كثر الجدل والأخذ والرد كثيرًا بخصوص ثورات الربيع العربي، والحكم على مستقبلها ومآلاتها النهائيَّة، بين متشائم حدّ العدميَّة ومتفائل حالم حدّ الرومانسيَّة، وثالث واقعي في تقييمه ورؤيته، لهذه الثورات، وربما هم قليلون جدًّا هذا الصنف من المراقبين، ونادرًا ما يُلتفت إلى كلامهم، كتوصيف أقرب إلى الواقع. وباعتقادي أن كل الأحكام المسبقة، التي لا تستند إلى منطقٍ علمي أو واقعي، أو تاريخي حتى، لا مجال لها مطلقًا في حقل المعرفة الاستشرافيَّة التي يُتوخَّى منها الوقوف عند حدود الممكن والمؤمل، وفق تقييم علمي منهجي واقعي بعيدًا عن الأحلام والخيالات. وبالتالي فإن الحكم على مصير ومآلات ثورات الربيع، لا يمكن جزافًا الحكم عليها لمجرد حسّ شعوري يخالج هذا الكاتب أو ذاك، أو نظرة انطباعيَّة شخصيَّة، متفائلة أو متشائمة، لكثير من الأسباب والحقائق التي ينبغي أن لا يغفلها باحث أو محلِّل وهو في وارد تقييمه لما يحدث في عالمنا العربي من ثورات، أذهلت الجميع في الداخل والخارج، وأربكت استراتيجيَّات بحثيَّة حول المنطقة عكف عليها أصحابها لعقودٍ من الزمن. نمطيَّة ثورات الربيع العربي من عدمها، بحسب تلك المعايير الثلاثة، لدى مؤرخي الثورات، من برنامج ثوري متكامل، وعقيدة ثوريَّة، وقوة تنفيذيَّة، لا نستطيع الجزم باطّراد هذه المعايير الثلاثة كمسلمة علميَّة، من مكان إلى آخر، ومن أمَّة لأخرى، لكون أي ثورة هي نتاج بيئتها، وتخضع لثقافة هذه البيئة وظروفها، ومن ثَمَّ ليس من السهل الحكم هنا وفقًا لمعايير نسبيَّة واجتهاديَّة بحتة. وبالتالي تبقى لكل تجربة ثوريَّة خصوصياتها، التي يمكن تقييمها بحسبها، ومن ثَمَّ فما أشعل ثورات الربيع العربي لا شك كان نمطًا استبداديًّا بوليسيًّا في الحكم، خلق حاجز خوف كبيرًا في نفوس الناس، سلبهم حرياتهم وكراماتهم، كبر هذا الحاجز مع الأيام حتى وصل حدًّا لم تستطع هذه الشعوب تجاوزه. ولا شك أن ذلك الارتباك الغربي الواضح منذ البداية تجاه ما يجري، هو دليل آخر على أن ثمة شيئًا لم يكن بالحسبان فيما يتعلق بثورات العرب، مما يعني أيضًا أن هذه الثورات لم تكن فعلا احتجاجيًّا مجردًا من أيِّ مقدِّمات أخرى، كتحولات في طرق التفكير لدى هذا المواطن العربي، الذي ساهم إلى حدٍّ كبير بموروثه الاجتماعي والفقهي في تدجين الطغاة وأنظمتهم القمعيَّة طوال قرون من الزمن. فما يجري عربيًّا يمكن توصيفه بأنه ثورة ذهنيَّة شاملة، لم يكن المطلب السياسي إلا أحد أوجهها، ويكفي دليلا على ذلك أن هذه الاحتجاجات ما هي إلا النتيجة الأخيرة لتحولات فكريَّة في التصور والرؤى، هي من ولد هذا الزخم الشبابي السلمي الذي حطَّم حواجز الخوف مواجهًا لأعتى آلات القمع البوليسيَّة، متخطيًا كل أشكال التحيزات الاجتماعيَّة المذكاة سياسيًّا، من طائفيَّة أو مناطقيَّة أو