة مع القبيلة التي لم تسلم بدورها من ظلم سلطته التي لم يكن يحدّها قانون أو عرف أو أخلاق، بل إنه فعل ذلك بهاجس إشعال عصبية عشائرية، تضع ما تبقى من فلول النظام المندحر في مواجهة قيم الدولة العصرية. كان في وسعه، قبل أن يشهد العالم نهاية النظام والرجل، أن يفيد من مخارج عدة، تؤمن رحيله، مثل أي ديكتاتور ينبذه شعبه. وكان في إمكانه وقد ردد كثيراً أنه بلا سلطة أو قرار، أن يترك للمكتوين بجبروته فرص تقرير مصيرهم، فيريح نفسه ويريح الآخرين. لكنه مثل أي رمز، لا يطيق الحكمة ولا يستسيغ النقد، تصور أن الوفاء يكون للأشخاص وليس المبادئ، وليس يهمّ إن كانوا انحرفوا عن جادة الطريق أو عبثوا بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم. يتجاوز الأمر مجرد سلوك هارب من العدالة ومن الضمير، نحو محاولة إحياء نموذج عصبية قبلية موغلة في الانحراف. ومنذ اندلاع ثورة السابع عشر من شباط (فبراير) هيمنت هذه النظرة على سلوكات العقيد القذافي الذي ظل يحتمي بنزعة تقسيمية، وزعت البلاد على مقاس ما كان يعتبره ولاء لنظامه. إنها لمفارقة فعلاً أن يكون الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بتجاربه الوحدوية الفاشلة، يتحول إلى أول من يتنكر للبعد الوحدوي داخل بلاده لمجرد أن الثورة اندلعت من أقصى الشرق في بنغازي وامتدت نحو الغرب والجنوب وكل الأجزاء. مصدر ذلك أن السلطة كانت تأسره، ولم يكن يهمه أن يبقى حاكماً في مربع يقاس ببضعة كيلومترات، حتى وإن تعرضت البلاد إلى أعلى درجات البلقنة والتجزئة، بقدر ما كان يلهث وراء الألقاب والاستشراء بنفوذ وزعه بين أفراد أسرته، وليس السلطات التي يحكمها الاختصاص والتوازن وسمو القانون. قبل انهيار نظامه، ألغى القذافي مفهوم وحدة الوطن، وسعى لأن يضع محله نوعاً جديداً من الطائفية غير الدينية، أي طائفية الولاء للنظام، وحين عجز عن ذلك استقدم من يحارب إلى جانبه من غير الليبيين، أي أنه لم يكن ينظر إلى شعب بلاده كأحد مقومات السيادة، وإنما كفئات يملي عليها شروط الولاء، وينزعها منها، إذ تتحرر من وصايته، ولا بأس في عرفه من استقدام «شعب» آخر لا يعرف غير سلطة العقيد وعائلته ومظاهر جنونه التي تفوق الخيال. لم يكن الأمر جديداً على صاحب «الكتاب الأخضر»، فالرجل الذي أوعز إلى الليبيين يوماً أن يصبغوا وجوههم بالسواد، كي يصبحوا أفارقة، وفق توصيفه للانتساب الأفريقي، كان في حقيقة الأمر يهرب من انتماء بلده العربي والإسلامي. وحين لم تسعفه شطحاته في إيجاد موقع داخل جامعة الدول العربية، ارتمى في أحضان الوهم الإفريقي، ك «ملك ملوك إفريقيا». غير أن بين التنكر للانتساب العربي ومقومات وحدة الدولة في حدودها الطبيعية، ووحدتها مع كيانات متجانسة، كان القذافي يجسد العصبية في أقصى تجلياتها، المرتبطة دائماً بالولاء للأشخاص واستخدام العنف، ورفض الحوار واستهواء القيم المنبوذة والمتجاوزة. مثله أيضاً، ينزع حكام آخرون إلى استخدام عصبيات دينية واجتماعية للاستقواء على شعوبهم، بخاصة حين يربطون الاستقرار بحكم الأفراد أو الطوائف، ما يشير إلى أن تجربة القذافي غير منفصلة عن تربة غياب الديموقراطية التي تسمح بظهور ممارسات وإشاعة أفكار، تلتقي عند التقليل من وعي الشعب وإحباط إرادته في التغيير. ليست القبيلة أو العشائرية مرادفاً للتعايش والتطور مع قوانين العصر. ومن الخطأ تصور قدرة أي نظام قبلي أو طائفي على الاستمرار خارج معادلة التناوب السلمي على السلطة والاستناد إلى القيم التي تضبط مجالات الحكم الرشيد، وربما كانت مشكلة بعض الحكام أنهم يسعون إلى إحياء نعرات اجتماعية لإبراز أن من دونهم لا يكون إلا الفوضى والفتن والاقتتال. هذه مفاهيم لصيقة بالاستبداد، والثورات العربية الراهنة موجهة أصلاً ضد الظلم والاستعباد، وليس ضد القبائل والعشائر ومكونات مجتمعاتها. بيد أن ما يتعين استخلاصه، أن رهان القذافي في الزمن الضائع بين نهاية النظام ونهاية الرجل، يجب أن يوضع في الخلف، فثمة جراح تتولد عنها أخرى، كما الحروب والأزمات، ولا سبيل أمام الثورة الليبية غير الانتقال السلس إلى محطة الدولة، إذ يسود القانون وتتعزز مفاهيم التعددية والحوار وعدم إلغاء الآخر، ذلك أن أهل سرت وغيرها من القبائل، هم ليبيون أولاً يحلمون بالغد الأفضل الذي يجمعهم تحت قبة الوئام والوفاق وديموقراطية إرادة الشعب المعبر عنها بحكم صناديق الاقتراع، حيث لا تمييز إلا في اختيار الأفكار والرجا نقلا عن الحياة