انطلقت خلال الفترة الماضية دعوات للمصالحة بين جماعة الإخوان والنظام الحاكم، وكان أبرزها وأكثرها وضوحا تلك التي طرحها محمد العمدة النائب السابق عن حزب الحرية والعدالة بعد خروجه من السجن مباشرة، غير أن مبادرته وغيرها من المبادرات التي تحمل أفكارا تستند على التعامل مع الأمر الواقع، تواجه برفض شديد، خاصة من جانب شباب جماعة الإخوان. في الوقت نفسه، لا يمكن تحميل الشباب الرافضين للمصالحة مسؤولية الوصول إلى طريق مسدود، لأن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق قادة طرفي الصراع الذين حددوا على مدار أكثر من عام مسارا وخيارا واحدا تمثل في اعتماد الإخوان على التظاهر كوسيلة لإسقاط النظام، وفي المقابل اعتماد السلطة الحاكمة على الحل الأمني للتعامل مع المتظاهرين والمعارضين، حتى وصل كلا الخيارين إلى مرحلة ضبابية لا يمكن لأي منهما مواصلة السير فيها لتحقيق أي نتيجة حقيقية على أرض الواقع. ففيما يتعلق بالسلطة الحاكمة، لا يمكنها بأي حال من الأحوال التغلب على حالة المعارضة المتزايدة بعد رفع الأسعار والانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي، دون التوصل إلى حل سياسي حقيقي بعيدا عن الحلول الأمنية، من أجل تهيئة المناخ لفرص الاستثمار خاصة في مجال الطاقة والنهوض بقطاع السياحة وغيره من القطاعات التي تحتاج إلى استثمار أجنبي كبير، كما لا يمكن أيضا للنظام الحاكم إبعاد كل المعارضين وتسليم مقدرات البلد إلى برلمان سيهيمن عليه أصحاب مصالح ورجال أعمال رفضوا سداد ضرائبهم، أو حتى التبرع لصندوق "تحيا مصر"، لأنه سيكون باختصار بالنسبة للسلطة مجرد استدعاء صريح لمزيد من الانهيار الاقتصادي للدولة، ومن ثم سينعكس على وضع النظام واستقراره. أما فيما يتعلق بجماعة الإخوان، فإن مواصلة التظاهرات لم يحقق الوصول إلى إزاحة السلطة الحاكمة أو إطلاق ثورة جديدة على غرار ثورة 25 يناير، حيث إن اتباع نفس الأسلوب المتمثل في التظاهر لن يكون أمرا مفاجئا للسلطات ولن يؤدي إلى انهيار السلطة الحاكمة مثلما حدث مع نظام مبارك، كما أن أي محاولة في هذا الاتجاه ستصطدم هذه المرة برهان لا يمكن التعويل عليه؛ وهو عدم تدخل الجيش للدفاع عن الرئيس؛ وبالتالي فإن أي تحرك حاشد للتظاهرات بهدف تحويلها إلى ثورة سيواجه بحلول أمنية عنيفة جدا، وسيكون الرد من جانب الإخوان إما الاستسلام أو التفكير في رفع السلاح، وهو خيار خطير إذا ما تم إصدار قرار من رأس الجماعة إلى أعداد من أنصارها قد تتجاوز تعداد الجيش والشرطة، ومن ثم ستتحول المواجهة إلى حرب عصابات يخرج منها الجميع خاسرا، كما حدث في سوريا. لكن إذا كان من الصعب تبني قادة الإخوان الخيار المسلح لإزاحة النظام، كما أنه من الصعب أيضا استمرار النظام في الاعتماد على الحلول الأمنية ومواصلة النزيف الاقتصادي، وتسليم البرلمان القادم إلى أصحاب المصالح، فإن خيار المصالحة يبدو في ظاهره أمرا حتميا لكلا الطرفين، ويبدو أيضاً وكأنه نتيجة طبيعية لفكرة الخيار الواحد الذي تبناه كلا الجانبين منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي عن الحكم. لكن رغم حتمية إنجاز المصالحة إلا أنها تبقى شكلا ومضمونا أبعد ما تكون عن تحقيق استقرار حقيقي أو تلبي رغبة قطاعات مختلفة من القوى الشبابية المعارضة للنظام، والتي ترى أن المصالحة لا يمكن اختزالها في الإخوان والنظام، وأن شكل الصراع الحقيقي يكمن في طرفي الأزمة من الجيل القديم الذي قاد البلاد إلى حالة الفوضى الراهنة، إلى جانب التضحية بالشباب طوال الفترة الماضية بسبب عدم تقدير تداعيات "الخيار الواحد" الذي تبناه كل طرف في هذا الجيل. وبالتالي فإن محاولة تصحيح هذه الأخطاء بالتفاوض بين صانعيها سيكون بالنسبة للكثير من جيل الشباب بمثابة "خيانة" لدماء الشباب الذين دفعوا حياتهم وحريتهم ثمنا في هذا الصراع، وهو ما يشير إلى أن المصالحة لن تكون فاعلة ولن تنهي حالة المعارضة الموجودة لدى قطاعات كبيرة في الشارع، ويتطلب إنجازها في هذه الحالة التفكير في مصالحة أشمل وأكبر من مجرد إطلاق سراح المعتقلين ووقف التحريض الإعلامي أو حتى تقاسم السلطة بين قادة أخطئوا