لا يمكن لأي منصف يتأمل المشهد السياسي المصري الآن إلا أن يعترف بأن وهج الثورة أصابه تراجع ، وأن جاذبيتها أصبحت أقل كثيرا مما كانت عليه في أيامها الأولى ، رغم أنها ثورة انتصرت وحققت أهم وأكبر طموحاتها ، كسر النظام السابق وإسقاط مبارك وعائلته وعصابته ، والمليونيات التي يدعى إليها في الميدان طوال الأسابيع الماضية كانت مهينة للثورة ، لأن الاستجابة تقلصت من مليون واثنين وثلاثة إلى عشرة آلاف أو عشرين ألفا ، كثير منهم من القاصدين للميدان على سبيل الفرجة والفسحة والتسلية ، على طريقة الموالد الشعبية ، حين يحضر مسيحيون موالد أضرحة للمسلمين ويحضر مسلمون موالد أضرحة للمسيحيين . هل يجرؤ أحد "المناضلين" على الاعتراف الأمين بسبب هذه الظاهرة ، لماذا خسرت الثورة وهجها ، ولماذا تقلص التجاوب الشعبي مع فصائلها ، ولماذا تزايد الجدل عن أخلاقيات الثورة ومشروعها ، دعوني أطرح لكم الإجابة بشكل مباشر وبدون تكلف ، فالسبب يتلخص في أن فصيلا من أبناء الثورة قرر احتكار الحديث باسمها ، والتحرك باسمها والتصرف باسمها واتخاذ القرارات الخطيرة والحساسة باسمها والسب والشتم باسمها والقبول والرفض لأي شخص أو سياسة باسمها ، وعلى جميع فصائل الثورة الأخرى وشركائها أن يتبعوا هذا الفصيل في كل ذلك ويؤمنوا على كلامه ومواقفه وإلا كانوا خونة للثورة أو مخذلين لها ، وأسوأ من ذلك ، عندما يتورط هذا الفصيل في كارثة سياسية فإن المطلوب من بقية شركاء الثورة ، الذين تجاهلهم من قبل واعتبرهم غير موجودين ، أن ينصروه بالباطل وأن يدافعوا عن خطئه وشططه وكوارثه السياسية ، وفي أضعف الأحوال فإن عليهم الصمت تجاه ذلك وعدم انتقاده بأي وجه وبأي أسلوب . نجحت الثورة في البداية لأنها كانت ثورة شعب بكامله ، بجميع فصائله وتياراته الوطنية ، وحراكها وصمودها كان يتعزز بالتنسيق الكامل بين جميع فعالياتها ، يد واحدة ، وصوت واحد ، وسلوك واحد ، فنجحت وانتصرت والتف الناس حولها ، فلما غاب هذا الاجتماع ، وغاب التنسيق ، وتصورت بعض الفصائل أنهم اختطفوا الثورة وسجلوها باسمهم في الشهر العقاري ، بدأ تقلص نفوذها ، وغياب وهجها ، وانحسار الجاذبية عنها في الشرائح الشعبية المختلفة ، ثم بدأ الصدع يتسع بين قواها وفعالياتها ، حتى اضطر بعض فصائل الثورة من الإسلاميين إلى أن يعودوا إلى الميدان ، باسمهم هم ، وليس باسم أي أحد آخر ، في مليونية الجمعة المقبلة ، لكي يذكروا الجميع بأن الثورة ملك لشعب بكامله ، وليس لأحد التنظيمات أو بعض الفصائل ورجال الأعمال ، هذه هي المرة الأولى التي يفكر فيها الإسلاميون في تنظيم مليونية ثورية خاصة بهم ، وبكل تأكيد هم معذورون في ذلك ، ولهم كل الحق ، طالما أن الآخرين صادروا الثورة ، واستولوا على أختامها المعنوية ، فكان لا بد للآخرين من الحضور ليعلنوا رفضهم لهذه السرقة السياسية وذلك التزوير في الخريطة السياسية للثورة المصرية المباركة . لا يملك أحد أخلاقيا أن يطلب من التيار الإسلامي التنسيق مع غيره في تلك المليونية الجديدة ، لأن أحدا لم يكلف خاطره من قبل أن ينسق معهم في أي مظاهرة تمت في الأسابيع الماضية بالكامل ، باستثناء مليونية 8 يوليو ، التي نجحت لحضور الإسلاميين ، وأنا أؤيد تأييدا كاملا أن تتم هذه المليونية بإرادة منفصلة للتيار الإسلامي ، وأن يدعو هو كل قوى الشعب المصري للحضور والمشاركة في هذا "العرس" الثوري الجديد ، أما أن يتم التنسيق مع فصائل أخرى ، فذلك مشروط بقواعد جديدة ، تستعيد أخلاقيات ثورة يناير ، وأهمها أن يعلن "الآخرون" التزامهم العلني بالامتناع عن أي تصرف أو سلوك أو عمل منسوب إلى الثورة إلا بالتنسيق الكامل مع بقية شركاء الثورة ، والتنسيق لا يكون إلا مع الفصائل الحقيقية التي شاركت في الثورة وهي معروفة ومعدودة على أصابع اليدين ، أما الكيانات الوهمية والائتلافات المفتعلة التي توالدت كما الأرانب ، فكما يقول العامة ، العدد في الليمون ، ولم نكن نسمع أثناء الثورة سوى عن ائتلافين أو ثلاثة ، فمن أين أتى الخمسمائة ائتلاف وجبهة التي يتحدث عنها باستهبال شديد صحف غسيل الأموال وفضائياتهم لمجرد التهويش واصطناع حضور إعلامي خرافي كاذب . مليونية الجمعة المقبلة تصحيح للمسار ، وتنشيط للذاكرة الثورية ، ورسالة للجميع في الداخل والخارج بأن مصر أكبر من أن تختصر ثورتها في حزب أو فصيل أو جبهة ، مليونية الجمعة المقبلة هي عصا موسى التي تلقف إفك ودجل الحواة والشطار الذين يسحرون أعين الناس وأسماعهم بديدان صغيرة تافهة على أنها حيتان أو أفاعي كبيرة ، والمؤكد أن مليونية الإسلاميين ستحافظ على سلميتها ، كما كانت رسالة الثورة في مهدها ، ولن يكون من أهدافها أبدا إخراج أحد من ميدان التحرير ، لأن التظاهر والاعتصام حق ينبغي أن نحميه جميعا وندافع عنه ، وأولهم الإسلاميون ، وإنهاء الاعتصام لا يكون إلا بقناعة من المعتصمين ووعي بمخاطر استمراره الجزافي وآثاره السلبية ، ولكن الضروري أن يتفق الجميع على أن الاعتصام ، كاحتجاج سياسي رمزي ، لا ينبغي أن يكون على حساب الآخرين ، وأن لا يكون بإضرار عمدي لمصالح الناس وحقوقهم كمواطنين . [email protected]