انتهى اجتماع مجلس الشورى العام لحركة النهضة التونسية برئاسة الأستاذ راشد الغنوشي والخاص بإعلان موقف الحزب الرسمي من انتخابات الرئاسة ، إلى قرار بالامتناع عن تأييد أي مرشح رئاسي في الانتخابات المقبلة ، وترك الخيار لأعضاء الحزب لتأييد أي مرشح أو التصويت له ، القرار مفاجئ وغريب جدا ، ومثل صدمة لدوائر عدة ، وفي المعيار السياسي فإن مثل هذا الموقف ، في مثل هذه الظروف ، هو أسوأ من الانحياز إلى مرشح الثورة المضادة مباشرة ، الباجي السبسي ، لأن إعلان تأييده سيفهم على أنه "صفقة" سياسية ، في كل الأحوال ، رغم كل سوءاتها أو انتهازيتها إلا أنها ستفهم على أنها محاولة لحفظ "حصة" للحزب في التقسيمة السياسية المقبلة ، وأما الوقوف على الحياد في تلك اللحظة فإنه قد يفهم على أنه "جبن" سياسي ، وخيانة لتيار الثورة لا يتأسس على أي "منطق" يقبله شركاء الثورة ، لأنه أيا كانت التقديرات السياسية لتوابع الموقف ، فإن عدم إعلان تأييدك الصريح لمرشح الثورة المنصف المرزوقي هو إعلان "ضمني" لدعم موقف مرشح الثورة المضادة لأن الكتلة الأهم والأكثر تأثيرا لصالح المرزوقي هي كتلة النهضة ، وقديما قال الحكماء أن من يقف على الحياد في معركة حق وباطل ، ثورة وثورة مضادة ، لم يناصر الباطل صحيح ، ولكنه خذل الحق بكل تأكيد . لن يعلن حزب النهضة مبرراته للموقف الغريب والصادم الذي اتخذه ، لأن المتيقن أن أي تبريرات ستكون أكثر سوءا من الموقف نفسه ، هل سيقول أنه خشي أن يفوز السبسي في الانتخابات وقد وقفوا ضده فيدشن حملة حصار ومطاردة للنهضة ونفوذها ، هل كان "الجبن" السياسي هو الدافع وراء هذا الموقف ، هل يريدون إرسال رسالة بأن تيار الثورة انكسر وانحسر حضوره الجماهيري وأن معركته في انتخابات الرئاسة فاشلة أو غير مضمونة ، وبالتالي لا داعي للرهان على حصان فاشل ، هذه بطبيعة الحال انتهازية سياسية لا تليق بقوى تقود ثورة ما زالت تمور في هذا البلد العزيز ، فحتى لو كانت الفرصة أضعف فإن حرمان المنافس من الفوز بفارق مريح هو تأسيس لخريطة شرعية جديدة يفهمها العالم ويفهمها الشعب التونسي وقواه الحية ، فضلا عن أن خسارتك معركة خضتها بشرف وبسالة أفضل ألف مرة من أن تخذل شركاءك لمجرد خوفك من احتمال الفشل . بطبيعة الحال ، لن تحترم قواعد حركة النهضة مثل هذا "الحياد" الانسحابي ، وأنا على يقين من أن مئات الآلاف من أبناء الحزب سيدعمون المرزوقي بكل قوة ، لأن هذا مقتضى الشرف الثوري بداهة ، وفي الواقع العملي سيكون الحزب كجسد شعبي وليس كقادة وهياكل في قلب معسكر الرجل النبيل "المنصف المرزوقي" ، غير أن الموقف الرسمي المتردد والجبان للقيادة السياسية للحزب ستمثل طعنة وجدانية في نفوس شباب الحزب ، وأخشى أن تنتهي إلى صدع فيه يصعب احتواء آثاره ، أو ربما تتمخض عن انقسام سياسي يتولد من رحم الصدمة ويفرز لنا أحزابا جديدة كانت سابقا جزءا من النهضة . يقدم السياسي "المحنك" الباجي قائد السبسي رسائله "التخديرية" في حملته الانتخابية بأن حزبه لن ينفرد بالسلطة ، ولن يحكم وحده ، وأن الرئيس المقبل سيكون رئيسا لكل التونسيين بلا إقصاء ولا تمييز ، وكل ذلك دجل سياسي خبرناه وعرفناه ، والعاقل من اتعظ بغيره ، وبعد الاستحواذ على أدوات السلطة كاملة ، التشريعية والتنفيذية "الحكومة" والرئاسية ، سترى عينا غير العين ، وصوتا غير الصوت ، وأي حديث عن اتفاقات "بلها واشرب ميتها" ، فإنهم يبتلعون نصوص الدساتير ذاتها التي صدق عليها الشعب فهل تراهم يحترمون اتفاقات أو خرائط سياسية "عرفية" جديدة ، وعلى الجانب الآخر سيعمق مثل هذا الموقف من الهوة بين النهضة وبين قوى الثورة وأحزابها في تونس ، سيتعزز الشعور بأنهم أمام قوة لا يمكن الرهان عليها لنصرة الثورة ونضالها بشكل جذري وشفاف ، ولا يمكن أن تمضي معها في شراكة سياسية حقيقية ومخلصة لعدة أشهر وليس عدة سنوات . القرار الأخير جعل النهضة ضامنة الخسارة ، رسميا وشعبيا ، سواء فاز المرزوقي رغما عنها ، أو فاز السبسي مستفيدا من "جبنها" السياسي ، لكن الأهم والأخطر أن تونس نفسها ستكون الخاسر الأكبر في حالة فوز الثورة المضادة .