فئويَّة، أو قبليَّة، وكلها أعدت لمواجهة مثل هذا اليوم غير المتوقع عربيًّا لدى هذه الأنظمة أو داعميها في الغرب. سلميَّة الثورة العربيَّة، وجماهيريَّة مطالبها وواحديتها، فضلا عن الاصطفاف الشعبي الوطني حولها، وانفراد الشباب بإشعالها منذ البداية، وهم الجيل الصاعد الصافي الذهن من ركام الأيديولوجيَّات والحساسيات الاجتماعيَّة والدينيَّة، كلها حقائق تقودنا إلى أن ثورة ما في التفكير هي من أحدث هذه الثورة بصيغتها السياسيَّة المطالبة بإسقاط الأنظمة الحاكمة، كمقدمة ضروريَّة، للإصلاح الوطني الشامل في هذه البلدان. لكل ما سبق أستطيع القول بأنه لا يزال مبكرًا الحكم على مصير ثورات الربيع العربي، فشلا أو نجاحًا، لأنها لا زالت أجنة مخبريَّة تحت المراقبة، صحيح أن الثورات يمكن استلهامها لكن استنساخ تجاربها من مكان إلى آخر غير وارد، فلكل ثورة بيئتها وظروفها الخاصة التي تحكمها وتتحكم بمسارها ومآلاتها المستقبليَّة. ما يمكن قولُه بخصوص ضمان نحاج هذه الثورات العربيَّة، فأعتقد أن الضمان الوحيد هو هذا الإجماع الشعبي والحراك السلمي المدني، الرافض للعنف والقوة كأداة للتغيير، ويكفي دليلا على هذا التحول المذهل ما يحصل في اليمن الذي رفضت قبائله السلاح لمواجهة سلاح الحاكم، مع أن العنف والسلاح والثأر هي ثقافة اليمنيين، التي فجأة رفضوها مفضلين أن تظلَّ ثورتهم سلميَّة حتى النهاية رغم كل ما واجهوه من قمعٍ وبطش وقتل وإحراق لمعتصمات بكاملها كما حصل في مدينة تعز، التي انطلقت منها هذه الثورة. إننا أمام مشهد عربي مختلف هذه المرة، أجمع فيه كل الناس على التغيير، حتى أصحاب التصورات العقائديَّة كبعض السلفيين وليس كلهم، وهم من أكثر الناس ولاءً للحكام، والذين ينطلقون في هذا الولاء وتجريم الثورة ضدّهم أي ضدّ الحكام، من تفسيرات عقائديَّة لديهم، تجرّم هذا الفعل وتعتبره أقرب إلى المعصية والإثم منه إلى أي شيء آخر، قطعًا ليس من ضمنها إصلاح أو ثورة أو تغيير. ختامًا يمكن القول بأنه لا يزال مبكرًا الحكم على مستقبل هذه الثورات، ويمكن القول للمتفائلين حد الرومانسيَّة: ينبغي أن ندرك حجم تعقيدات واقعنا السياسي، والاجتماعي وحجم موروثات الفساد الذي تركته هذه الأنظمة ليس فقط في أجهزة الدولة ودوائرها بل حتى ضمائر الناس وأخلاقهم، وأن التغيير هو عملية تدريجيَّة وتربويَّة مع المدى تثمر نتائجها، وليست عمليَّة فجائيَّة. وبالنسبة للمتشائمين نقول لهم: لم يحدث في تاريخ هذه الشعوب ما ترونه أمامكم من إجماع شعبي واسع، ووحدة وطنيَّة لم يسبقْ لها مثيل، ووعي سياسي يقض، كل هذا هو الضامن الكبير لنجاح هذه الثورات وإتيان ثمرتها المؤمَّلة في موعدها، ولن يكون لتشاؤمكم مكان في مستقبل هذه الأوطان التي حرَّرت نفسها وهي الضامن لاستمرار هذا التحرُّر. المصدر: الإسلام اليوم