التقديرات ثم عادوا ليجلسوا سوياً على مائدة في غرفة مغلقة. لذا لابد أن تكون المصالحة ضامنة لمناخ الحريات ومعبرة عن جيل الشباب من كل التيارات لإيجاد حلول حقيقية لمشاكل البلاد بعقلية جديدة وفكر مختلف عن هذا الجيل القديم. ومن هنا، لابد أن نتحدث عن مخرج سياسي يقوم في الأساس على انسحاب كل من تسبب في هذا المشهد المتأزم عن الساحة السياسية؛ وبمعنى أكثر وضوحا أن ينصرف هذا الجيل "صاحب الخيار الواحد" عن العمل السياسي لصالح جيل الشباب الأحق بقيادة بلاده بعد التضحيات التي قدمها خلال وبعد ثورة 25 يناير، مستندا على وطنية حقيقية قادرة على تجاوز أزمات الفساد والنهوض بالوطن، كما حدث في كل الدول التي شهدت ثورات مماثلة. وإلى جانب ذلك لابد أن يأخذ جيل الشباب تعهدات من كل طرف بإعطائه الفرصة كاملة لتولي المسؤولية والمنافسة على كل مقاعد البرلمان القادم ضمن ائتلافات تعبر عن جميع شرائح المجتمع، وصولا إلى تشكيل حكومة من خلال مجلس النواب الذي سيكون هو الحاكم الفعلي للبلاد وفقا للدستور المعدل الذي يعطيه هذه الصلاحية، وأن يقدم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي تعهدات بإجراء انتخابات نزيهة وألا يترشح لفترة مقبلة ، وأن يعتبر معارضوه فترة حكمه أشبه بمرحلة انتقالية – كما وصفها النائب السابق محمد العمدة -، ما دام الشباب يقودون الحكومة المنتخبة فعلياً. وتبرز أهمية هذا الحل في كونه يجنب جميع الأطراف الدخول في رهانين كلاهما مر، أولهما: تسليم الجميع القرار السياسي لسلطة واحدة، والثاني : جر البلاد إلى مواجهات جديدة كبديل وحيد لمقاومة النظام الحاكم. وبالتالي يمكن للشباب أن يعيدوا التفكير في فكرة مصالحة ترتكز على حس وطني قائم على عدم تكرار أخطاء هذا الجيل القديم الذي أوصل البلاد إلى صراع جعل تغيير النظام أو ثبات أركانه لا يتم إلا عن طريق الشارع، أو بالرهان على الجيش، ومن ثم يبقى الحديث عن مصالحة بمعناها الأشمل فرصة حقيقية لتغيير هذه المعادلة الصفرية وإجراء تغييرات جذرية في صنع القرار داخل أروقة البرلمان، وهي تجربة لاقت نجاحا في العديد من الدول التي شهدت أوضاعا مماثلة للحالة المصرية. وفي ضوء هذا الخيار، يلوح في الأفق سؤال حول مدى قبول الجيل القديم لفكرة إعطاء جيل الشباب هذه الفرصة، لكن الإجابة تبدو واضحة في كون هذا الجيل القديم من كل التيارات أثبت عدم قدرته على تقديم حلول تجنب البلاد الدخول في حالة المواجهة الحالية، كما أن جميعهم لم يعد يحظى بحالة ترحيب تمكنه من تصدر المشهد، فضلا عن أن مثل هذه الخطوة ستكون بالنسبة للنظام بمثابة فرصة لترك الأعباء والمشاكل الاقتصادية التي تأكل من شعبيته وتنذر بحالة فوضى لاحقاً إذا استمرت كما هي، كما أنها ستكون بالنسبة لجماعة الإخوان بمثابة فرصة لإعادة ترتيب أوراقها على الأصعدة السياسية والإعلامية والشعبية. ومن هنا، لابد أن يدرك الشباب أن هذا التوقيت هو الأنسب لكي يطفوا على سطح الأحداث السياسية بقوة وفاعلية من خلال تحالفات تذوب فيها الانتماءات والإيدولوجيات، وتستغل طاقة الشباب الثائر في إيجاد مشروع سياسي حقيقي قادر على تغيير الواقع وتصحيح مسار ثورة 25 يناير بعيدا عن أية استقطابات تفرق روح الثورة، في وقت بدأت شرائح جديدة من الشعب تستشعر أهمية ما كانت تنادي به القوى الشبابية في الثورة من عيش وحرية وعدالة اجتماعية، وبالتالي فإن الأجواء مهيئة لدى جيل الشباب للتكاتف للحصول على ثقة بعضهم البعض، ولجذب أعداد كبيرة من المقاطعين للعملية الانتخابية على مدار الفترة الماضية. كما تبرز الفائدة الأهم لاتحاد الشباب ودخولهم العملية السياسية في كونها أول خطوة حقيقية ستربك المراهنين على استمرار "الخيار الواحد" الذي تم استخدامه كذريعة منشودة من جانب طرف آخر أراد اللعب بالجميع لكي يحافظ على مصالحه؛ وبالتالي فإن مجرد الحديث المبدئي عن مصالحة لابد وأن يوضع في إطار يقلب كل الموازين والحسابات ويجعلها "مصالحة حقيقية" بدلا من مواصلة نزيف الوقت والجهد في مهاجمة أصحاب المبادرات أو السير مجددا بحسابات الجيل القديم.
· للتواصل عبر "الفيس بوك" : https://www.facebook.com/atef.elhemaly